لا يتوقف ميراث الراحل خيرى عبد الجواد عند أعماله الإبداعية الممثلة فى رواياته ومجموعاته القصصية، لكن هناك إرثاً آخر تركه, يتعلق بمقالاته ودراساته التى كتبها حول السير والقصص الشعبى، وفى إطار خطوتها المميزة بإصدار أعماله الكاملة، خصصت الهيئة المصرية العامة للكتاب الجزء الثالث من الأعمال الكاملة للراحل خيرى عبد الجواد لنشر مقالاته ودراساته فى السيرة والقصص الشعبى. ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام رئيسية وهى: "نزهة المشتاق فى حدائق الأوراق" و"هوامش وتعليقات حول نزهة المشتاق إلى فضائل بولاق" و"مقدمات ودراسات فى السيرة الشعبية" و"مقدمات ودراسات فى القصص الشعبى"، وهكذا فإن الجزأين الثالث والرابع يختصان بالدراسات الشعبية وهو ما سنعرض له فى السطور التالية. مقدمات ودراسات فى السيرة الشعبية يبدأ بدراسة عن "سيرة على الزيبق", فيشير إلى أنها تتعلق بحياة القاهرة فى العصر المملوكى، وتدور أحداثها فى حوارى وأزقة القاهرة، وتنقل لنا صورا من حياة الناس فيها وظروف المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مشيرا إلى أن مؤلفها "المجهول" استطاع أن يصنع نقدا روائيا للفساد الذى استشرى فى أجهزة الحكم فى عصره. وترسم الأحداث أصحاب السلطة كمجموعة من اللصوص وقطاع الطرق الذين وصلوا للسلطة عن طريق الغش والخداع والتفوق فى السرقة والبطش. ويلفت المؤلف إلى الدراسة التى كتبها فاروق خورشيد لسيرة على الزيبق، حيث يُرجح خورشيد أن تكون هذه السيرة تالية لسيرة الظاهر بيبرس, إذ تنتهى الأحداث الحقيقية لسيرة الظاهر يببرس بوفاة الناصر ابن قلاوون، بينما نشهد فى نهاية سيرة على الزيبق اسم الناصر إشارة إلى عزيز مصر فى ذلك الوقت. ومن ملاحظات خيرى عبد الجواد أنه وجد فى نص سيرة على الزيبق ركاكة فى الأسلوب لم يجدها فى السير الأخرى، وأيضا أنها كُتبت بالعامية المصرية المتداولة فى ذلك الوقت مما أدخل فيها الكثير من المصطلحات التركية، بالإضافة إلى أن النص لا يتمتع بقدر كبير من الخيال الجامح الذى يوجد فى السير الأخرى. ثم يخصص عبد الجواد جزءا من دراسته لإثبات صحة طرح د. سهير القلماوى أن السير الشعبية سابقة على ألف ليلة وليلة، وأن بعض أجزاء من السير الشعبية قد دخلت على نص الليالى بصياغة أخرى. ثم ينتقل الكاتب ل"سيرة أبى على بن سينا وشقيقه أبى الحارث", فيتحدث عن سيرة "ابن سينا" ومؤلفاته، ثم ينتقل للحديث عن "ابن سينا البطل الشعبى" وكيف أن ابن سينا يُعد بطلا حسب مفهوم الجماعة الشعبية للبطولة، والتى كانت قاصرة من قبل على أبطال السيف والغزوات، لكن حياة ابن سينا العلمية وذيوع صيته فى المحيط العربى وفى أوربا فى عصورها الأولى أهّله لأن يُصبح بطلا شعبيا، مشيرا إلى أن تحول عالم عربى إلى بطل شعبى يُعد سابقة لم تحدث لغيره. ويلخص أحداث سيرة "أبى على بن سينا وشقيقه أبى الحارث" فيبرز سماتها الشعبية وما حدث من بطليها من نوادر وعجائب. مقدمات ودراسات فى القصص الشعبى وفيه يتحدث خيرى عبد