وكأن مصر نفضت يدها من غبار متاعبها وأزماتها المتكاثرة، واستقرت أحوالها، وعادت إلى سابق عهدها من القوة والمناعة واشتد عودها، حتى يخرج من بيننا من يدعو جيشنا للقيام بعمليات عسكرية خارج الحدود، دفاعا عن أمننا القومى المهدد من جهة باب المندب بعد سيطرة الحوثيين بالقوة على السلطة فى اليمن الذى لم يعد سعيدا، وحفاظا على أرواح مواطنينا المعذبين فى ليبيا على يد عصابات داعش الباغية التى تمادت فى وحشيتها وتعطشها غير المحدود للدماء، فقد تحول عناصرها إلى مصاصى دماء لا يقدرون على العيش بدونه.تلك دعوات مغرضة لا تتفق ولا تستقيم مع مصلحة المحروسة الآن ولا فى المستقبل المنظور، ومن يرددها ويلح عليها يقف، مع الأسف، فى خندق واحد مع أعداء مصر الذين يضمرون لها الشر على طول الخط، فما من شك فى أن مصر وقادتها حريصون لاقصى درجة على المحافظة على أمنها القومى مما يحيق به من اخطار وتحديات، وهى كثيرة، وكذلك بذل ما في طاقاتهم ووسعهم من أجل حماية المصريين فى اى بقعة من بقاع الأرض، وصون كرامتهم وآدميتهم، لكن هذا لا يعنى الانجرار للدخول فى مغامرات عسكرية يعلم الله وحده كم ستطول، وما سيتمخض عنها من خسائر سنجبر وستجبر الأجيال القادمة على دفع فواتيرها لحين من الوقت؟ اعلم واستوعب واقدر أن الرأى العام تحركه شحنات قوية من الألم والحسرة، جراء مشاهدة مواطنين مصريين - واشدد على مواطنين - وليس اقباطا مثلما يحلو لوسائل إعلامنا نعتهم، وهم يساقون للمجهول على احد شواطئ العاصمة الليبية مرتدين ملابس الاعدام الصفراء، ثم اختطاف 21 صيادا فى مصراته أمس الأول، غير أن مهاجمة القوات المسلحة، أو قيامها بغارات محدودة - كما يطالب البعض - ضد مواقع داعش الحيوية لن تسفر عن تحقيق الغرض المرجو، لأن داعش ليست سوى المخلب الذى يستخدمه الفرع الليبيى من جماعة الإخوان الإرهابية، فميليشياته المسماة «فجر ليبيا» تسيطر على الجزء الأكبر من أراضى ليبيا المستباحة من قبل جماعات الإرهاب والتطرف بإيعاز من الإخوان، والقضاء عليهم يلزمه الدفع بقوات برية سيدفع بهم لمحرقة ستزيد من حسرتنا ووجعنا، فإن قررنا الاستعانة بالقوات الجوية فالتأثير سيكون محدودا ولنا عبرة ومثال فى نتائج غارات قوات التحالف الدولى على داعش فى سوريا والعراق. عند هذه النقطة نصل «لمربط» الفرس كما يقولون، فليس سرا أن الولاياتالمتحدة تضعط على مصر لاقناعها بارسال قوات برية لقتال داعش، بعدما افادت تقارير وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» والبيت الأبيض بأن دحر التنظيم الإرهابى سيتم إذا ارسلت قوات برية خاصة لسوريا، غير أن الكونجرس الذى منح الرئيس باراك أوباما قبل أيام تفويضا لاستخدام القوة العسكرية ضد داعش تساوره الشكوك والمخاوف مما ستتكبده أمريكا من خسائر بشرية، ولذلك يريدون تجنب هذا السيناريو المخيف، لاسيما فى ضوء تجربتهم المريرة فى أفغانستان والعراق باقناع أطراف أخرى بخوض حرب بالوكالة عنها. ولأن مصر قاومت ضغوط واشنطن لجأت الأخيرة للتصعيد ضد القاهرة بحجب المساعدات العسكرية تارة بذرائع وحجج واهية، وتارة أخرى باستغلال ورقة الإخوان واستقبال وفودهم بوزارة الخارجية، وغيرها من المؤسسات الرسمية، والتلكؤ فى ادانة ما ترتكبه الجماعة من جرائم إرهابية داخل مصر، وسعيها الحثيث لاشعال حرب اهلية، لمعاقبة المصريين على خلعهم من الحكم، وتشعر أمريكا بانزعاج شديد من فكرة تنويع مصر مصادر تسليح جيشها، حتى لا يبقى تحت رحمة الضغط والابتزاز الأمريكي، وتقارب القاهرة وموسكو. ولم تكن مصر وحدها محل الضغط الذى شمل أيضا السعودية التى كان لها مواقفها المشهودة والداعمة للشعب المصرى منذ ثورة الثلاثين من يونيو، والمنددة بالإخوان وتسترهم بالدين واساءاتهم للإسلام بأفعالهم المشينة المخزية، لاحظ مثلا كيف أن وكالة «الاسوشيتدبرس» الأمريكية بثت مؤخرا اخبارا، حول أن مصر والسعودية يجهزان قوة مشتركة للتدخل فى اليمن وانقاذه من قبضة الحوثيين، مع أن البلدين أكدا مرارا وتكرارا استبعادهما الخيار العسكري، فى الوقت الذى أعلن فيه مجلس التعاون الخليجى دعمه ومساندته الحل السياسى وليس العسكرى لإنهاء الأزمة اليمنية. إن دعاة التدخل العسكرى المصرى سواء فى ليبيا أو اليمن أو غيرهما يغفلون عن عمد ثوابت راسخة فى السياسة المصرية بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو: أولا إن الظرف الداخلى لا يسمح لمصر بالانخراط فى حرب خارجية، فهى تعيد ترتيب البيت، وتطهره من جراثيم الإرهاب والتطرف، والتخلف الاقتصادي. ثانيا: إن مصر تفضل الحلول السياسية للأزمات العربية، وتضع فى اعتبارها وحسابها كثرة الساعين لتفتيت وتقسيم الوطن العربي، والشاهد أن الموقف المصرى المعلن يركز دائما على بقاء سوريا والعراق واليمن موحدة وألا تمتد إليها يد العابثين والمحرضين على التقسيم. ثالثا: إنه عندما شاركت مصر فى حرب الخليج الثانية فإن ذلك كان فى إطار جماعى ووفقا لقرارات دولية، وغايتها كانت تحرير بلد عربى احتله بلد عربى آخر، فالقاهرة تعى جيدا خطورة التحرك المنفرد، اما عن حرب اليمن مطلع ستينيات القرن الماضى فإن انخراطنا فيها جاء فى سياق داخلى واقليمى ودولى مغاير عما نحن فيه، واحسب أننا استوعبنا الدروس المستفادة منه، وما تحملناه من تكلفة بشرية واقتصادية باهظة.. علينا الحذر من محاولات توريط الجيش المصرى فى معارك خارجية، فتلك دعوات فيها سم قاتل. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي