تكساس إنسترومنتس تتجاوز توقعات وول ستريت في الربع الأول    شهداء وجرحى في غارات إسرائيلية على قطاع غزة    موازنة النواب: تخصيص اعتمادات لتعيين 80 ألف معلم و30 ألفا بالقطاع الطبي    ارتفاع جديد.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الأربعاء 24 إبريل 2024 بالبورصة والأسواق    البنتاجون: هجومان استهدفا القوات الأمريكية في سوريا والعراق    مفاجأة صادمة.. تفاصيل العرض النهائي من الأهلي لتجديد عقد علي معلول    سيناريو هوليودي، سرقة 60 ألف دولار ومصوغات ذهبية بسطو مسلح على منزل بشمال العراق    اليوم، فتح متحف السكة الحديد مجانا للجمهور احتفالا بذكرى تحرير سيناء    بعد وصفه بالزعيم الصغير .. من هم أحفاد عادل إمام؟ (تفاصيل)    قناة «CBC» تطلق برنامج «سيرة ومسيرة» الخميس المقبل    مصرع شخصين .. تحطم طائرة شحن نادرة النوع في أمريكا    التموين: تراجع سعر طن الأرز 20% وطن الدقيق 6 آلاف جنيه (فيديو)    مدافع الزمالك السابق: الأهلي قادر على حسم لقاء مازيمبي من الشوط الأول    رئيس البنك الأهلي: «الكيمياء مع اللاعبين السر وراء مغادرة حلمي طولان»    نتائج مباريات ربع نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية PSA 2024    أيمن يونس: «زيزو» هو الزمالك.. وأنا من أقنعت شيكابالا بالتجديد    موعد مباراة ليفربول وإيفرتون في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    جهاز دمياط الجديدة يشُن حملات لضبط وصلات مياه الشرب المخالفة    إصابة العروس ووفاة صديقتها.. زفة عروسين تتحول لجنازة في كفر الشيخ    خطر تحت أقدامنا    مصطفى الفقي: الصراع العربي الإسرائيلي استهلك العسكرية والدبلوماسية المصرية    مصطفى الفقي: كثيرون ظلموا جمال عبد الناصر في معالجة القضية الفلسطينية    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الأربعاء 24/4/2024 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    بقيادة عمرو سلامة.. المتحدة تطلق أكبر تجارب أداء لاكتشاف الوجوه الجديدة (تفاصيل)    بعد 3 أيام من المقاطعة.. مفاجأة بشأن أسعار السمك في بورسعيد    من أمام مكتب (UN) بالمعادي.. اعتقال 16 ناشطا طالبوا بحماية نساء فلسطين والسودان    تونس.. قرار بإطلاق اسم غزة على جامع بكل ولاية    فريد زهران: دعوة الرئيس للحوار الوطني ساهمت في حدوث انفراجة بالعمل السياسي    الدوري الإنجليزي.. مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    بالأسماء.. محافظ كفر الشيخ يصدر حركة تنقلات بين رؤساء القرى في بيلا    مسئول أمريكي: خطر المجاعة «شديد جدًا» في غزة خصوصًا بشمال القطاع    3 أشهر .. غلق طريق المحاجر لتنفيذ محور طلعت حرب بالقاهرة الجديدة    أداة جديدة للذكاء الاصطناعي تحول الصور والمقاطع الصوتية إلى وجه ناطق    القبض على المتهمين بإشعال منزل بأسيوط بعد شائعة بناءه كنيسة دون ترخيص    مصرع سائق سقط أسفل عجلات قطار على محطة فرشوط بقنا    مصرع شاب غرقًا أثناء محاولته السباحة في أسوان    العثور على جثة شاب طافية على سطح نهر النيل في قنا    إعلام عبري: مخاوف من إصدار الجنائية الدولية أوامر اعتقال لمسؤولين بينهم نتنياهو    إعلان مهم من أمريكا بشأن إعادة تمويل الأونروا    لازاريني: 160 مقار ل "الأونروا" بقطاع غزة دُمرت بشكل كامل    تعيين أحمد بدرة مساعدًا لرئيس حزب العدل لتنمية الصعيد    