حين يُفهَم «الدين» الفَهم الصائب المستقيم، وحين تتحقق «السياسة» الرشيدة العادلة على وجهها: فلن تجد بينهما إلا وئامًا والتقاءً، واتصالاً وائتلافًا، دون طغيان أو افتئات من أحدهما على الآخر أما حين تختل إحدى الكفتين، سواء بالفهم الشارد المعوّج للدين، أو بالفساد والطغيان، أوالنفعية والزئبقية فى عالم السياسة: فحينئذ يكون الخصام البئيس،والفراق البائن بينهما،والخسارة الفادحة لهما، ويعيش الإنسان - من جرّاء ذلك عصورًا تغيب فيها شمس العدل، وتضمحل فيها إنسانية الإنسان، وتزدوج فيها المعايير، وتسود فيها الأثرة والأنانية، ويكون التظالم فيها على جميع الأصعدة الفردية والدولية صاحبَ الكلمة الأخيرة، ويتحقق فيها قول أبى العلاء فى لزومياته: أَعَاذِلُ قد ظَلَمتْنا الملوك ...ونحن على ضعفنا أَظلمُ!! فلا تكاد تسمع فى الوجود حسيسًا لأنّات الجَوْعَي, وآلام الثكالي، وشكايات البؤساء، وصرخات المظلومين، حتى وإن ازدهرت مظاهره الخادعة بحضارة زائفة مترعة بالرفاهة، ومتخمة بمنجزات الحداثة، ومزهوة بزخرف المتاع؟! فهل من سبيل إلى الالتقاء بين الدين والسياسة؟ أو أن ذلك مجرد حلم طوباوى يتراءى للحالمين بالمدن الفاضلة بعد غياب؟ فى عصور الازدهار الكبرى للحضارة الإسلامية تفتقت العبقرية الفكرية الإسلامية عن علم مستحدث من علوم تلك الحضارة الباذخة، أنجبته تلك العبقرية على غير مثال سبق، كما منحته عنوانًا مبتكرًا هو علم «السياسة الشرعية» الذى يَشِى عنوانه الدقيق بضرورة الجمع بين «السياسة والشريعة» كما أنه يكاد ينطق - بغير لسان بالعلاقة الوثقى بين «الشرع» و«السياسة» ولا تكاد وظيفته كما تبلورت لَدَى أعلامه - تخرج عن التأكيد على أن «السياسة الشرعية» هى كل ما كان فِعْلاً يكون الناس فيه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وَلاَ نَزَلَ به الوحي، شريطة أن يكون ذلك الفعل على وِفاقٍ مع روح الشريعة ومبادئها الكلية، وغير مناقضٍ لأصولها القطعية. فماذا يكون الحال حين تكون «السياسة» خِلوًْا من هذا المفهوم البسيط العميق فى آن معًا؟ ماذا يكون الحال لو سارت السياسة على نحو تتقاطع فيه مع «الدين» وتتباعد عنه، وتخلو منه كما ينادى من ينادى هذه الأيام بدعوى أن مجال الدين مقصور على الكليات والآفاق الغيبية، والخفقات الروحية وحدها، بمنأى عن حياة البشر الصاخبة المضطربة التى تصطرع بالاختلالات السلوكية والمفاسد الحياتية، فى المعاملات والتصرفات: يسيرون فيها كيفما شاءت لهم الأهواء المتصارعة والرغبات الآنية بلا ضابط أو عاصم، وكأن الذوات البشرية فى هذا المفهوم الشاحب قد انشطرت انشطارًا كليًا إلى «روحانيات» محلِّقة هائمة يتولاها «الدين» من جهة، وإلى «سلوكيات وعمليات» تُترَك «للسياسة» وحدها، بمفهومها الفضفاض المُنْعَتِق من «شرع» يوجهها إلى الخير والسداد، ويطهرها من الأنانية، والنفعية، والظلم، والعدوان، ويقى البشرية مفاسدها وشرورها وطغيانها؟ ترى .. كم ستخسر السياسة حين تنفصل عن الدين على هذا النحو الصادم الذى ينادى به من ينادي؟ إنا حينئذ نكون كمن يبدِّد ثروة اخرة بالمعانى الرفيعة والقيم الضابطة التى لا تقوم الحياة الإنسانية المُثلَى بدونها، أو كمن يفرط فى المكُوِّن الإنسانى الباطنى المزخور القائم على المراقبة الذاتية، والحساب الداخلي، حيث تمسك الذات البشرية بميزان مُرْهف يَكُفَّها من باطنها عن الاعوجاج، ويحاسبها عليه حسابًا عسيرًا، وبذلك تتحصل التشريعات السياسية الظاهرية التى تقوم بالضبط الخارجي: على العمق «الجَوَّاني» الداخلى الذى يتولى الرقابة الأعمق، والحساب الأدق .. وَيَالَهُ من حساب!! ولئن كانت تلك الأفهام التى قصرت دور «الدين» على «الروحانيات» ونأت «بالسياسة» عنه، قد جَنَتْ على أصول تلك السياسة الشرعية الصحيحة ونبذتها وراء ظهورها، فإن فريقًا آخر - على الجانب المضاد- قد جَنَى على تلك «السياسة الشرعية» بما هو أفدح وأبعد مدي، إنها جناية ذلك الفريق الذى يستخدم الدين استخدامًا زائفًا، ويوظّفه كما يوظّف النصوص الدينية من الكتاب والسُنّة ويضطرها اضطرارًا إلى خدمة أهداف غريبة عنها، تصب جميعها فى مجرى «لعبة السياسة» حيث لا يكون الهدف المقصود والغاية المبتغاة سوى اعتلاء أرائك «السلطة» والظَّفَر بمقاليد السلطان، حتى وإن سَالَت فى سبيل ذلك دماء، وتقطعت أشلاء، وتهدمت دُولٌ، وتبعثرت كيانات، ولا يرون حرجًا فى أن يستخدموا تلك النصوص القرآنية والحديثية استخدامًا «براجماتيًا» نفعيًا، فينتقون منها ما يؤجج المشاعر، أويُلْهِبُ الحناجر، استغلالاً لقداسة تلك النصوص، واقتطاعًا من سياقاتها، ودون مراعاة لأسباب نزولها، وعموماتها، إِلْهابًا لعواطف الجماهير، ثم يسوقونهم بها سوْقًا إلى حيث شاءت لهم الأهواء، تَلَمُّظًا إلى اعتلاء سُدَّة الحكم، وإلى الهيمنة على أرائك السلطان!! كما أن فريقًا ثالثًا يَعِبُّون من الكأس نفسه حتى الثُّمالة: جناية على «السياسة الشرعية» كذلك، وأعنى بها تلك النوابت الشاردة فى زماننا هذا، تلك التى اقتنصت من «السياسة الشرعية» ومن القرآن والحديث نصوص الحرب والقتال وحدها، دون أن تشفعها بما شُفِعَت به من آيات الرحمة والعدل، والعفو والصفح، والسلام والأمن، فى ابْتِسارٍ بئيس لدلالاتها الخاصة التى نزلت فيها، ودون وعى «بروح» الإسلام العامة التى فَتَحَتْْ له أبواب المشارق والمغارب على مصاريعها، ومهدت لانتشاره فى الخَافِقَيْن بمثل ما مهدت له الجيوش المُجَيَّشة والجنود المجنَّدة!! ثم أقول: أَلَمْ يكن الشيخ محمد عبده - فى كتابه الإسلام والنصرانية ناطقًا بالحق .. حين استعاذ بالله تعالى صراحة من السياسة المنفصلة عن عمود الدين، ومن كل حرف يُلفظ فى كلمة «السياسة»: لفظًا ومعني، بل من ساس ويسوس ومشتقاتها؟؟!! عضو هيئة كبار العلماء لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى