هى مدينة لا تعفيك من التعلق بها... ففى بورسعيد يوجد القنال والبحر، والنسمات الجميلة الباردة، و ملامح التحضر التى تعرفها الشوارع الممتدة والمتداخلة بين الأحياء المختلفة, فتجبرك على أن تصبح جزءا منها . فحقيقة عندما تصل إليها، أنت لا تأتنس بهدوء المكان، بقدر ما تستمتع بكونك جزءأ منه, مهماكان من هدوء أوصخب. فى بورسعيد، للجغرافيا صوت أعلى من التاريخ, طالما ارتبطت بقناة السويسوبسيناء وبالبحر، وطالما أصبحت شريكا فى مشروعات التنمية والاقتصاد الحر،وإن كان التاريخ يعترض!. فلا يمكن أن ننسى الفرما- التى تبعد عن بورسعيد قليلا - وفى الأصل «بر آمون» أى بيت آمون، ثم تحورت إلى «برما» ثم الفرما التى شهدت بداية الفتح الاسلامى و الحروب الصليبية، و أول قرارات لجنة حفر قناة السويس بإنشاء ميناء. صحيح أن بورسعيد لم تكن معروفة للناس بهذا الاسم قبل منتصف الخمسينيات من القرن التاسع عشر حتى اجتمعت اللجنة المكلفة بإنشاء قناة السويس وقررت إنشاء فنار وورش، وردم أجزاء من بحيرة المنزلة لتظهر بورسعيد مع ضربة أول معول فى الارض يوم الاثنين 25 أبريل 1859التى تيمنت باسم محمد سعيد باشا والى مصر الذى وافق على حفر القناة. الغريب أن عرض بورسعيد لم يتجاوز الخمسين مترا وقتها ، لتمتد المدينة للجنوب حيث حوض الترسانة والورش، وليصل عدد مساكنها إلى أكثر من ألفى منزل بعد أقل من عشر سنوات. أما قرية العرب التى كانت مجموعة من العشش البوص فقد انضمت لبورسعيد عام 1868. وهكذا كسبت بورسعيد مساحات جعلت شركة القناة تطالب الحكومة المصرية بدفع تكاليفها ، فلم تجد أمامها سوى عربات الكارو لتحصل ضرائب منها. أما جمال المدينة وهندستها فكانا محل اهتمام الحكومة التى كانت تحرر المخالفات لمن يلقى بالقاذورات فى الشوارع، لتنظر فيها محكمة الاسماعيلية. و المفارقة الأكثر غرابة أن بورسعيد التى أصبحت مدينة على الطراز الأوروبى كما تمنت شركة القناة،أصبحت هى نفسها وبالا عليهم بمقاومة أهلها للاحتلال البريطانى ثم العدوان الثلاثى. وتتغير ملامح المدينة فى السبعينيات وتحديدا عام 1976 مع إنشاء منطقة حرة لتخوض مصر تجربة اقتصادية جديدة، وترتفع أمواج الحياة بين أيام تعاند المدينة الباسلة الجميلة، و أيام تقربها من الأضواء. وبورسعيد الآن تواجه مشكلة تعرفها كل المدن المصرية التى تملك تراثا كبيرا من الابنية والعقارات كما يقول - د. أشرف المقدم أستاذ ورئيس قسم العمارة والتخطيط العمرانى بجامعة بورسعيد ورئيس لجنة حصر المنشآت المعمارية غير الايلة للسقوط - ففى السنوات الأخيرة قامت جحافل الهدم بالتعدى على كثير من المنشآت المعمارية ذات التاريخ، رغم صدور القانون 144 لعام 2006 الخاص بتنظيم هدم المبانى غير الآيلة للسقوط، حيث أوكل لوزارة الثقافة تكوين لجنة من سبعة أعضاء فى كل محافظة معظمهم من أساتذة الجامعات، وصدور قانون 2008 للمحافظة على الثروة العقارية المصرية، إلا ان اختراقات الهدم والتعدى حدثت مدعمة بقوة ضغط اقتصادية تأخذ بمبدأ العرض والطلب. ومع هذا تظل بورسعيد محتفظة بخصوصيتها، فهى المحافظة المدينة فمن ناحية المساحة تعتبر محافظة مظلومة حيث إنها محصورة بين محافظات،وهناك قرار إلى الأن لم يفعل بمنح بورسعيد مدينتين إحداهما غرب بورسعيد بينها وبين محافظة دمياط، والأخرى شرق بورسعيد عند شرق التفريعة، بالاضافة إلى مدينة بورفؤاد. فقد تأخر المخطط الاستراتيجى لهيئة التخطيط العمرانى بسبب الأحداث، وفى الوقت نفسه تتزايد طلبات السكنى، و يوجد اقتصاد عقارى يحتاج أن يتحرك ولكن بدلا من توجيهه لمدن جديدة، يتجه إلى تجريف بورسعيد من تراثها المعمارى الذى ينبغى الحفاظ عليه للأجيال القادمة. ووسط هذا كله نجد وجهة النظر السائدة تتلخص فى أنه لا مجال لتنمية المساكن القديمة، فالأفضل هو الهدم والبناء من جديد. والهدم و التجريف يبدآن بمحاولة المالك فك البلكونات بادعاء خطورتها على المارة،وأحيانا يلقى أشياء من الأدوار العلوية على السيارات، ثم يأتى دور الشبابيك لتسقط ، وكثيرا ما تترك قمامة داخل المنشأة، أويحدث تخريبا بأساليب هندسية يصبح معها المبنى آيلا للسقوط، ثم يذهب المالك للحى طالبا هدم العقار لعدم جدوى الترميم.وهى جملة مطاطية لأن المالك كما أعتقد- ينصب نفسه حكما وقاضيا وشاكيا . يحدث هذا فى بورسعيد التى تعتبر ثالث مدن الجمهورية من حيث التراث المعمارى بعد القاهرة والاسكندرية، ولحسن الحظ أن منشآت بورفؤاد معظمها تملكها هيئة قناة السويس, وهى مدركة لأهمية التراث المعمارى وتسعى دائما للحفاظ عليه. وكرئيس للجنة الدائمة لحصر المنشآت المعمارية غير الآيلة للسقوط ، حددنا نحو 139 عقارا فى بورفؤاد، و340 بحى الشرق، و106 بالعرب، و59 بحى المناخ ببورسعيد .وهذا يعنى أن العدد ليس كبيرا، بل معروف ومحدد. ولدينا لجنة تظلمات موحدة فى مصر كلها، مقرها الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، وعليها التأكد من أن المنشأة مسموح خروجها من جداول حصر المنشآت الأثرية. ولكننا نواجه بملاك يبيعون العقار لمجموعات استثمارية قادرة من خلال المحامين وسياسة النفس الطويل، ولا تيأس من محاولات إخراج عقارات من قائمة المبانى التراثية. ويضيف د. أشرف المقدم: وعلى الجانب الآخر لابد من تقديم حل للملاك أيضا، فعقاراتهم موجودة بالفعل فى أماكن مميزة وبمسطحات كبيرة، و لا يستفيدون منها رغم الضغوط الاقتصادية. ولكى نوازن بين وجهتى النظر، هناك عدة مقترحات منها على سبيل المثال أن نقدم للمالك أفكارا للترميم، ونساعده فى استخراج تراخيص من خلال جهازالتنسيق الحضارى، وأن نتعاقد مع الشركات التى يمكن أن تسهم فى ترميم المبنى سواء كانت فنادق أو شركات. وهناك أمثلة فى منطقة حوض البحر المتوسط لإعادة تأهيل عقارات عن طريق مسابقات ومعاهد و مؤسسات يمكنها تقديم الدعم. كما يمكن ترميم المبانى بمساعدة الأهالى أنفسهم ، كما حدث فى منطقة الدرب الأحمر بالقاهرة التاريخية. و لحسن الحظ تملك بورسعيد ميزة وجود شركات ملاحة وسياحة يمكنها المشاركة فى الترميم، لتجدد وتصبح مقار لها بالاتفاق مع المالك الذى يمكنه أخيرا استثمار أملاكه. الاقتصاد العقارى الحر نفسه يمكن أن يشارك فى التنمية بوضع توجيه تخطيطى وبدائل للامتداد العمرانى فى المدن الجديدة. وهناك «خريطة القيمة» التى يتبناها جهاز التنسيق الحضارى لوضع كل المنشآت الحضارية ذات القيمة عليها، وللأسف هذه الخريطة ليست واضحة بالنسبة لبعض المناطق مثل شمال سيناء حيث اعتبر الأهالى أنهم لا يملكون منشآت تاريخية، رغم وجود أول بقعة رفع فيها العلم المصرى بعد حرب 1973، وأول محطات العائلة المقدسة. كما أن قطار الشرق السريع لو حققنا عودته سوف يحدث تنمية اقتصادية وسياحية. واجهات خشبية و طرز أوروبية: ويشير د.