كان أستاذى حسن سليمان مولعا بتكرار عبارة » نقطة ومن أول السطر«، وكان يعنى كما فهمت منه، أهمية أن نضع حدا ما، كى لا تواصل الجمل المنتهية تمددها، وهذا لايعنى البداية من لاشىء، الناجحون يصرون غالبا على أنهم قد بدأوا من الصفر، كى يمنحوا سيرتهم طابعا بطوليا ، فهل لابد أن نبدأ دائما من الصفر كما عودتنا قصص العصاميين ؟ هناك من يملك رأيا آخر،« سأبدأ من ثلاثة »، فيلم الإيطالى الرائع ماسيمو ترويزى ، يرفض الفكرة جذريا . فبطله واقف على قدميه وهذا واحد مؤكد، ويرغب فى تغيير مصيره وهذا هو اثنان، ولذا فهو يبدأ فى الواقع من ثلاثة، الذين شاهدوا فيلم ساعى البريد، سيتذكرون وجه بطلنا بلا جدال، البوسطجى الذى قادته المصادفات لأن يحمل الخطابات الى الشاعر الكبير بابلوا نيرودا فى سنوات منفاه بجزيرة صغيرة قرب نابولى، فتحول الى صديق حميم له، وكان نيرودا يحدثه كثيرا عن المجاز، كما ساعده فى الوصول بالكلمات الى قلب الفتاة الجميلة التى فشل فى التعبير عن حبه لها، وعندما رحل الجنرالات رجع نيرودا الى وطنه تشيلى ،وقرر بعد أن حاز جائزة نوبل للأداب سنة 1971 العودة الى إيطاليا، وذهب الى القرية الصغيرة ليرى صديقه البوسطجى مجددا ، فعلم أنه قد مات ولكن بعد أن أصبح بدوره شاعرا، وعثرعلى مجازه الخاص للحياة. هل نبدأ من الصفر مجددا، بعد كل ما جرى؟ لقد قطعنا فى 25 يناير نعاسنا الطويل ،واجهنا بشجاعة ودفعنا الثمن فى صدام شرس مع نظامين وهذا واحد صحيح ، ثم تولدت لدينا رغبة كبيرة فى أن نبنى واقعا جديدا، وقطعنا بصعوبة خطوات جادة ،وهذا هو اثنان بلا جدال ، ويبقى السؤال ما هى الخطوة التى يمكن أن نطلق عليها الآن بضمير مرتاح ثلاثة . الخطوة الثالثة،التى أعتقد أنها المحك الحقيقى لتجربتنا، هى بناء الثقة بين أجهزة الدولة والمجتمع، أى بناءعلاقة جديدة بين النظام والشعب،هذا الانصهارالايجابى لطاقتين فاعلتين، تحقق نسبيا فى السنوات الأولى للناصرية عندما التفت الجماهير حول التجربة ،وفى سنوات الإعداد للعبورالكبير، التى تضافرت فيها بكامل الإخلاص كل الطاقات المصرية، وهما مثالان نادران فى ذاكرتنا المصرية . تتطلب هذه الخطوة من الشعب المصرى بعد أن أظهر تأييدا واضحا للدستور الجديد ولشخص السيسى الذى فوضه ثم انتخبه رئيسا ورقص فرحا بذلك، أن يقاوم ميله التاريخى للفوضى والحلول الفردية وللتواطؤ مع الفساد، وأن يخرج من ثقافة التحايل الدائم وان يستعيد تلك الروح الإيجابية، التى مكنته، من أن ينظم حركة الملايين ويؤمنها بشكل مدهش، ويكنس الشوارع ويدهن الكبارى ،وينظم المرور، ويجمع القمامة ، أيام التحرير، ولا ننسى أن من بيننا وفى نفس اللحظة، من انتهز الفرصة للتعدى على الأرض ولنهب الآثار، وللتهريب والسرقة وفرض الاتاوات ، أدرك أن عودة هذه الروح أصبح مطلبا صعبا ، بعد أن عادت المخاوف ،وانفرط الجمع ، ولكن ليس أمامنا إلا أن نقاوم الرجوع الى ما كرهناه فى انفسنا،وكأننا تناسينا مسئولية المواطنة التى كنا نهتف بحماس لنيل حقوقها كاملة. ومن الجهة المقابلة، أعتقد أن الوقت قد حان لتتخلى أجهزة الدولة بالفعل لا القول وحده عن نظرتها القديمة للشعب، وهذا يعنى وقف عمليات الاستعلاء على البشر بالقوة، ووقف حملات شخصنة النظام، كما يعنى التخلص من الترهل والفساد والفشل المزمن الضارب فى كافة المؤسسات، بناء الثقة هو ما نحتاجه، كى نواجه معا مشاكلنا الكبرى، مهما كانت صادمة،بدلا من الالتفاف عليها بالكلمات. لا شعارات ولا حشد ولا تعبئة وانما بناء جسور لتفاعل حقيقى وهذا يعنى تغييرا جذريا فى ثقافة الدولة، وفى اللغة التى تستخدمها، نريد دولة لا تكذب ولا تسرف فى إطلاق الوعود، ولا تخفى الحقائق، ولا تسقط القرارات الجسام تباعا فوق رءوسنا، فمع كامل احترامنا للدولة بأركانها وحكوماتها ورجالها، فلابد لها أن تعى بأنها ليست الجهة الوحيدة التى تعرف مصلحة مصر وشعبها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمسائل مصيرية، فتجارب الوحدة مع سوريا ومع العراق ومع السودان وليبيا وحرب اليمن وحرب67، وكامب ديفيد،وبيع الغاز لإسرائيل،كلها قرارات اتخذتها الدولة وحدها تقريبا،او بتأييد من برلمانات هزلية من صنعها،أوبحشد مسيرات مبايعة وحملات تعبئة تساق بمعرفتها . الحكومات والانظمة قد ترحل وتلم أوراقها فى أى لحظة، لكن من يدفع مردود رهاناتها الخاطئة هو شعب باجياله الكاملة، والآن وهذا هو الغريب، يتم التعامل مع امور تخص عمق حياتنا بنفس الطريقة القديمة، ولا نعرف لماذا، فأختيارات بالغة الخطورة، مثل بناء مفاعلات نووية فوق أرضنا، لا يمكن تركها لحكومة ما لتقررها ولا حتى للبرلمان وحده، وانما يجب أن تصبح اختيارات مجتمعية، يتم حسمها عبر آلية معتمدة، وهى الاستفتاء، بعد إتاحة الفرصة بالعدل أمام الخبراء والعارفين موافقين ورافضين ، لتوصيل وجهة نظرهم بحرية كاملة الى الناس، وعندها فقط يصبح الإختيار مسئولية مشتركة، ونتحمل جميعا تبعات ما اخترناه . بناء الثقة هوالخطوة الثالثة والفاصلة وإذا نجحنا فى قطعها، فلن نصبح بعدها رهينة لأحد لا من خارج حدودنا ولا من بيننا، أدرك مدى صعوبة المطلب ،لأنه يعنى تبديل قناعات وسلوكيات متوارثة لعقود طوال، يعنى تغيير ثقافة نظام وسلوك جماعة، وأجهزة الدولة هى الجهة التى نطالبها بالمبادرة، فممارساتها على المحك، ولابد من أن تظهر لنا بعض الكرامات ، ولو مقدمات واضحة للتغيير فى عقيدتها، نطالب الدولة بهذا من منطلق المسئولية وعمق الأثر ، فمصر بتاريخها وجسدها المثقل مازالت مع الاسف ، تتشكل وفقا للاختيارات وللممارسات والقيم التى تجسدها الأنظمة بنفس الخيال القديم . لمزيد من مقالات عادل السيوى