الأزهر يجري تعديلات في مواعيد امتحانات صفوف النقل بالمرحلة الثانوية    فريد زهران: الثقافة تحتاج إلى أجواء منفتحة وتتعدد فيها الأفكار والرؤى    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    ‏هل الطلاق الشفهي يقع.. أزهري يجيب    هل يجوز طلب الرقية الشرعية من الصالحين؟.. الإفتاء تحسم الجدل    حكم تنويع طبقة الصوت والترنيم في قراءة القرآن.. دار الإفتاء ترد    رغم فوائدها.. تناول الخضروات يكون مضرا في هذه الحالات    تنخفض 360 جنيهًا بالصاغة.. أسعار الذهب في مصر اليوم الأربعاء 24 إبريل 2024    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    عصام زكريا: الصوت الفلسطيني حاضر في المهرجانات المصرية    بعد انخفاضه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024 (آخر تحديث)    قد تشكل تهديدًا للبشرية.. اكتشاف بكتيريا جديدة على متن محطة الفضاء الدولية    طريقة عمل الجبنة القديمة في المنزل.. اعرفي سر الطعم    كم مرة يمكن إعادة استخدام زجاجة المياه البلاستيكية؟.. تساعد على نمو البكتيريا    الخطيب يفتح ملف صفقات الأهلي الصيفية    مع ارتفاع درجات الحرارة.. دعاء الحر للاستعاذة من جهنم (ردده الآن)    عاجل- هؤلاء ممنوعون من النزول..نصائح هامة لمواجهة موجة الحر الشديدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وصمتت «أصوات» سليمان فياض
نشر في الأهرام اليومي يوم 03 - 03 - 2015

فقدت الأوساط الثقافية يوم الخميس الماضى أحد القامات الكبيرة فى عالم الإبداع العربى، حيث توفى الروائى سليمان فياض عن عمر يناهز 86 عاماً، تاركاً إرثاً إبداعياً رائعاً، فبالرغم من قلة عدد الأعمال الإبداعية التى خلفها، فإن كتاباته تُعد علامات مميزة حيث أصدر مجموعته "عطشان يا صبايا" عام 1961، ثم "بعدنا الطوفان" عام 1968، و"أحزان حزيران" عام 1969، و"العيون" عام 1972، و"أصوات" عام 1972، و"الصورة والظل" عام 1976، ثم "القرين"عام 1977.
وحصل فياض على عدة جوائز منها جائزة الدولة التشجيعية عام 1970 من المجلس الأعلى للآداب والفنون والعلوم الاجتماعية عن مجموعته القصصية “وبعدنا الطوفان”، وجائزة الشاعر سلطان العويس من الإمارات العربية المتحدة عام 1994 فى حقل القصة، وجائزة الدولة التقديرية فى الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2002.
وأجاد فياض اللعب على وتر تعدد الأصوات الروائية فى أعماله، فكان الحوار بين “الأنا والآخر” فى رواية “أصوات” ثم كان الحوار بين “الذات والقرين” فى “القرين، وتُعد رواية “أصوات” هى الأشهر للمبدع الراحل، حيث استطاع فياض الخوض من خلال أحداثها فى أحد أهم القضايا التى عالجها الإبداع فى العصر الحديث، وهى إمكان التعايش بين الشرق والغرب، وهى القضية التى تناولها عدد من كبار المبدعين وعلى رأسهم توفيق الحكيم فى “عصفور من الشرق” ويحيى حقى فى “قنديل أم هاشم” والطيب صالح فى “موسم الهجرة إلى الشمال” وغيرها، فيطرح الإجابة القاطعة عن تساؤلات فى منتهى الأهمية مثل: هل يمكن نقل عادات وتقاليد الغرب لكى نعيش بها فى مجتمعنا الشرقى؟، وهل يمكن أن يتقبل الشرقيون من يريد أن يعيش بينهم بنفس تفاصيل حياته التى يحيا بها فى الغرب؟، ثم يأتى الطرح الأهم والأخطر وهو نظرة الإنسان الشرقى للتقاليد الغربية على أنها مثال للانحطاط الأخلاقى، ونظرة الإنسان الغربى للتقاليد الشرقية على أنها مثال للتخلف.
