وأقصد بوثيقة نوبل الكلمة البديعة الضافية التى كتبها نجيب محفوظ لتُلقى باسمه فى احتفالية تسلم جائزة نوبل عام 1988. أذكر أن صداها - فى نفوس المصريين العرب والأجانب - كان عميقًا هائلاً فى لغتها الأصلية العربية التى أبدعها نجيب محفوظ وفى الترجمة التى قام بها وقام بإلقائها عن نجيب محفوظ الأستاذ محمد سلماوي. وأذكر أن هذا الصدى الجارف والمؤثر، دفع بعض الكتاب إلى المطالبة بتضمينها كتب وزارة التعليم فى مناهجها المختلفة، بحيث لا تكون مقصورة على دروس اللغة العربية والنصوص الأدبية بل لا بد أن تتضمنها كتب التاريخ والتربية الوطنية - إن كان لا يزال لها منهج مقرر، وكتب العلوم التى لابد أن تشير إلى نوبل - مخترع الديناميت الذى كفّر عما سببه من أضرار للبشرية - بإقامة هذه الجائزة التى تمنح فى كل عام فى مجالات الأدب والعلوم والسلام. فهل تم تضمين هذه الكلمة، الوثيقة الأدبية والفكرية، أم لا؟ لقد ذكرنى بها كتاب جديد - شديد الأهمية والجمال - صادر عن دار المعارف فى العام الماضى - بقلم المحامى الجليل والكاتب والمؤرخ الدكتور أحمد السيد عوضين، الذى ترافع عن نجيب محفوظ أمام محكمة الجنايات بسبب روايته الشهيرة أولاد حارتنا، مسمِّيًا كتابه محاكمة أولاد حارتنا، ومثبتًا بمرافعته التاريخية سلامة موقف المؤلف العظيم وطهارة قصده وسموّ مراميه، وبراءته من كل ما هو منسوب إليه. والكتاب - بهذا المعنى - يقدم إحاطة شاملة بقضية هذه الرواية، حين يبدأ بتحليل شخصياتها ورد فعل مؤسسة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية، وخطباء المساجد والصحفيين والكتاب وأصحاب الأعمدة، كل بحسب توجهاته ورؤاه، ثم يعرض للمحاكمة أمام القضاء، وما انتهى إليه الحكم من براءة الكاتب الكبير من تهمة ازدراء الأديان، الأمر الذى هيأ لطبع الرواية فى مصر. من هنا، فالكتاب يزدحم بأقوال الشيخ كشك والدكتور المطعنى والدكتور عبد الجليل شلبى ومحمد جلال كشك ورجاء النقاش والدكتور جابر عصفور. مبرزًا المحاكمة السرية التى أجراها فريق من الإرهابيين والمتطرفين الذين اعتبروه مرتدًّا، وقضوا بإهدار دمه، فى يوم 14 أكتوبر عام 1994، عندما طعنه شخص مجهول بمطواة فى رقبته طعنة شديدة قاسية، أحدثت به جرحًا غائرًا، وراح ينزف دمًا بعد أن أحدثت الطعنة - طبقًا لما أعلنه الدكتور سامح همام أستاذ جراحة الأوعية الدموية الذى أجرى عملية إيقاف النزف - تهتُّكًا فى عضلات الرقبة فى الجهة اليمني، وتهتُّكًا بالوريد الونجى الخارجى والداخلى الأيمن، وكان أخطر ما فى الإصابة النزف الشريانى المندفع من عمق الجرح قادمًا من الشريان الفقرى الأيمن المخترق للنتوءات المستعرضة للفقرات العنقية. أعود إلى وثيقة نوبل، كلمة نجيب محفوظ التى ألقيت فى حفل تسليم الجائزة، لأنى أعيد التذكير بها، وأنبِّه المسئولين عن مناهجنا التعليمية - التى يشكو سوءها الكثيرون - إلى حديث نجيب محفوظ عن كونه ابن حضارتين تزوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجًا موفَّقًا أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة، وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهى الحضارة الإسلامية. وبعد أن يورد موقفين جليلين من مواقف هاتين الحضارتين، يكشفان عن تمسك الأولى بالحقيقة والعدل، وإيمان الثانية بوحدة بشرية تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، يؤكد أنه ولد فى حضن هاتين الحضارتين، وأنه رضع لبانهما وتغذَّى على آدابهما وفنونهما، كما أتيح له أن يرتوى من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة. ثم يقول: ومن وحى ذلك كله - بالإضافة إلى شجونى الخاصة - ندّت عنى كلمات أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم الموقرة، فتوجت اجتهادى بجائزة نوبل الكبري. فالشكر أقدمه لها باسمى وباسم البناة العظام الراحلين من مؤسسى الحضارتين. ثم يقول نجيب محفوظ فى كلمته التاريخية البديعة العامرة بلغته وأدبه وفكره وحصاد حكمته: لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص؟ وهو تساؤل فى محله. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها. يهلك منه أقوام فى آسيا من الفيضانات، ويهلك آخرون فى أفريقيا من المجاعة. وهناك فى جنوب أفريقيا ملايين المواطنين قُضى عليهم بالنبذ والحرمان من أيٍّ من حقوق الإنسان فى عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر. وفى الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم. هبّوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائي، وهو أن يكون لهم موضع مناسب يُعترف لهم به . فكان جزاء هبّتهم الباسلة النبيلة - رجالاً ونساءً وشبابًا وأطفالاً - تكسيرًا للعظام وقتلاً بالرصاص وهدمًا للمنازل وتعذيبًا فى السجون والمعتقلات، ومن حولهم مائة وخمسون مليونًا من العرب، يتابعون ما يحدث بغضب وأسي، مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين فى السلام الشامل العادل. كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصًا؟. ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف. وكما أنه يعايش السعداء فإنه لا يتخلى عن التعساء، ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش بصدره. وقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل. آن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين. نحن فى عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية، أنقذوا المستعبدين فى الجنوب الإفريقي، أنقذوا الجائعين فى إفريقيا، أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب، بل أنقذوا الإسرائيليين من تلويث تراثهم الروحى العظيم. أنقذوا المديونين من قوانين الاقتصاد الجامدة، والفتوا أنظارهم إلى أن مسئوليتهم عن البشر يجب أن تقدم على التزامهم بقواعد علم لعل الزمن قد تجاوزه. هل هناك رسالة إلى العالم، أجمل وأصدق وأحكم من هذه الرسالة علمًا وتاريخًا وحضارة وإنسانية؟ إن نجيب محفوظ - فى هذا المقام الدولى الرفيع - يتمثل دور المحامى لأمته المصرية والعربية، المترافع عنها، والمواجه لأعدائها، بالموقف والحجة والبرهان، دون صخب أو جلبةٍ أو ادعاء. هذه كلمة أدبية ناصعة البيان، عظيمة الإشراق بما فيها من المعانى والقيم السامية والخطاب الحكيم المسئول ، متوهجة بالمعرفة والوعى والنبل. وهى - بهذا كله - صالحة لأن تقررها وزارة التعليم ضمن مناهجها فى القراءة والنصوص الأدبية الرفيعة، وضمن دروس التاريخ التى تجلت فى الموقفين اللذين تمثل بهما نجيب محفوظ بالنسبة للحضارتين الفرعونية والإسلامية. وهى بالإضافة إلى هذا كله درس فى لغة الدبلوماسية والقانون والمرافعة فى الدوائر العليا من القضاء المحلى والدولي، ولغة الخطاب القومى والعالمي. وعلى وزارة التعليم ألا تلقى بها حجرًا فى الماء، وإنما لابد من وضعها فى سياقها من حيث المناسبة، وفى سياقها من حيث بلاغة الأداء وجلاء الحق وإشراق لغته وحجته، وفى سياقها من حيث توهجها بالوطنية والانتماء، ونُبْل الدفاع عن الإنسان المظلوم فى كل مكان وزمان، ما دامت قضيته عادلة وحجته ساطعة. فهل يعيد المسئولون عن التعليم قراءة هذه الكلمة الوثيقة؟ وهل يقرأونها - بعين الحاضر الذى نعيشه الآن - بعد إلقائها على سمع العالم منذ سبعة وعشرين عامًا؟ وهل يلتفتون إلى أنها تحمل عناصر ديمومتها وتعبيرها عن اليوم كما عبرت عن الأمس، وكما ستعبر عن الغد؟ هل يقرأون؟ لمزيد من مقالات فاروق شوشة