ربما لا تتذكر له اسما ولا تعرف له شكلا، لكنه يكمن تحت جلدك، ويسبح مع دمك في شرايينك، وتتردد موسيقاه يوميا في أذنيك، فتحيلك إلى أعمال تحبها وتعيش معها، وقد تضبط لسانك وهو يدندن بأحد ألحانه أو مؤلفاته، فتشعر بالألفة والامتنان، ليس لأنه ضخ الحياة في مجموعة من أشهر وأهم كلاسيكيات السينما المصرية، ولكن لأنه ساهم في تشكيل وجدان أجيال متعاقبة من المصريين والعرب، وصار شغله جزءا لا يتجزأ من تاريخهم وإنسانيتهم. أندريه - أو أندريا - رايدر، الذي حلت ذكراه الرابعة والأربعون أمس الخميس، جزء آخر من حياتنا وتاريخنا أهملناه كما أهملنا غيره، فلا توجد عنه أي دراسات أو معلومات وافية، ولا يوجد أي تجميع لموسيقاه الفذة على اسطوانات أو شرائط أو غيرها، تماما مثل المؤلف الموسيقي العظيم الآخر كمال بكير، الذي عاش ومات ولم يُنشر عنه شيء في الصحافة العربية سوى حوار واحد وحيد أجراه معه كاتب هذه السطور في مجلة «الفن السابع» قبل 17 عاما. كل ما يتوفر عن أندريا أناجنستوس رايدر أنه ولد في 10 أغسطس عام 1908 باليونان، ولكنه عاش معظم حياته في مصر.. وقبل وفاته في 5 مارس 1971، تم اعتماده كملحن بالإذاعة المصرية، وحصل على الجنسية المصرية ووسام الاستحقاق في الفنون من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. وضع الموسيقى التصويرية ل 55 فيلما مصريا طويلا، واُختير أحسن مؤلف موسيقي في مئوية السينما المصرية.. وضع أيضًا موسيقى ستة أفلام يونانية من بينها «رياح الغضب» و»طريق الأقدار»، وشارك في مهرجانات عالمية بألحانه وتوزيعاتها في الفترة من 1969 إلى 1971 ببرشلونة وطوكيو وأثينا وبيونس أيرس.. اشتهر بأغنية «فرانكو آراب» بعنوان «تيك مي باك تو كايرو» (أعدني إلى القاهرة)، وبأغنية دينية للمطرب الشيخ محمد الطناني بعنوان «هايم في حب الله» بعد ما تردد عن إشهاره إسلامه. وكما هو واضح، فإنها معلومات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا توفي الرجل حقه، ليس فقط كمؤلف استثنائي لموسيقى الأفلام، ولكن كصانع أصيل لها، وكعنصر رئيسي في أي «كريشندو» (ذروة درامية) تصل إليها.. تذكر مثلاً المشهد الأخير من تحفة كمال الشيخ «غروب وشروق» (1970)، حين تقف «مديحة» (سعاد حسني) في النافذة وتزيح الستارة قليلاً لكي تتابع - بعينين مبتلتين بالدموع - زوجها وصديقه (رشدي أباظة وصلاح ذو الفقار) وهما يغادران حديقة قصر رئيس القلم السياسي بعد نهاية والدها وتدمير حياتها هي بالكامل.. عيناها تلخصان المأساة كلها من دون كلمة واحدة.. بعد خروجهما، تسحب يدها لتنسدل الستارة بسرعة على حياتها وعلى الفيلم كله. هذه الذروة، التي لا تنهي الفيلم فقط بل تنهي عصراً كاملاً وتعلن بداية عصر جديد، لم يكن من الممكن بلوغها من دون موسيقى رايدر، صاحبة الفضل في إحداث التأثير المطلوب وبقائه حيا إلى اليوم. موسيقاه أيضا العنصر الرئيسي في صناعة حالة «اليوفوريا» (ذروة النشوة والرضا) التي تصل إليها المراهقة البائسة (ماجدة) فور ظهور طائرة حبيبها المنقذ (رشدي أباظة) في السماء قرب نهاية فيلم «المراهقات» (1960).. وقد صاغ رايدر ببراعة شديدة التصاعد التدريجي للموسيقى من حالة الحزن واليأس - بعد محاولة البطلة قطع شرايين يدها - إلى قمة السعادة مع قدوم المحبوب، في «كريشندو» سينمائي آخر لا يُنسى. لا يمكن أيضا نسيان «صولو الكمان» الساحر الذي يصاحب استعراض «ليلى» (فاتن حمامة) لمصابي المقاومة الشعبية في بورسعيد - قرب نهاية فيلم «الباب المفتوح» (1963) - مما يجعلها تحسم أمرها وتقرر كسر قيودها والتمرد على سلطتي الأب والخطيب للحاق بحبيبها (صالح سليم) والسفر معه، ومعهما آلات رايدر التي تعلن انتصارهما وانتصار العهد الجديد قبلهما. وكان قد شارك مع فريق عمل «الباب المفتوح» - فاتن حمامة والمخرج الكبير بركات ومدير التصوير وحيد فريد - في صناعة تحفة أخرى هي فيلم «دعاء الكروان» (1959)، ووضع له ما وصفها الموسيقار الراحل عمّار الشريعي، في برنامجه التليفزيوني «سهرة شريعي»، بأنها أفضل موسيقى تصويرية في تاريخ السينما المصرية. تصلح جميع مشاهد الفيلم كأمثلة على وضع الموسيقى في خدمة الدراما، بحيث يستحيل الفصل بينهما، لكنني سأكتفي بمشهد قافلة الموت الذي ينتهي بقتل الشقيقة «هنادي» (زهرة العلا)، حيث تعكس الموسيقى في البداية التوتر الشديد الذي يلف الجو، ثم تظل تتصاعد حتى يغمد الخال (عبد العليم خطاب) سكينه في صدر الفتاة المسكينة، في ذروة اعتدنا عليها من رايدر.. وبعد سقوط الضحية، تُعبِّر الموسيقى عن الدوار الذي يصيب شقيقتها إلى أن يُغشى عليها. وفيما ظن البعض أن رايدر طلب من فرقته عزف «أي شيء» كيفما اتفق للتعبير عن هذا الدوار، أكد الشريعي أن ما تمت كتابته من موسيقى، لمصاحبة هذه اللقطة تحديدا، مذهل وغير مسبوق. وبعيدا عن التفاصيل الفنية، سيذكر التاريخ أن رايدر كان أحد الذين نقلوا السينما المصرية من عصر «مختارات من المقطوعات العالمية»، في موسيقاها التصويرية، إلى عصر الموسيقى المؤلفة لها خصيصا، والموزعة أوركستراليا، والمعزوفة بأيدي أكبر الفرق وأمهر العازفين، لتكتسب أفلامنا شخصيتها المستقلة، وتؤكد هويتها، وتنطلق إلى آفاق لم تكن تعرفها من قبل. وربما لا يجب أن تندهش كثيرا إذا عرفت أن رايدر توفي قبل 44 عاما إثر مشاجرة في العاصمة الأرجنتينية بيونس أيرس، خلال إحدى جولاته الفنية، فمثله كان لابد أن تكون نهايته درامية، وإن كانت لم تجد من يضع لها الموسيقى.