وتحكى الرواية قصة حامد البحيرى الذى يعود لقضاء اجازته فى قريته “الدراويش” التى فر منها منذ ثلاثين عاما، عاش خلالها فى باريس وتزوج من الفرنسية سيمون التى جاءت معه إلى مصر، وتعيش الزوجة فى القرية المصرية بعادات وتقاليد مجتمعها الفرنسى، فتأكل “بالشوكة والسكين” وترتدى الملابس الإفرنجية المكشوفة وتخرج من بيتها وقتما تريد وتجلس فى المقهى مثل الرجال وتشرب البيرة، وفى البداية حاول أهل القرية تقليد سيمون، ولكن سرعان ما يحدث الصدام المتوقع بين الحضارتين، فالزوجة فرنسية تصر على الحياة بتقاليدها فى مجتمع قروى مصرى، والفلاحات المصريات يحاولن فرض تقاليد القرية المصرية عليها، فيُتخذ القرار المصيرى وتجتمع النسوة –فى غياب الزوج المسافر لقضاء بعض الأعمال- لإجراء عملية “ختان” للفرنسية التى أثارت غيرتهن وحسدهن، ويداوين جراحها بالبُن وتراب الفرن، مما يؤدى إلى وفاتها، ثم يقومون بتزوير تقرير الوفاة ليُكتب فيه أن سبب الوفاة إن سيمون ماتت إثر “نوبة قلبية حادة ومفاجئة”.
وتأتى المفارقة فى الأحداث من الاستعداد المبالغ فيه من أهل القرية لاستقبال سيمون التى اعتبروها رمزاً لكل “الخواجات” ولهذا فيجب أن تظهر القرية –التى اعتبروها رمزا لمصر- فى أبهى صورة أمام الغرب، واستغرق هذا الأمر مجهودا متواصلا من أهالى القرية لمدة أسبوعين، ففى يوم وصول سيمون “ازينت من الصباح الباكر نسوة القرية وزينَّ معهن الأولاد من البنين والبنات بخير ما لديهم من ثياب، وبدا الصبية وكأنهم فى يوم عيد دونه كل الأعياد”، ويتضح هذا أكثر فى قول العمدة: “أكد علىَّ مأمور البندر بوجوب ظهور الدراويش بالمظهر اللائق أمام حامد، وبخاصة أمام زوجته سيمون الفرنسية حتى نرفع رأس الدراويش والناحية، بل ومصر كلها أمام الخواجات جميعا ممثلين فى شخص الست سيمون”.. ثم حفاوة القرية فى استقبالها، مرورا بمحاولات رجال ونساء القرية تقليد سيمون فى كل شئ حتى فى طريقة أكلها، فيقول شقيق حامد عن زوجته: “كانت تراقب ما تفعله سيمون على المائدة وتفعل مثلها، إن رفعت الملعقة وإن وضعتها، حتى فى درجة فتحة فمها لتُدخل الطعام فيه”... وأيضا محاولات سيمون إقناع زوجها بتقديمها للمجتمع القروى المصرى رغم اختلافه عن مجتمعها، فيقول زوجها عن رد فعلها على خجله من أسئلتها عن الفلاحين المرضى والأطفال الحفاة الذين رأتهم: “كانت ترى الحرج على وجهى، عندئذ كانت تقول لى ملاطفة بأدب قومها المعهود: بردون شيرى”.. كذلك حاولت فى أول الأمر التقرب إلى أهله: “فرغنا من الطعام، فذهبنا أنا وحامد إلى غرفة الصالون، أصرت سيمون على التخلف عنا لمساعدة زينب وأمى والخادمة التى استأجرناها مؤقتا للمساعدة، وللظهور بمظهر طيب أمام سيمون”.. إنه الغزل المتبادل بين الشرق والغرب ومحاولات التقارب التى بدأ فشلها بالحيرة التى سيطرت على الجميع والتى لخصها قول شقيق حامد: “أعجبنى المشهد وأثارنى وأرضانى وأغضبنى”، إلى أن وضع لها الكاتب نهاية درامية بفراق بدا حتميا ومأساويا فى الوقت نفسه.