محمد حسام الدين إسماعيل عضو اللجنة و أستاذ الآثار بجامعة عين شمس إلى الكنز الأثرى الذى تملكه بورسعيد وينتمى للفترة من نهاية القرن التاسع عشر وحتى الخمسينيات، حيث تتميز مدن القناة بالواجهات الخشبية وبالطرز الأوروبية الفرنسية والإيطالية، كما تتمتع بورسعيد بحدائق نادرة كحديقة فريال. وهناك عدد كبير من كنائس الطوائف اليونانية والأرمن واللاتين والمارونيين ذات التصميمات المختلفة. ووسط هذا الجمال يستمر الإيجار القديم ثابتا كما هو الحال فى مصر كلها. ولهذا يلجأ ملاك العقارات المتميزة إلى إحداث تلفيات بعد أن أصبحت لا عائد لها. فقانون الإيجار القديم يدمر الثروة العقارية. وهناك تجارب وأفكار، ففى سوريا كان الاتحاد الاوروبى يمنح قروضا لأصحاب البيوت القديمة التى توجد بها تلفيات. وكان يكلف مهندس لتحديد مدى التلف وتحديد قيمة القرض الذى يسدد بالتقسيط المريح. والاتحاد الأوروبى يهمه الحفاظ على تراث البحر المتوسط، والشقق القديمة فى باريس مثلا تؤجر بالمتر المكعب بسبب الارتفاعات الكبيرة للشقق التى تماثل دورين. كما أنه قبل هذا وذاك لابد من تفعيل قانون التنسيق الحضارى، فلا يجوز تغيير الواجهات أوتفاصيل أى مبنى أثرى. وفى بورسعيد توجد محاولات للحفاظ على الهوية، وهناك جمعية تضم شبابا تسمى «على قديمه» تقوم الآن بتأجير مبانى شركة قناة السويس القديمة دون إضرار بالمبنى أوإهدار لحق المالك. الحل فى شرق التفريعة ويرى د.حسن الغطاس أستاذ المنشآت الخراسانية بكلية الهندسة جامعة بورسعيد وعضو اللجنة أن مشكلة بورسعيد الأولى تكمن فى محدودية مساحة الأماكن التى يبنى عليها، ولهذا فهناك اتجاه لهدم البيوت القديمة سواء كانت سليمة أو غير سليمة من الناحية الإنشائية. فمسألة المحافظة على الطابع والتراث تبدو بعيدة عن كثيرين وخاصة أن بورسعيد من أعلى المناطق سعرا فى سوق العقار. ولهذا فلابد من إجراء رادع للوقوف أمام هذا التجريف، كما أنه من الناحية الهندسية لا تستطيع البنية التحتية من مياه وكهرباء وصرف صحى أن تستوعب كل هذا العدد من السكان.فأكبر مبنى كان لا يتجاوز أربعة أدوار، ولكن الآن يحمل أربعة أوخمسة أضعاف فوق طاقته.ولهذا يمكن أن تأتى لحظة لا نجد فيها مياها ولا كهرباء. وأعتقد أن شرق التفريعة حل جيد لهذه المشكلة، فهناك مساحات شاسعة من الأراضى.ويمكن نقل كليات جامعية إليها، وإنشاء كوبرى ليتجه الناس إلى ظهير بورسعيد غير المعمر، والقريب من سيناء. كما يجب على اللجان الانشائية إلا تنظر إلى جدوى ترميم المبنى من الناحية الاقتصادية فقط ، فهناك تاريخ يسكن هذه الاماكن. وهل يصدق أحد أن قرارات إزالة صدرت لستة وعشرين مبنى، وهل من واجبنا أن نجلس بجوار كل مبنى لنحرسه؟!...ما يحدث الآن تجريف حقيقى..فانتبهوا.