الجواد عن مجموعة من النصوص المطبوعة فى طبعات شعبية،وهى نصوص كانت فى الأصل شفهية وتُنشَد فى الموالد والمناسبات الدينية المختلفة، ثم استقرت وطُبعت بنفس طريقة نطقها شفهيا. وقدّم لهذا القسم بدراسة تحت عنوان "ديوان القصص الشعبى" تحدث فيه عن منهج دارسة النصوص الشعبية، وتأثير التكنولوجيا الحديثة على القص الشعبى بصورته التقليدية، حيث بدأ هذا التأثير بالإذاعة التى قضت على الراوى الشعبى الذى كانت إذاعة متنقلة، يجوب القرى والنجوع والكفور حاملا ربابته ومنشدا السير الشعبية الكبرى. وأوضح الكاتب أن هناك نوعا من القصص الشعبى الصغير, وهو أكثر بساطة من السير الشعبية الكبرى رغم تأثره بها على المستوى الشكلى. فإذا كانت السير الكبرى تروى حياة الأبطال مثل الظاهر بيبرس وسيف بن ذى يزن والأميرة ذات الهمة والهلالية وعنترة، فإن القصص الشعبى الدينى يروى حياة الصحابة والأوياء وآل البيت. وهى ترتكز على اللحظات الفارقة فى حياتهم والتى تمثل "المعجزات". كذلك فإن هناك قصصا يستمد مادته الأساسية من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويأتى الراوى الشعبى ليبنى على هذا الأحاديث أحداثا ووقائع لا تكون قد وقعت بالفعل، لكنه يحاول إيهام السامع بوقوعها, لا لشئ إلا لتصوره أنها تخدم غرضه الأساسى، وهو الخروج من قصته بموعظة ما. وقد كان للاحتفالات والموالد الشعبية التى تقام بالقرب من الأضرحة أثر كبير فى إحياء وازدهار هذا اللون من القصص الشعبى. ويشير الكاتب إلى أن معظم القصص الشعبى الدينى يتمحور حول آل البيت: السدة زينب والسيدة نفيسة والحسين بن على، ويرجح أن تكون معظم هذه النصوص قد كتبت فى الفترة التى أسس فيها الفاطميون دولتهم فى مصر وانتشار المذهب الشيعى، لكنه يستدرك أنه على الرغم من أن هذه الفرضية ربما تكون صحيحة، فإنها تحتاج لدراسات أعمق. ويقسم المؤلف القصص الدينى "القرآنى" إلى أربعة أنواع: القصص الأنبيائى، القصص التاريخى، قصص المجال الغيبى (الغيبيات)، القصص الرمزى، مشيرا إلى أن المفسرين والقاصين والوعاظ قد أخذوا الإشارات التى وردت فى القرآن ثم استكملوا وحداتهم السردية من خارج القرآن ليصنعوا ذلك الموروث القصصى الهائل الذى كا شفويا فى معظمه. ويتناول عبد الجواد ثلاثة من أشهر القصص الشعبية الدينية، فى محاولة لتقصى بعض أشكال ومضامين وتقنيات هذا اللون من القصص الشعبى، والقصص الثلاث هى: قصة أيوب لما ابتلى، وقصة سارة والخليل، وقصة الجمل والغزالة. وتحت عنوان "مغازى الإمام على" يُختتم الكتاب بدراسة حول القصص الشعبى التى تتحدث عن مناقب على بن أبى طالب رضى الله عنه، فيبدأ بالتعريف به، ثم يتحدث عن "الخوارق والمعجزات من مغازى على", لافتا إلى تدخل العقلية الشعبية فى صنع الخوارق فى هذه القصص، ولجوء الراوى الشعبى إلى الحيل الغريبة وغير المألوفة حين يعجز عن الخروج من المأزق الذى وضع فيه بطله، مثلما نقرأ فى الكثير من المغازى عن الخاتم المسحور الذى يضعه البطل فى إصبعه فلا يمكن أن يضره شئ.