بقيت ايام قليلة وتشهد مدينة شرم الشيخ مؤتمر مصر الاقتصادى الذى يمهد لمرحلة جديدة فى ظل واقع اقتصادى جديد نرجو ان يستفيد من دروس الماضى وتجاربنا السابقة ان قضية الاستثمار فى مصر واحدة من اقدم القضايا فى تاريخ الاقتصاد المصرى خاصة مع بداية إطلاق شعار سياسة الانفتاح الاقتصادى مع بداية السبعينيات وصدور اول قانون لتشجيع الاستثمار الأجنبى فى مصر.. ويومها صدر القانون الجديد ومعه احلام كثيرة بتطور اقتصادى حقيقى وتنمية تشمل كل جوانب الحياة المصرية .. فى هذا التوقيت برزت اسماء كثيرة فى مسيرة الإقتصاد المصرى وبدأت مصر تستعد لمستقبل جديد يفتح افاقا واسعة للتنمية الاقتصادية بكل جوانبها .. كان القطاع العام يعيش مرحلة صعبة امام كساد انتاجه وعدم توافر العملة الصعبة اللازمة للتطوير والتحديث وكان مزدحما ومكدسا بأعداد كبيرة من العاملين فيه وكانت مصانع كثيرة قد وصلت الى حالة من الترهل امام الإهمال وعدم التجديد .. كان الأمل فى ذلك الوقت ان تفتح مصر ابوابها للاستثمار الأجنبى ممثلا فى نوعيات متطورة من الإنتاج الصناعى والسلع والخدمات بعد فترة طالت من الانغلاق وكنا نتصور ان الأموال القادمة سوف تأتى بمصانع جديدة متطورة لتحديث الصناعة المصرية .. كان الأمل اقتصادا حديثا يمهد لطفرة اقتصادية حقيقية ولكن للأسف الشديد فقد ضاعت احلام التطوير والتحديث فى دوامة البيروقراطية المصرية العريقة.. لقد جاءت رؤوس الأموال الأجنبية ولكنها اختارت مجالات وقطاعات غير ما حلم به المصريون واتجهت معظم الأنشطة الاقتصادية الى قطاعات التوكيلات التجارية لترويج انتاج الشركات الأجنبية وتم التوسع فى عمليات الاستيراد وشاهد المصريون لأول مرة فى الأسواق السجائر المستوردة والسلع الأجنبية ابتداء بالمواد الغذائية وانتهاء بالسيارات الفارهة واتسعت دائرة الاستيراد حتى شملت مئات السلع التى لم تكن يوما تدور فى خاطر المصريين .. لجأ معظم رجال الأعمال المصريين الى انشطة اقتصادية لا تتجاوز حدود اعمال السمسرة وتجارة العملة وبدأت الاستثمارات الأجنبية والمصرية تتجه الى انشطة سياحية فى فتح مكاتب للسياحة او شركات الطيران او بيع تذاكر الحج والعمرة .. وكانت تجارة العملة فى السوق السوداء قد بدأت مرحلة جديدة مع فتح ابواب الاستيراد السلعى ووجود اكثر من سعر للعملة ما بين البنوك والسوق الموازى . لم يتجه النشاط الاقتصادى الى المشروعات الإنتاجية فى ذلك الوقت وبقى فى دائرة محدودة فلم يفتح ابوابا لإنتاج صناعى متطور او استخدام للأساليب الحديثة فى الإنتاج الزراعى وانحصرت كل الأنشطة الاقتصادية فى اعمال تحقق العائد السريع هنا يمكن ان يقال ان الانفتاح الاقتصادى لم يحقق احلام المصريين وان فتح الأبواب امام طبقة جديدة من المستفيدين الذين استولوا على جزء من انشطة القطاع العام