أسعار الجمبري والكابوريا اليوم السبت 4-5-2024 في محافظة قنا    عمرو أديب عن الفسيخ: "مخلوق مش موجود غير في مصر.. تاكله وتموت سعيد"    مصدر ل تايمز أوف إسرائيل: صبر واشنطن مع حماس بدأ ينفد    8 مستندات لتحديد تاريخ مخالفة البناء.. اعرفها لتقديم طلب التصالح    أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024.. عز 24155 جنيها للطن    توريد أكثر من 16 ألف طن قمح بالإسكندرية    أخبار مصر: خبر سار للاقتصاد المصري، فرمان بنهاية شيكابالا في الزمالك، شيرين تثير الجدل بالكويت، أمريكا تطالب قطر بطرد حماس    أسعار الذهب في بداية تعاملات السبت 4 مايو    حسين هريدي: أمريكا لا تؤيد فكرة وقف إطلاق نار دائم في غزة    دبلوماسي روسي ينتقد الاتهامات الأمريكية بتورط موسكو في الهجمات الإلكترونية على أوروبا    بلينكن يقول إن هجوما إسرائيليا على رفح سيتسبب بأضرار "تتجاوز ما هو مقبول    جيش الاحتلال يعتقل 5 فلسطينيين من بلدة سبسطية شمال غربي نابلس بالضفة الغربية    الزمالك يختتم تدريباته استعدادًا لمواجهة سموحة    موعد مباراة الأهلي والجونة والقنوات الناقلة في الدوري المصري    بداية من اليوم.. ممنوع دخول المقيمين إلى مكة المكرمة إلا في هذه الحالة    تصل ل600 جنيه.. سعر اللوحات المعدنية في قانون المرور الجديد (تفاصيل)    حالة الطقس المتوقعة غدًا الأحد 5 مايو 2024 | إنفوجراف    مونودراما فريدة يختتم لياليه على مسرح الطليعة في هذا الموعد    نشرة المرأة والصحة : نصائح لتلوين البيض في شم النسيم بأمان.. هدى الإتربي تثير الجدل بسعر إطلالتها في شوارع بيروت    اكتشاف جثة لطفل في مسكن مستأجر بشبرا الخيمة: تفاصيل القضية المروعة    إصابة 15 شخصًا في حادث سيارة ربع نقل بالمنيا    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام وولفرهامبتون    30 دقيقة تأخير في حركة قطارات «القاهرة - الإسكندرية» السبت 4 مايو 2024    حدث ليلا.. خسارة إسرائيل وهدنة مرتقبة بغزة والعالم يندفع نحو «حرب عالمية ثالثة»    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    مصرع شاب في حادث اليم بطريق الربع دائري بالفيوم    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهلا يا أنا
بيان عاطفى رقم واحد بعد المليون
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 02 - 2015

أستطيع الآن أن اغمض عينى لأرى وقائع ما جرى ، لحظة أن امتد من عينيها شعاعان من حنان وثير ، وخرجت هالة من نور من كلينا ، لتعانق كل هالة الهالة الأخرى .
اقتربنا لنمتزج بحيرة لا نعرف لها بداية ، رأيت نفسي في عيونها كأني طفلها ، رأيتها في عيوني وكأنها مدينتي . ولا أعرف كيف امتلكنا جرأة العناق دون تردد ، كأن كلا منا مقهور على أن يكشف كل وجوده للآخر . تاهت عيوني في تفاصيلها ، وتاهت عيونها في تفاصيلي ، لنذوب اقتراباً ، ونولد افتراقاً ويخرج خصام كل منا مع نفسه ؛ لنوافق على العالم كما هو .بعد أن نسينا أسماء الأيام . و خرج الهواء من تنفسها ناعماً موسيقياً ليتناغم مع الهواء الخارج من صدري. ومن هذا وذاك جاءت رائحة الفل ؛ فتيقنت أني جئت إلى العالم لسبب واحد هو أن ألقاها ، وأن كل جمال في الكون لا يكتسب وجوده في قلبي إلا من إدراكي أنها قريبة مني .