واستطاع الكاتب أن يكرس نظرته فى “تعدد الأصوات” من خلال تعدد الرواة، فالرواية لا تُروى عبر راوٍ واحد، بل هى رواية شخصيات، كل شخصياتها –باستثناء سيمون- كانوا رواة للأحداث، كلٌ يروى الحدث من وجهة نظره، وأكسب هذا الأحداث ثراء واضحا، لا سيما مع تمكن الكاتب من الحفاظ على تماسك النص وتطور الأحداث وتسلسلها بشكل طبيعى، خاصة التدرج من التودد المتبادل بين الطرفين مروراً بصدمة أهالى القرية واستنكارهم لوجود امرأة تعيش بينهم بهذه التقاليد، وربما يلخص الأمر فقرتان وردتا فى نص الرواية، الأولى عندما قال العمدة: “كان شباب الدراويش والبلاد المجاورة يتصايحون خارج الدوار كالمجانين، وفكرت أنها ستفسدهم وتفتن علينا نساءنا المحجبات وبناتنا العفيفات، لكن ما باليد حيلة، فهذه هى الحال فى بلادها، ومن شب على شئ شاب عليه”.. والآخر هو قول أحمد شقيق حامد: “أحدث حامد وسيمون –بمجرد وجودهما فى البيت والدراويش- أضراراً شديدة لى ولأمى ولزينب” وذلك فى إشارة لأشياء كثيرة أبرزها اكتشافه أن زوجته أصبحت تحب أخاه، تماما مثلها وقع هو فى حب سيمون زوجة أخيه، وهو ما لاحظته سيمون واستنكرته فيما بعد.
بقى أن نشير إلى أنه من المؤكد أنى أشعر ببعض الخلاف مع سليمان فياض فى بعض ما كتب فى الرواية، وخاصة تعمده الواضح توجيه عطف القارئ تجاه شخصية سيمون، لكن ما يجب أن يُذكر فى هذا الأمر أنه لم يظلم المجتمع المصرى مطلقاً فى عرضه لسلبياته، ولم يكن مبالغا بل كان صادقا فى إظهار أثر الجهل والإهمال على المجتمع المصرى، حتى عندما استغل عملية “الختان” القصرية فى إنزال ستار الأحداث، وضع لها خلفية بعيدة تماما عن الإطار الدينى المعهود، بل كان يغلفها الجهل المجتمعى والدينى معا فى صورة حديث بالعامية بين مجموعة من النسوة العجائز ظهر فيه جهلهن بكل شئ، وكان قائدهن هو الشعور بالغيرة والحسد من المرأة الفرنسية، فنجا ببراعة من الوقوع فى مأزق طالما وقع فيه غيره ممن فكروا فى معالجة هذا الأمر فى أعمالهم الإبداعية.
وقد أشار سليمان فياض إلى أنه أخذ أحداث «أصوات» عن قصة حقيقية حدثت فى إحدى قرى الدلتا عام 1958، حيث كان فى زيارة لأحد أصدقائه من أهل القرية فسمع عن قصة فتاة أجنبية جاءت إلى القرية مع زوجها الذى كان قد هاجر من مصر منذ سنوات، وكيف أن نساء القرية أجرين للأجنبية عملية ختان حتى لا تكون فتنة للرجال. وصمتت «أصوات» سليمان فياض

◀ عماد عبدالراضى
فقدت الأوساط الثقافية يوم الخميس الماضى أحد القامات الكبيرة فى عالم الإبداع العربى، حيث توفى الروائى سليمان فياض عن عمر يناهز 86 عاماً، تاركاً إرثاً إبداعياً رائعاً، فبالرغم من قلة عدد الأعمال الإبداعية التى خلفها، فإن كتاباته تُعد علامات مميزة حيث أصدر مجموعته “عطشان يا صبايا” عام 1961، ثم “بعدنا الطوفان” عام 1968، و”أحزان حزيران” عام 1969، و”العيون” عام 1972، و”أصوات” عام 1972، و”الصورة والظل” عام 1976، ثم “القرين”عام 1977.

وحصل فياض على عدة جوائز منها جائزة الدولة التشجيعية عام 1970 من المجلس الأعلى للآداب والفنون والعلوم الاجتماعية عن مجموعته القصصية “وبعدنا الطوفان”، وجائزة الشاعر سلطان العويس من الإمارات العربية المتحدة عام 1994 فى حقل القصة، وجائزة الدولة التقديرية فى الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2002.
وأجاد فياض اللعب على وتر تعدد الأصوات الروائية فى أعماله، فكان الحوار بين “الأنا والآخر” فى رواية “أصوات” ثم كان الحوار بين “الذات والقرين” فى “القرين، وتُعد رواية “أصوات” هى الأشهر للمبدع الراحل، حيث استطاع فياض الخوض من خلال أحداثها فى أحد أهم القضايا التى عالجها الإبداع فى العصر الحديث، وهى إمكان التعايش بين الشرق والغرب، وهى القضية التى تناولها عدد من كبار المبدعين وعلى رأسهم توفيق الحكيم فى “عصفور من الشرق” ويحيى حقى فى “قنديل أم هاشم” والطيب صالح فى “موسم الهجرة إلى الشمال” وغيرها، فيطرح الإجابة القاطعة عن تساؤلات فى منتهى الأهمية مثل: هل يمكن نقل عادات وتقاليد الغرب لكى نعيش بها فى مجتمعنا الشرقى؟، وهل يمكن أن يتقبل الشرقيون من يريد أن يعيش بينهم بنفس تفاصيل حياته التى يحيا بها فى الغرب؟، ثم يأتى الطرح الأهم والأخطر وهو نظرة الإنسان الشرقى للتقاليد الغربية على أنها مثال للانحطاط الأخلاقى، ونظرة الإنسان الغربى للتقاليد الشرقية على أنها مثال للتخلف.
وتحكى الرواية قصة حامد البحيرى الذى يعود لقضاء اجازته فى قريته “الدراويش” التى فر منها منذ ثلاثين عاما، عاش خلالها فى باريس وتزوج من الفرنسية سيمون التى جاءت معه إلى مصر، وتعيش الزوجة فى القرية المصرية بعادات وتقاليد مجتمعها الفرنسى، فتأكل “بالشوكة والسكين” وترتدى الملابس الإفرنجية المكشوفة وتخرج من بيتها وقتما تريد وتجلس فى المقهى مثل الرجال وتشرب البيرة، وفى البداية حاول أهل القرية تقليد سيمون، ولكن سرعان ما يحدث الصدام المتوقع بين الحضارتين، فالزوجة فرنسية تصر على الحياة بتقاليدها فى مجتمع قروى مصرى، والفلاحات المصريات يحاولن فرض تقاليد القرية المصرية عليها، فيُتخذ القرار المصيرى وتجتمع النسوة –فى غياب الزوج المسافر لقضاء بعض الأعمال- لإجراء عملية “ختان” للفرنسية التى أثارت غيرتهن وحسدهن، ويداوين جراحها بالبُن وتراب الفرن، مما يؤدى إلى وفاتها، ثم يقومون بتزوير تقرير الوفاة ليُكتب فيه أن سبب الوفاة إن سيمون ماتت إثر “نوبة قلبية حادة ومفاجئة”.
وتأتى المفارقة فى الأحداث من الاستعداد المبالغ فيه من أهل القرية لاستقبال سيمون التى اعتبروها رمزاً لكل “الخواجات” ولهذا فيجب أن تظهر القرية –التى اعتبروها رمزا لمصر- فى أبهى صورة أمام الغرب، واستغرق هذا الأمر مجهودا متواصلا من أهالى القرية لمدة أسبوعين، ففى يوم وصول سيمون “ازينت من الصباح الباكر نسوة القرية وزينَّ معهن الأولاد من البنين والبنات بخير ما لديهم من ثياب، وبدا الصبية وكأنهم فى يوم عيد دونه كل الأعياد”، ويتضح هذا أكثر فى قول العمدة: “أكد علىَّ مأمور البندر بوجوب ظهور الدراويش بالمظهر اللائق أمام حامد، وبخاصة أمام زوجته سيمون الفرنسية حتى نرفع رأس الدراويش والناحية، بل ومصر كلها أمام الخواجات جميعا ممثلين فى شخص الست سيمون”.. ثم حفاوة القرية فى استقبالها، مرورا بمحاولات رجال ونساء القرية تقليد سيمون فى كل شئ حتى فى طريقة أكلها، فيقول شقيق حامد عن زوجته: “كانت تراقب ما تفعله سيمون على المائدة وتفعل مثلها، إن رفعت الملعقة وإن وضعتها، حتى فى درجة فتحة فمها لتُدخل الطعام فيه”... وأيضا محاولات سيمون إقناع زوجها بتقديمها للمجتمع القروى المصرى رغم اختلافه عن مجتمعها، فيقول زوجها عن رد فعلها على خجله من أسئلتها عن الفلاحين المرضى والأطفال الحفاة الذين رأتهم: “كانت ترى الحرج على وجهى، عندئذ كانت تقول لى ملاطفة بأدب قومها المعهود: بردون شيرى”.. كذلك حاولت فى أول الأمر التقرب إلى أهله: “فرغنا من الطعام، فذهبنا أنا وحامد إلى غرفة الصالون، أصرت سيمون على التخلف عنا لمساعدة زينب وأمى والخادمة التى استأجرناها مؤقتا للمساعدة، وللظهور بمظهر طيب أمام سيمون”.. إنه الغزل المتبادل بين الشرق والغرب ومحاولات التقارب التى بدأ فشلها بالحيرة التى سيطرت على الجميع والتى لخصها قول شقيق حامد: “أعجبنى المشهد وأثارنى وأرضانى وأغضبنى”، إلى أن وضع لها الكاتب نهاية درامية بفراق بدا حتميا ومأساويا فى الوقت نفسه.
