خلف محطة الجراج بإمبابة ، تسللت إلى آذاننا ، أصوات غريبة لم نعتد سماعها، ورغم ذلك بدت فى منتهى العذوبة وزاد من روعنا أنها صادرة من كنيسة كانت هى الوحيدة التى نراها. صحيح كانت التراتيل خافتة وربما خائفة إلا أن سكون الليل فى شتاء يناير قبل عقود خمسة خلت ، أعطاها صدى وأضفى عليها زخما شجيا، ولم أكن أنا ومعى أقرانى فى ذلك الزمان البعيد ندرى أنها صلوات خاشعة لمواطنين مثلنا من لحم ودم، أما المناسبة فهى عيد ميلاد يسوع المسيح له المجد وفقا لما يردده أقباطنا، والتى كنا نجهلها بفضل أوراق بنكنوت لا ترى فى مصر سوى جامع يحتل وجه ومعابد فرعونية للوجه الآخر، إضافة إلى تعليم إقصائى مخجل وميديا كانت ومازالت موصومة بالطائفية. ويالها من إثارة فبعد أن تعلق وجدانى بالموسيقى الكلاسيكية، ادركت مدى التشابه بينها وبين مناجاة تلك الليلة العظيمة ولما لا وقد علمنا مؤرخون موسيقيون مصريون عظام، بأن نشأتها خرجت من أحضان كاتدرائيات روما منذ ثمانية قرون من خلال أرتوريات لرهبان وراهبات والتى تطورت بفضل عباقرة أفذاذ على مدى عقود طويلة وممتدة ليتركوا تراثا إنسانيا خالدا. ومن المفارقات أن التليفزيون المصرى قرر فجأة فى نهاية الثمانينيات ان يذيع برنامجا تثقيفيا عن عوالم الاوبرا واختير الراحل يوسف السيسى أحد قادة اوركسترا القاهرة السيمفونى الكبار وبلغة بديعة سهلة قدم حلقتين ولم تأت الثالثة أبدا،فهل هذا كان له علاقة بديانة الرجل، أم بهذا النوع الذى يقدمه وتتشابه أصواته وأغانيه مع قداس الأحد الذى زج به إلى موجة إذاعية ضعيفة بحيث لا يسمع، وكان لهم ما أرادوا، صحيح الصورة تغيرت ولكن فقط شكلا كزر الرماد فى العيون. ومع ميلاد الفضائية المصرية استبشر البعض خيرا خاصة أن الهدف من إنشائها مخاطبة أبناء الوطن المغتربين فى مشارق الارض ومغاربها، وحتما كان هناك من يحلم بخطاب يكرس المواطنة ولكن هيهات فخيبة الأمل سرعان ما وئدت أحلامهم ، إذ زادت الجرعات التى تعمق الهوة وتجعل من التمييز الدينى قاعدة وليس استثناء. لمزيد من مقالات سيد عبد المجبد