فى التوكيلات التجارية او الإستيراد او شراء وبيع العملات الصعبة . لم يتردد عدد كبير من رموز القطاع العام فى ترك مواقعهم ووظائفهم فى الحكومة والاتجاه الى إنشاء مكاتب تجارية تمارس اعمال السمسرة والاستيراد والتواصل مع الشركات الأجنبية التى تسعى الى توزيع انتاجها فى مصر وان اتجهت جميعها الى صناعات استهلاكية . فى هذا الوقت ايضا بدأت لعبة تجارة الأراضى والعقارات فى مصر وبدأ لأول مرة على نطاق واسع بناء مشروعات التمليك التى بدأت بالشقق والعمارات وتطورت بعد ذلك لتشمل الأبراج وناطحات السحاب والمنتجعات وقد اتسعت هذه الأنشطة بعد ذلك بصورة رهيبة حتى اصبحت من اهم موارد الإقتصاد المصرى فى سنوات قليلة وقد ترتبت على ذلك مجموعة من النتائج اهمها انتهاء منظومة العقارات التقليدية والمبانى الخاضعة لقوانين الإيجارات واختفت إعلانات شقة للإيجار لتحل مكانها شقة للتمليك وكانت هذه اول ضربة توجه للطبقة المتوسطة ذات الدخل المحدود وبجانب هذا فقد شوهت هذه المنظومة المعمارية العشوائية تراثا عريقا من العمارة الذى عرفته مصر سنوات طويلة من خلال نماذج معمارية رفيعة . على جانب آخر ظهرت ابواب اخرى لتجارة السلع المستوردة وما كان يسمى تجارة الشنطة ومعها اتسعت تجارة العملة واصبح فى مصر اكثر من سوق لبيع وشراء العملات الأجنبية وهنا ايضا ظهرت طبقة جديدة فى ظل الأنشطة التجارية وبناء العقارات هى طبقة الحرفيين الذين زادت الحاجة اليهم وكبرت مواردهم . لم يستطع الانفتاح ان يدخل بمصر مرحلة جديدة من الإنتاج المتطور القادر على المنافسة فى الأسواق الخارجية .. بل ان هذا الانفتاح فرض اعباء كثيرة على الطبقة المتوسطة التى لم تكن قادرة بحكم مواردها على منافسة طبقة جديدة من المستفيدين فى الأنشطة التجارية واستيراد السلع وبيعها وتجارة العملة والمقاولات والتوكيلات التجارية واعمال السمسرة وقد شجع ذلك على ظهور طبقة الحرفيين فى كل المواقع ابتداء بالخدمات وانتهاء بأعمال الباعة الجائلين واصحاب البوتيكات والسلع المستوردة او المهربة ان الشئ المؤكد ان الانفتاح الاقتصادى قد اضر كثيرا بالطبقة المتوسطة التى كانت تستأجر الشقة ولديها مرتب يوفر لها حياة مناسبة بحيث وجدت نفسها بين طبقتين جديدتين الأولى فى المقدمة من التجار والسماسرة والمقاولين وتجار العملة والثانية من الحرفيين هذا يضغط عليها من اعلى وهذا يضغط عليها من اسفل وكانت الطبقة المتوسطة بكل رصيدها الحضارى والثقافى اول ضحايا الانفتاح الاقتصادى الذى فشل فى تطوير الاقتصاد المصرى وتركه حائرا ما بين قطاع عام فرطت فيه الدولة وهو يعانى ظروفا صعبة ووجود قطاع خاص طفيلى لم يستطع ان يكون بديلا منتجا ومشاركا فى حركة بناء المجتمع .. واغلقت سياسة الانفتاح الاقتصادى ابوابها دون ان تحقق للمصريين حلما من احلامهم بل