فأنا وحدي الذي يعرف ما حدث_ أو يحدث_ لي حين يمتد من عينيها شعاعان من حنان وثير ؛ أو حين همست شفتاها بكلمات لم أسمعها ، فقد تعانق صوتها مع نظرات عيونها لتتم إعادة ميلادي . كنت أعلم كلما رأيتها أني أنا العاشق من جديد لها . وأني معها أتخطى وهج الاندفاع لأولد من نقطة الصفر . هذا الصفر الذي نتحدث عنه جميعاً بارتباك ،أو نتجاهله ، أو نضيفه إلى يمين الأرقام حتى يبدو هاماً ،و ننسى أنه أضخم اختراع عربي أعطته الحضارة ذات نهار قديم ليعيد تشكيل العالم ، والذين يستوعبون علوم الرياضيات المعقدة يعلمون أن الصفر هو نقطة التعادل ، فإذا ما حدث في الصفر انفجار الشتات ؛فقوة الطاقة الذرية تولد منه ، لأن الانفجار النووي ليس إلا تشتتاً في حالة الصفر الصغير القابع في الذرة ، والذين يتابعون اختراعات العالم المعاصر يعلمون أن تجميع شتات أي كائن مبعثر هو إعادة ميلاد للصفر ، وفي أرقى درجات هذا التجميع يحدث الاندماج النووي وهو أشد قوة من القنبلة الذرية ، والحمد لله أن الاندماج النووي حتى الآن لم يستخدم في تدمير الحياة بل في إعادة ميلادها ، وأنا وحدي من أقول أن في قلب كل رجل «نصف صفر تائه» يبحث عن «نصف الصفر» الذي يكمله ، كنت قبل ذلك لا أعرف لماذا خلقني الله في هذا العالم ، لكني عرفت منذ لقانا سببا لوجودي على هذه الأرض ، السبب هو أن التقي بهذه المرأة التي أعادت لي نصف صفري المفقود . وتقول لي رحلة العمر معها أنها بيت الروح الممتلئة بأنوثة تخصني وحدي . وفور أن نلتقي ينتبه كل منا إلى أن المسافة بيننا ترتج باقتراب خاص . ويخرج الضوء الذي يحيط بي ليعانق الضوء المحيط بها ، ويحاول الضوءان أن يقتسما نفسيهما من جديد؛ فيعانق ضوئي ضوءها ، ويصبح كل منا معلقاً بالبحث عن اختباء من موقف الكشف النفسي المكتمل الذي يمر بنا . نتقرب لنمتزج ، نذوب لنفترق ، نعيد الاقتراب ، نعيد الابتعاد ، يمد كل منا يده إلى الآخر حتى يلقاه . وما أن تتلامس أيدينا حتى يخرج خصام كل منا مع نفسه بعيداً عنا ، وهكذا تولد لحظة المصالحة بيننا وبين العالم . ونوافق على العالم كما هو ، وينسي كل منا أسماء الأيام ؛ لتلمع عيوننا بالارتباك الجميل . ونرى أن ما يجري في العالم لا يخصنا ، فنحن لن نحمل أحزان الساسة ولا نسمع دهس الحياة بالحروب ، وسنجري معاً على ساحة من العشب الوليد ، ولن يوجد قبح في الحياة . يصير كل منا كائناً غريباً عن مخلوقات هذه الأرض . نقترب من الحلم الوحيد الذي يسيطر على خيالي ، وهو أن نصبح صفراً واحداً في حالة من الاندماج .
..................
هكذا كانت أفكاري وأنا أخطو خارج ميناء بيريه ، قاصدا محطة الترام الذي سينقلني إلى أثينا . جاء مقعدي بالترام بجانب حلوة أيقنت أنها إيطالية ، فهي مزيج من آنا منياني وصوفيا لورين ، قلت لنفسي « هل سأندفع للحوار معها ؟» ثم تابعت كلماتي لنفسي « ما الذي يجمع الغرباء على درجة من الصدق الذي قد يبوح فيه الإنسان إلى الآخر ببعض مما في نفسه ؟ . وكأنها كانت تسمعني فقد خرجت الكلمات من شفتيها بتلقائية الغرباء،وتساءلت نفس السؤال الذي في أعماقي : « ما الذي يجعل الغرباء يريدون الاعتراف بأدق أسرار حياتهم ؟».
كانت هي أول من نطقت السؤال،وكنت أول من قال : « إن الغريب يستطيع أن يحكي للغريب حياته كما يراها لا كما عاشها .»
قالت : ويمكن أيضا أن يقول الغريب للغريب أدق تفاصيل حياته، وهو متأكد أنه لن يستخدمها ضده .
أقول : الغريب قد يلعب في حياتك دور قسيس الاعتراف،تلقي في وجهه كل ما عندك من خطايا ، وأنت واثق أنك لن تلتقي به مرة أخرى .
قالت وهي غارقة في الضحك : هذا أدق وصف .
فتابعت القول : أستطيع إذن أن أتحدث إليك وأن تحدثيني ولا يخاف أي منا من سوء استخدام المعلومات .
قالت : روعة لقاء الغرباء تتلخص في ذلك ..
أقول : إن المبادئ والملابس والأشخاص مهمتها في المدن الكبيرة أن تغلف الإنسان بغلاف يساعده على لقاء غيره ممن قاموا بتغليف أنفسهم أيضا .
تقول : تصور كل منا عبارة عن « تاريخ وجغرافيا « مغلفة في الملابس.ولكن الصدفة التلقائية تحرر أفكارنا من التغليف المسبق .
أقول : أنا كمصري دارس للفلسفة أحب هذا النوع من التفكير .
تقول مندهشة : مصري . إن وطنك يعني لي أشياء كثيرة .
أقول : لقد لخصوا لي الوطن في جواز سفر يحمل اسمي،ومهنتي كصحفي.وها أنا ذا سأقضي ليلتي في أثينا دون أن أعرف كيف.
تقول : سنتجول فيها،فأنا أحفظها،وعندما ترغب في العودة إلى المركب التي تنزل بها سأعود معك،لأنك لا تعرف أني قادمة على مركب أخرى تقف بجانب مركبك المصرية .
قلت : كيف عرفت أن مركبي تقف الآن في الميناء ؟
أجابت : لقد سألنا قبطان سفينتنا «من منكم ترغب في زيارة مصر ؟».وأشار إلى السفينة الواقفة بجانب سفينتنا،وقال « بما أن كل سفينة ترفع علما تصبح قطعة من بلادها،فأنا صديق للقبطان المصري،ويمكن أن أطلب منه أن يوجه الدعوة لأي عدد منكم لتقضوا وقتا فوق المركب المصرية،إنها مركب قديمة ولكنها أنيقة .
أقول : وها أنت تلتقين بأحد الركاب .
تقول : لماذا أنت موجود في أثينا ومسافر إلى أين ؟
أقول : مسافر إلى باريس . مهمتي العلنية مهمة صحفية، وهدفي الحقيقي هو أن ألتقي بمن أحب .
تقول : هل ستقضي أياما في روما ؟
أقول : روما أعرفها من خلال صديق لأبي كان يرأس ورشة شركة فورد لإصلاح السيارات.وكانت ابنته صديقة لي وتمنيت أن أتزوجها،لكن أمي وقفت ضد فكرة الزواج بأجنبية،ولم يبق لي من الصداقة مع روما إلا ما أقرأ من أدب ألبرتو مورافيا،وعميق الإعجاب بصوفيا لورين .
تقول : ألا تتمنى أن تعيش في إيطاليا ؟.
أقول : ابن أي أسرة متوسطة في العالم يتمنى الهرب من أسرته إلى عالم آخر.أنا أعي هذه الحقيقة،ولا أرغب في زيارة أي مكان آخر غير عيون حبيبتي .
تقول ضاحكة : ما أسعد حبيبتك بك .
أقول : صدقيني أني لا أهتم بالعالم ، ولا بالكرة الأرضية إلا لسبب واحد هو أن حبيبتي تسكن في مكان ما من هذه الأرض .
..................
وعلى الرغم من صدقي الشديد وأنا أتحدث مع الفتاة الإيطالية ، إلا أني لم أمنع عينيّ من قياس مدى قدرتي على الخطأ بخيانة الحبيبة .
..................
تعجبت من امتلاء شوارع أثينا بمن يبيعون أوراق اليانصيب.كنت أظن أن أهل اليونان أكثر تحضرا من بقية سكان الأرض،فهم أهل الإسكندر الأكبر. ووجدت أمامي شمسا واضحة،ورذاذ مطر خفيف. سافرت بي أوراق اليناصيب إلى تذكر البائعة المختبئة مع عاشقها بائع الجرائد في بئر سلم عمارة بشارع نبي الله دنيال بالإسكندرية وقت أن كان جنود الإحتلال الإنجليزي يطلقون الرصاص عشوائيا بشوارع الإسكندرية في فبراير 1947، أروي الحكاية للإيطالية فتضحك قائلة « لقد كسبت تلك بائعة اليانصيب جائزة الحياة الأولى ، وهي عناق من تحب ».
أقول : نحن الان في أثينا التي يهرب من الحياة فيها ذلك المليونير صاحب ناقلات البترول المسمى أوناسيس ،ويفضل الحياة على ظهر يخت يجوب به البحار وتنشر الصحف أخبار قصة حبه لامرأة تقلب كيان الأثرياء بصخب جمالها وقوة صوتها ، وأعني بها مطربة الأوبرا « ماريا كلاس ». قالت الإيطالية : لعله أراد الهرب من الحياة مع البشر وفضل الحياة مع الحيتان ، فهم أكثر حنانا من البني آدمين ، ألم تر كيف فعل البشر بمثقف لمع كرئيس للولايات المتحدة هو جون كيندي ؟ لقد اغتالوه .
قلت : في أمريكا أنت لا تعلمين من يغتال من ؟ ولكن من المهم هو التجارة بالفرح أو الحزن ، وستجدين عشرات من مقالات الرثاءوسوف نرى دموع زوجته جاكلين كنيدي تملأ الصور الفوتوجرافية في المجلات والتليفزيونات .
ولم نكن أنا أو الإيطالية الشابة نعلم أن أوناسيس سيترك بعد سنوات عشيقته مغنبة الأوبرا الأشهر في زمانها ماريا كلاس ويتزوج جاكلين كيندي .
..................
التسكع في شوارع أثينا يقودني إلى ميدان صاخب . أسير بصحبة الإيطالية دون أن يمسك أحدنا يد الأخر . أتذكر وجه صديقي صاحب الجذور اليونانية والمتمسك بمصريته،على الرغم من أنه ينطق اللغة العربية بصعوبة،مخالي صاحب محل الإليت في الإسكندرية. كان يضحك قائلا « إحذر أن تمسك بيد إمرأة في أول لقاء ، لأنها قد تصحبك إلى حياة لا تريدها . وهذا ما أعلنته للإيطالية ، فضحكت كثيرا وبدأت أحكي لها بعضا من تفاصيل حياة مخالي الذي ولد في دمنهور وأحب كريستينا ابنة صاحب محل البقالة الكبير ، وجاء إلى الإسكندرية ليكتشف عشقه اللانهائي للفن التشكيلي وصاحب الفنان سيف وانلي.كان مخالي وإيليت هما عطر الإسكندرية الجميل.ليال كثيرة أمضيتها مع سيف وانلي ومخالي في الإيليت؛حيث كان سيف وانلي يحترف الصمت ويحترف مخالي الكلام،ليحكي عن قراءة المستقبل العاطفي بحكاية يونانية شعبية،وكيف أمسك العاشقان بالعظمة التي تقع في صدر الفرخة وحاول كل منهما أن يشد طرف العظمة الذي يشبه رقم ثمانية،فان من يجذب العظمة الرفيعة وهي تحمل الرأس المدبب فهو الضعيف الشخصية .
ضحكنا على تفسير مخالي ، ونحن نتوقف أمام مقهى يوناني يزدحم بالشباب
تساءلت : مع كل الجميلات اليونانيات أين توجد بطلة فيلم « أبدا الأحد « والذي لعبت بطولته إيرين باباس ؟ قالت الإيطالية « لن تجد في الكرة الأرضية واحدة في تلك المهنة مثل إيرن باباس ، فليست بنات الليل مثقفات مثلها . لأن الواحدة منهن تنفصل روحها عن جسدها. أقول : في القاهرة حيث أعيش ببنسيون ، لي جارة تعمل في مثل تلك الأعمال ، بشرط ألا يأتي الزبائن إلى حجراتها، وأرقبها كثيرا ، ولا أندهش حين لاتنزل إلى الملهى الذي تعمل فيه؛ إلا بعد أن تصلي العشاء ثم أسمعها وهي تبتهل إلى السماء طالبة الرزق من أجل أن تربي « جهاد».و«جهاد» هو ابنها الذي في السابعة من العمر.وكانت تحشر نفسها من بعد ذلك في فستان يظهر أكثر مما يخفي،وتقول وهي على باب البنسيون « وسع رزقي يا رب «.كنت أضحك منها كثيرا.وكانت صاحبة البنسيون مدام كيتي التي فوق الستين تنهاني عن هذا الضحك الساخر. كانت مدام كيتي تعلم أني أضحك عليها هي أيضا حين أدقق النظر فيها عندما تتوتر كل يوم سبت لحظة أن تتحامل على جسدها النحيف وتنزل لتشارك وتراهن في سباق الخيل . كانت تدمن المراهنة على الخيل،وتدمن أيضا تربية الكلاب والقطط،وتدمن ثالثا مصادقة أي شاب يقبل العبث معها،وتعده أن تقدم له علاقة مع فتاة بولندية تقيم في القاهرة،وتأتمر بأوامرها.كانت مدام كيتي أرملة سائق تشرشل رئيس وزراء إنجلترا أثناء الحرب العالمية الثانية،وهي ألمانية الجنسية تدير البنسيون المقابل لعمارة الإيموبيليا في شارع شريف . وحين ضبطتني أضحك على جارتي التي تطلب سعة الرزق من عملها في الملاهي الليلية،علا صوتها بالعتاب الغاضب .
أذكر أن مدام كيتي قالت لي:» لا توجد سيدة منحرفة،ولا يوجد رجل منحرف،لكن توجد ظروف منحرفة.عليك أن تؤمن بذلك ككاتب،لأن مهمتك أن تدافع عن الإنسان،لا أن تلومه،فاللوم يحولك إلى واعظ لا يفهمه أحد،فقط يؤدي الناس معه الصلوات ويتركونه وحيدا من بعد ذلك
تقول الإيطالية : صاحبةالبنسيون إمرأة مليئة بالحكمة ، لعلها تفكر فيك الآن ولو علمت بلقانا لقالت لك « لقد عثرت أنت على إمرأة تلعب دور قسيس الإعتراف في حياتك وسوف تتركها بعد قليل ، تماما كما تلعب أنت نفس الدور بالنسبة لها ، هكذا لقاء الغرباء الذين قد يتبادلون العناوين لكن لا أحد فيهم يتصل بالآخر ، لا لإزدحام الحياة كما يقال ، ولكن لعدم الرغبة في تذكر تجربة ما حلمت أن تعيشها ولم تسر بخطواتك إلى نهايتها.
تقول الإيطالية : يبدو أن وهج صدقك مبطن بكذب مخادع فعيونك ترقب النساء بشراسة .
أضحك دون أن أعلق ، فتضيف : « يخيل إلى أن البشر قد اخترعوا الكلام ليكذبوا «.
وأخذتنا خطواتنا إلى كازينو يطل على القصر الملكي في أثينا . وكان المكان يبدو كأنه قطعة مصنوعة من مزيج معماري يختلط فيه شاطئ إستانلي مع قصر المنتزة بالإسكندرية .
ومن المؤكد أني لم أستطع للوهلة الأولى أن أفرق بين الإسكندرية وبين أثينا في الصورة العامة.
قالت الإيطالية : مؤسس الإسكندرية هو الإسكندر الأكبر اليوناني حقا وهو ابن أثينا . أسألها : لكن لماذا قلت إن البشر قد اخترعوا الكلام ليكذبوا ؟
أشارت إلى ضجيج الكازينو في ليلة الأحد وهي تقول : في رقص الشباب تجد الإجابة
كان ضجيج الرقص يعلو في الكازينو ، وكانت أجساد البنات حارة مبتهجة وخطوات الشباب تحاول أن تجد تأكيدا من عيون البنات بأنهم يستحقون الحب،نفس الأجساد الحارة التي كانت ترقص في كازينو إستانلي كل صيف في زمان الستينيات، ونفس عيون الشباب الذين يدقون على الأرض بالأقدام رقصا ، وكأن قلوب النساء تسكن تحت الأرض وتحتاج إلى تنبيه .
أقول : مثل هذا الرقص الذي يحدث في ديسمبر في أثينا ، يحدث الآن في الإسكندرية داخل مقهى « إيليت ».وهناك فنان تشكيلي صديق لي هو الفنان الكبير سيف وانلي،لابد أنه يجلس الآن على مائدة مخالي صاحب المقهى ليراقب الرقص.ومثل هذا الرقص يحدث أيضا في أغسطس من كل صيف في كازينو إستانلي بالإسكندرية ، بنفس الضجيج الفرحان داخل هذا المقهى وبنفس الأجساد الأنثوية الحارة،وبنفس البهجة في عيون الشباب،حيث يتحول الجو إلى حديقة ليلية أزهارها رغبات في حلم وحيد هو أن يسكن كل عاشق في أحضان من يحبها ، ليقول كل منهما للآخر» هيا بنا لا نتكلم،فالكلام كله كذب في كذب،الحب وحده هو الصدق الذي تغيب عنه أكاذيب الألسنة «. وكأن كل واحد من الموجودين في الملهى الراقص لا يصدق أنه يعيش،لذلك يرقصون،لعل حركات الرقص تنزع عنهم رحلة الانكماش والجمود والآلية التي يعيشها الشاب طوال الأسبوع بحثا عن النقود.هاهم يرقصون الآن لعلهم يكسرون قوالب الجمود الآلية . ولعل كل واحد فيهم يستطيع أن يجد من تفهم أنه عاش طوال الأسبوع ككوب من الكريستال ، و لكن ظروف الحياة لم تفهم طبيعته ، فصارت تلهو به بأقدامها ؛ حتى امتلأ بالشروخ . وعلى من تدخل معه في تجربة عاطفية أن تعيد تجميعه وصهره في لحظة احتضان ليعيد كل منهما ميلاد الآخر نقيا جديدا .
قالت الإيطالية : يبدو أنك مشتاق كثيرا لحبيبتك التي سوف تراها بعد أيام .
أقول : ليست المسألة هي الشوق أو عدم الشوق ، ولكني أتعجب من نفسي كثيرا ، فعلى الرغم من أني أشعر أنها سبب أساسي أعيش من أجله ، وعلى الرغم من أنها سألتني في الأيام الأولى لعلاقتنا معا « هل أنا جميلة ؟ وقلت لها « أنا لا أعرف .. لأني لا أقيسك بالنساء ، ولكني أقيس النساء بك « . ولم أكن أقول ذلك كبراعة في الغزل أو نوع من تجويد التعبير عن المشاعر ، ولكن لأن هذا ما كنت أشعر به فعلا ، وعلى الرغم من كل ذلك إلا أنه من الغريب أني في رحلتي لقياس جمال غيرها من النساء بها ، صرت أنجرف لبعض الخطايا في حق الوحدانية في الحب ، وأخرج بعد ذلك بإحساس أني عاشق كاذب .
تضحك الإيطالية : هيا نغادر هذا المقهى ، فهو يفجر فيك أفكارا فلسفية ، وأنا أحب الفلسفة بجنون ، لذلك أحضر إلى أثينا ، فهي بيت الحكمة والجنون ، هنا عاش سقراط ، وتبعه اثنان من أقرب البشر إلى قلبي زنيون وأفلاطون ، والثلاثة حاولوا أن يواجهوا الكذب كل منهم بطريقته ، فوجدوا أنهم يكذبون أيضا.
أقول : ولكنا لم نرقص بعد .
..................
تقول : يبدو أنك تعرف تماما أن أي حديث معك عن الحب والصدق والكذب مع المرأة،يفجر في من تسمعك آفاق السباحة في تاريخ هذا الصادق الكاذب في آن واحد .
أقول:نحن لم نلتق إلا منذ قليل.ولا يعرف أحدنا تاريخ الآخر تماما،ومن المؤكد أنك تعرفين أن الإنسان حين يحكي عن نفسه،هو يقول ما يراه بعيونه لتاريخ حياته،ولو كانت هناك كاميرا تسجل وتصور لما تطابقت الكلمات مع الصور ، فالمخ يضع أكثر من حاجز ليجعل الصورة على اللسان بالكلمات أكثر نقاء مما هي في الواقع .
..................
تمنيت أن أطوي ساعات الليل والنهار لأصل إلى باريس ، لكن كان لابد من الاستسلام لمراقبة غرق ليل أثينا في هذا الرقص الجميل .
سألتني الإيطالية : بماذا تسمي لقاء الصدفة هذا ؟
أضحك قائلا : لا تندهشي حين أقول أنها المرة المليون التي أعزف فيها بالكلمات هذا البيان العاطفي الذي يوجز تاريخ أيامي .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.