إذا كان الطرق على الزجاج يهشمه، فإنه يزيد الحديد قوة وصلابة، هذا صحيح فى عالم المعادن وفى دنيا الشعوب، تعيش المنطقة العربية الآن واقعا مروعا، تتمزق دول تحت معاول الفوضى الأمريكية والإرهاب باسم الدين - كلاهما من نبع واحد - تصير جحيما من الحروب الأهلية والصراعات الطائفية، بينما تزداد مصر صلابة وبأسا أمام نيران الأخطار بالخارج والداخل، وتلك لحظة مؤلمة ومبهجة، مريرة وسائغة، فى آن معا، تفرض علينا محاولة الاقتراب من أسرارها ومآلاتها، فى ضوء التحديات الهائلة المتصاعدة. بصيغة أخرى، لماذا نجح الإرهاب فى تدمير العراق وسوريا وليبيا.. بينما فشل فى مصر، وازداد أهلها تمسكا بوحدتهم وترابهم الوطنى فى ساعة العسرة؟ الإجابة القاطعة المانعة ليست يسيرة.. لكن الواضح أن المصريين أرادوا بعزم وحزم أن يغلقوا كل ثغرة، يمكن أن تتسلل منها رياح الاستدراج ومغريات الزلل، فعندما فجرت سكاكين «داعش» -صنيعة واشنطن وقطر وتركيا، فى ليبيا- ينابيع الحزن الملتهب فى نفوسهم، حلق الغضب العارم على أجنحة سلاح الجو، ليدك بؤر التطرف والإجرام، ويعيد ثقة المصريين بقدرتهم على إظهار «العين الحمرا» للأعداء من كل صوب. ومن قبل ومن بعد، هب الشعب صفا واحدا يستنقذ بلده وهويته من براثن المتغيرات المسعورة، معتصما بوحدة سبيكته الوطنية، وتلك هى الشفرة التى تفتح بها «القاهرة» أبواب القوة، كلما طوقتها المحن. كلمة السر هى تماسك النسيج المصرى، وهو نسيج فذ، خيوط كثيرة وقماشة واحدة، قديمة لكنها عفية متجددة.. خصوصية الكنانة فى محيطها، تتولد من ذاكرة واعية، تحكم مسار الحركة فى دروب التاريخ وردهات الجغرافيا، وهذا يعيدنا إلى نقطة بالغة الأهمية، وهى أن العلاقة بين أتباع الإسلام والمسيحية بمصر، علاقة لامثيل لها فى العالم، منذ دخول الإسلام، إلى هذه الأيام، حيث استقبلته الكنيسة المصرية بالترحاب، ولعبت دورا إيجابيا فى انتصار الفتح الإسلامى على الرومان. يجمع المؤرخون على أن الاحتلال الرومانى كان هو «العدو» بالنسبة للأقباط، وكانت معركة العرب المسلمين مع هذا العدو، إذ ظلت مصر القبطية مضطهدة ستة قرون تحت النير الرومانى، حين كانت روما وثنية وحين تنصرت، اتخذ المسيحيون المصريون من عام الشهداء الذى قتل فيه دقلد يانوس مئات الألوف بداية للتقويم القبطى، وهو تقويم الفلاح المصرى، مسيحى أو مسلم إلى اليوم. وعندما تحولت روما إلى المسيحية، رفض الأقباط احتلالها باسم الدين، فاختاروا المذهب الأرثوذكسى، بالمخالفة لمذهب روما ووقفوا فى وجه بيزنطة «المسيحية»، ولم تجف بحور الدم إلا بدخول الإسلام مصر، بمساعدة القوم وتحريرا لهم من الرومان، وبعهود الأمان التى منحها عمرو بن العاص وتابعوه، وإعادته الأنبا بنيامين بطريرك الإسكندرية للكرسى البابوى، بعد أن ظل هاربا من الاضطهاد الرومانى، لتتشكل «الجماعة المصرية» نموذجا فى تماسك لحمتها عبر الزمان، وولدت المواثيق التى ربطت بين مصر والإسلام، بوسطيته واعتداله، على نحو بعيد كل البعد عن قهر الضمائر وانكسارات الروح، وأصبح ما يضير مصر يؤلم أهلها جميعا مسلمين أو مسيحيين، وما يسعدها يسعدهم جميعا دون تمييز، لاسيما أن مسيحيى مصر حازوا مكانة خاصة فى ضمير الإسلام، وأوصى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم خيرا.. وقد أثبتت اللحظات الفاصلة طيلة 14 قرنا من الزمان أن مصر شعب واحد ودينان، فالمسيحية والإسلام يجريان فى دماء الوطن، مثلما يجرى النيل فى أراضيه. إنها صفحة مضيئة، جعلت وحدة شعب مصر عصية على الاختراق، قادرة على البقاء والازدهار بوجه الشدائد، وما أكثرها. وغياب هذه الصفحة أو احتجابها عن الوعى العام يعد من تجليات ضعف الذاكرة الجمعية أحيانا. فالمصريون لايكرهون الأجنبى، لكنهم يكافحون الاحتلال و«الخونة» حتى الموت، متدينون دون تعصب، لايهادنون الطغاة، ولايعرفون الحروب الأهلية، شعب قد يعانى الفقر والأمية لكنه مثقف بأعمق ذخائر الحكمة، إن استحضار الذاكرة المؤسسة للروح الوطنية فى الفضاء العام، يحتاج إلى استراتيجية شاملة، تقطع الطريق على دعاة التخريب وصناع المؤامرة. لماذا؟ لأن مسدس الإرهاب ليس محشوا بالرصاص المتفجر فقط، إنما هو محشو أولا بذاكرة وهوية وصورة للعالم، تجعل الإرهابى وحشا، يفصل الرءوس عن الأجساد ويدمر الأوطان ويحطم الحضارات، فى اتجاه معاكس لتعاليم الدين ودواعى الضمير والأخلاق، ذاكرة مثقوبة وهوية مشوشة وصورة مشوهة، صاغتها فجوات خطيرة فى العقل العربى والمصرى، عجز معها عن رؤية الأشياء على حقيقتها، ووقع أسيرا لأوهام الآخرين وأغراضهم الدنيئة، فمن منا يصدق أن تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» هو بالأساس «ابن غير شرعى» للغرب الذى يتدثر بالمسيحية، برعاية وكلاء إقليميين يدعون الذود عن الإسلام، يبتغون الفتن والقتل زورا - «باسم الله»، ويدفعون الشعوب قدما إلى «سن اليأس» والانتحار. لقد هامت مصر عشقا بفكرة الدين، قبل أن تتنزل كلمة السماء بزمان، لكن الدين فى مستودع قلوب البشر يظل عرضة لنوازع الأهواء وتقلبات الأزمان، لاسيما عندما تهب عليه رياح السياسة المسمومة «أحيانا» ويتلاعب به تجار الخراب الإرهابيون، وهذا ما يفهمه المصريون، مسيحيين ومسلمين، وهم يقفون - يدا بيد - سدا منيعا، أمام «طرقات» الفتنة وضربات الإرهاب. [email protected] لمزيد من مقالات محمد حسين أبوالحسن