انها القت اعباء كثيرة على المواطن المصرى وحرمته من سلعة رخيصة كان يشتريها ومن بيت بسيط كان يستأجره ومن وظيفة كانت تغنيه عن سؤال اللئيم . كانت هذه هى تجربة مصر الأولى مع الاستثمار الأجنبى وهو ما اطلق عليه سياسة الانفتاح الاقتصادى إلا ان اخطر ما جاء به هذا الإنفتاح انه احدث تغييرات جوهرية فى المجتمع المصرى .. لقد بدأ المواطن المصرى يعرف طريقه الى استخدام السلع الأجنبية ابتداء بالملابس والسيارات ووسائل الرفاهية الحديثة وانتهاء بالأغذية التى اطاحت بكل تراث البيت المصرى والأسرة المصرية .. وزادت مساحات السلع الاستهلاكية فى حياة المصريين وظهرت اجيال كاملة تعيش على نمط جديد للحياة فى استهلاك الوجبات الجاهزة والمياه الغازية والسجائر المستوردة والسيارات الحديثة وكل هذه المطالب وما تفرضه من اعباء مالية على المواطن المصرى بدخله المحدود وامكانياته الضعيفة .. وقد ترتبت على هذه الأساليب المعيشية نتائج كثيرة خاصة فى الأجيال الجديدة التى انفصلت تماما عن واقعها واصبحت هناك فجوة واسعة بين اجيال تنتمى للماضى وتعيش فيه واجيال اخرى تشعر بانتماء شديد لأساليب العصر وكان هذا الانفصال بداية تغيرات حادة فى منظومة القيم والسلوك والأخلاق . كان الانفتاح الاقتصادى بداية إنشاء منظومة اجتماعية واقتصادية جديدة حيث فتح ابوابا للثراء السريع بلا جهد او عمل او قيمة .. لقد فتح الانفتاح ابواب الصفقات السريعة فى الأراضى والعقارات والعمولات وتجارة السلع واصبح من السهل ان يصبح الإنسان مليونيرا بصفقة واحدة لا يهم فيها مبدأ الحلال او الحرام ان تأشيرة من مسئول كبير فى قطعة ارض او خدمة معينة او سلطة تباع او عمولة فى صفقة يمكن ان تمنح الإنسان فرصة تغير كل جوانب حياته .. وهنا اصبح لكل شىء سعر .. ان تأشيرة المسئول .. وتوصية صاحب القرار ومعلومة تتسرب عن سلطة او عملة او صفقة يمكن ان تفتح آلاف الأبواب امام ثراء سريع .. ولا شك ان ذلك ترك آثارا بعيدة فى سلوكيات الناس فلم تعد قيمة العمل والجهد والنجاح كما كانت ،وان ضربة حظ اهم من كفاح عشرات السنين وصفقة سريعة تحمل معها الملايين وتأشيرة مسئول كبير يمكن ان توفر حياة كريمة واستقرارا لا حدود له .. كانت سياسة الانفتاح الاقتصادى اول اسباب تحلل المنظومة الاجتماعية فى مصر لقد اقامت طبقات جديدة وشوهت تاريخا من الثوابت القديمة ورفعت اناسا بدون وجه حق وقلبت منظومة الفقر والثراء فى حياة المصريين ثم انها وضعت قواعد جديدة فى تاريخ مصر حين اهدرت كل القيم التى قام عليها بناء العلاقات بين ابناء الوطن الواحد وكان من اخطر ظواهرها : غياب الشفافية فى سياسات الحكومات المتعاقبة، بل ان مبدأ الحساب والعقاب لم يعد له مكان فى حياة المصريين .. ان السلطة قادرة على تكوين الثروات وتشكيل الطبقات الاجتماعية بل وزحزحة