واستطاع الكاتب أن يكرس نظرته فى “تعدد الأصوات” من خلال تعدد الرواة، فالرواية لا تُروى عبر راوٍ واحد، بل هى رواية شخصيات، كل شخصياتها –باستثناء سيمون- كانوا رواة للأحداث، كلٌ يروى الحدث من وجهة نظره، وأكسب هذا الأحداث ثراء واضحا، لا سيما مع تمكن الكاتب من الحفاظ على تماسك النص وتطور الأحداث وتسلسلها بشكل طبيعى، خاصة التدرج من التودد المتبادل بين الطرفين مروراً بصدمة أهالى القرية واستنكارهم لوجود امرأة تعيش بينهم بهذه التقاليد، وربما يلخص الأمر فقرتان وردتا فى نص الرواية، الأولى عندما قال العمدة: “كان شباب الدراويش والبلاد المجاورة يتصايحون خارج الدوار كالمجانين، وفكرت أنها ستفسدهم وتفتن علينا نساءنا المحجبات وبناتنا العفيفات، لكن ما باليد حيلة، فهذه هى الحال فى بلادها، ومن شب على شئ شاب عليه”.. والآخر هو قول أحمد شقيق حامد: “أحدث حامد وسيمون –بمجرد وجودهما فى البيت والدراويش- أضراراً شديدة لى ولأمى ولزينب” وذلك فى إشارة لأشياء كثيرة أبرزها اكتشافه أن زوجته أصبحت تحب أخاه، تماما مثلها وقع هو فى حب سيمون زوجة أخيه، وهو ما لاحظته سيمون واستنكرته فيما بعد.
بقى أن نشير إلى أنه من المؤكد أنى أشعر ببعض الخلاف مع سليمان فياض فى بعض ما كتب فى الرواية، وخاصة تعمده الواضح توجيه عطف القارئ تجاه شخصية سيمون، لكن ما يجب أن يُذكر فى هذا الأمر أنه لم يظلم المجتمع المصرى مطلقاً فى عرضه لسلبياته، ولم يكن مبالغا بل كان صادقا فى إظهار أثر الجهل والإهمال على المجتمع المصرى، حتى عندما استغل عملية “الختان” القصرية فى إنزال ستار الأحداث، وضع لها خلفية بعيدة تماما عن الإطار الدينى المعهود، بل كان يغلفها الجهل المجتمعى والدينى معا فى صورة حديث بالعامية بين مجموعة من النسوة العجائز ظهر فيه جهلهن بكل شئ، وكان قائدهن هو الشعور بالغيرة والحسد من المرأة الفرنسية، فنجا ببراعة من الوقوع فى مأزق طالما وقع فيه غيره ممن فكروا فى معالجة هذا الأمر فى أعمالهم الإبداعية.
وقد أشار سليمان فياض إلى أنه أخذ أحداث «أصوات» عن قصة حقيقية حدثت فى إحدى قرى الدلتا عام 1958، حيث كان فى زيارة لأحد أصدقائه من أهل القرية فسمع عن قصة فتاة أجنبية جاءت إلى القرية مع زوجها الذى كان قد هاجر من مصر منذ سنوات، وكيف أن نساء القرية أجرين للأجنبية عملية ختان حتى لا تكون فتنة للرجال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.