طبقة من مكانها لتحل طبقة اخرى واصبح الهرم الاجتماعى فى مهب الريح ما بين قرارات خاطئة وسياسات متسرعة واناس يتصدرون المشهد بلا كفاءة او قدرات. اهدرت سياسة الإنفتاح قيمة العمل فى مصر فلم يعد طريقا للصعود ولم تعد الكفاءة وسيلة للتفوق واصبح من الصعب ان تجد لك مكانا تحت الشمس بلا دعم من السلطة او اقتراب منها او استخدام اساليب التحايل لكى تصل الى ما تريد، وهنا زادت مساحة الفوارق الاجتماعية وبدأ المواطن المصرى يشعر بالقهر امام واقع اجتماعى وسلوكى واخلاقى جديد فرضته منظومة الإنفتاح الإقتصادى بكل جوانب الخلل فيه . كان الانفتاح اول الأبواب التى دخل منها المغامرون والسماسرة فى صفقات مريبة وغريبة شملت كل موارد وامكانيات الدولة المصرية وقد تجسد ذلك فى صعود مجموعة من الأفراد والعائلات الذين استولوا فى سنوات قليلة على ثروات هذا الوطن وحرموا الملايين من حقهم فى مجتمع عادل وحياة حرة كريمة .. كانت تجربة الانفتاح الاقتصادى وتشجيع الاستثمار حلما لكل المصريين وانتهى الى صفقة لعدد من المغامرين .. ومن الانفتاح بدأت مرحلة النهب العام امام مشروع آخر هو برنامج الخصخصة وبيع اصول الدولة المصرية ... وهذه حكاية اخرى .
..ويبقى الشعر
الوقتُ ليلٌ .. والدقائقُ بينَنَا زمنٌ طويلٌ حين يسكنُنا الضجَرْ مازلتُ أنظرُ للسماءِ فلا أرى غيرَ السّحابِ .. ورعشة َ البرق ِ المسافر .. والمطْر فالسّحبُ ترتَعُ فى السّماءِ .. فينزَوى ركبُ النجوم ِ .. ويَختفِى وجهُ القمرْ ما عدتُ ألمحُ أىَ شىءٍ فى طَريقِى كلما فتَّحتُ عينى لاحَ فى قدمِى حجرْ إنّى لأعرفُ أن درْبَكِ شائِكٌ وبأنَّ هذا القلبَ أرّقَه الرحيلُ .. وهَدّهُ طولُ السفرْ إنّى لأعِرفُ أنَّ حبَّكِ لم يزَل ينسابُ كَالأنهار فى عمرى ويورقُ كالشّجْر وبأنَّنى سأظلُّ أبحرُ فى عيونكِ رغم أنّ الموجَ أرّقنى زمانًا ثم فى ألم ٍ غَدَرْ وبأنَّ حُبَّكِ .. ماردٌ كسرَ الحدودَ .. وأسقَط القلبَ المكابرَ .. وانتصرْ أنَا لم أكنْ أدرى بأنَّ بداية الدُّنيا لديكِ .. وأنّ آخرَها إليكِ .. وأنّ لقيانَا قدرْ الوقتُ ليلٌ .. والشتاءُ بلا قَمَرْ نشتاقُ فى سَأم الشتاءِ .. شعاعَ دفءٍ حولنَا نشتاقُ قنديلا ًيسامرُ ليلَنا نشتاقُ منْ يَحكِى لنَا من لا يَمَلُّ حديثَنَا تنسابُ أغنية ٌ فتمحُو ما تراكَمَ من هوان ِ زماننَا نهفُو لعصفور ٍ .. إذا نامت عيون ُ الناس ِ يؤنسُنا .. ويشدُو حوْلَنَا نشتاقُ مدْفأة ً تُلَملمْ ما تناثَر من فُتاتِ عِظامِنَا نشتاقُ رفقة َ مُهْجةٍ تحنو علينَا .. إنْ تكاسلَ فى شحوبِ العمر يوما نبضُنا نشتاقُ أفراحًا .. تُبدّدُ وحشة َالأيامِ بين ضلوعنِا نشتاقُ صدرًا يحتَوينا .. كُلما عَصفَت بنا أيدى الشتاءِ وشَّردتْ أحلامَنَا من قصيدة رحلة النسيان سنة 1998 [email protected] لمزيد من مقالات فاروق جويدة