إلي عازف التفاصيل... الذي كان يعجن التراب بالنجوم... إلي حامل قصعة براءة الأطفال ، وطموح الملائكة ، ودهاء الشياطين ، وتقلبات الساسة وحكمة العجائز.. إلي الذي كٌتب عليه المقامرة، والمغامرة، وامتطاء جواد المستحيل.. إلي المهابر والمثابر ...إلي المائز عن المألوف... ومغاير السائد.. إلي الرائع الماتع ..الروائي إبراهيم أصلان .. رحمه الله (1) في حي شبرا الهادئ ، وفي بناية عملاقة بالدور الخامس علي مقربة من ( جمعية كاريتاس لتنمية المجتمع) ،كان شهر العسل ينتصف بداخل غرفة النوم... تلمح الشمس تتثاءب وتهتز في خجل، تحس بضعف أشعتها رويداً رويداً.. خيوطها الذهبية تلامس ضلفة الشباك الموارب.. يتعانقا.. وبعد قليل من الوقت ، أخذت الوَّهاجة تلملم أطراف أشعتها استعداداً للرحيل..... كانت (هي) قد صفت شعرها علي طريقة نساء الفرنجة، وصنعت لها الماشطة ( الخوجاية) عمامة مربوطة بشاشات ملونة، وعقصت بقية شعرها الفاحم، .. ودلت منه خصلات فرادي ومتجمعة علي أذنيها، وجعلتها تدهن جسدها بالطيب وعطر القرنفل، وغطست الشفاه ب( الروج) الأحمر القاني، وكحلت لها عينيها بالكحل الدمشقي، وارتدت جميل الثياب، وقد جمع أسفل نهديها بحزام من الخرز تدلي طرفاه علي فخذيها، فوق سروال من نفس القماش وبعد لحظات.. كانت العروس تتمدد علي سرير وثير، ترتشف الحب عبر أثير النظرات ، منه ، فأومأت إليه وهي مغطاة بملاءة بيضاء - مشيرة بأصبعها، تستمهله ، ولحظة اللقاء بها،بدا ثابتاً، راسخاً، قسماته هي التي اختلجت مسفرة عن رغبة أنثي، قالت وقد لفها الشوق: * الحقيقة التي لن ولم أعد أستطع أن أخفيها.. إني أعشقك..» وهنا، استمر ( هو ) يتطلع إليها هادئاً، مبتسماً، غير عابئ بالهواء الذي أخذ يلفح نصفه السفلي المشدود.. و أخذا يتدثرا بغطاء واحد .. يصطبغ كل شيء حولهما بلون مشمشي هادئ .. كان صوت ( أم كلثوم ) يصدر من (فنوغراف )قديم .... .. تشدو بأغاريد حالمة.. تمزق نهايات النهار... ولحظة العناق، وفي ذروة الاندماج، تبدل الوجع،تبدي وداً، فعندما توقت برفقته، تحت وهج مصابيح( النيون) ، فكانت تأتي من خفي الحركات، مالم يقدر عليه الصمود أمامه أعتي الرجال، وأشدهم صبراً، ومِراساً، ولحظة بلوغها الأوج، وذروة المتعة، أطلقت صرخة نافرة، غريبة ، كانت خليطاً من حشرجة وجعيراً، من ضحك وبكاء، كل الأصوات تتداخل...تتداخل.. وتخمد.. (( بعد لحظات من الانفاس المتهدجة ، المتقطعة)) هو: أتحبين الأطفال يا حياتي ؟! هي: ( وقد سرحت بخيالها وتورد وجهها بحمرة الخجل : * يارب امنحنا الذرية الصالحة ..آمين. (2) يوم الجمعة .. في منتصف العمر .. في غرفة المعيشة كان الهدوء مطبقا..مقاعد وثيرة مغطاة بمخمل مزركش و ب( دلايات) زرقاء ، وفي وسط الغرفة تقبع طاولة مستديرة من الخشب المطعم الثمين , وفي أركانها تماثيل جميلة من العاج، أكبرها تمثال أم تحمل طفلاً بحنو بين ذراعيها.. نهض ( هو ) من رخاء القيلولة الطويلة مشبعاً بالاطمئنان، بعد ارتشاف كوب كبير من الشاي) الحبر)... أصبح (هو) في أفضل حالاته.. صار كياناً بسيطاً في غير حاجة لأحد ، ولا حتي لصوت ام كلثوم ولا صوت فريد الاطرش الذي يشبه البكاء أحياناً... يقلب عليه مواجيع الحياة.. كانت كلمات الطبيب الشهير المعالج لهما ، مازال يطن صدها في رأسه، فترتج جمجمته في الحائط كالبيض الفاسد: * « معذرة يا سيدي ، هي مصاريف بالفاضي ، حتى الحقن المجهري لن يأتي بنتيجة» (3) جلس الزوجان معاً.. كان الرجل – بعد عودته من المقهى - يرقد خلف نظارته الطبية، يتصفح الجريدة.. ومن اّن لاّخر يتعلق بصره ببستاني الحديقة المجاورة وهو يقبض علي ( شقرف) ينقي الحشائش العالقة بحوض الريحان علي مقربة من البوابة الحجرية للجمعية ، (هو) في جلسته علي كرسي ( البامبو)كان مهيباً،طويلاً كجذع النخلة ، يتقدم الرجال، متين الملامح ، راسخ النظر،( هو) كبر قليلاً في السن ، بيد أنه يبدو صحيح البنية غير ذي علة ، ذو لحية صهباء طويلة مدببة، وترقد علي رأسه طاقية ( شبيكة) ، و زوجته رجاء بدورها تنشغل بأعمال الإبرة التي تتقنها.. وبعد هدوء مميت من حولهما، تمزق أرجاء الغرفة برنين من ساعة الحائط.. تعلق بصريهما بالرنين الجميل في آن واحد؛ لمعرفة الوقت.. حدقت (هي) في زوجها بعين مشفقة .. وارتعشت يدها المعروقة .. نهضت ، واهتز من تحتها كرسى ( البامبو) الصغير ، نظرت من شباك البلكونة وكأنها تنتظر قادماً عليهما.. طال غيابه.. المنزل من الخارج جميل والجو صحو.. كان يتألف من ستة طوابق ، في مواجهة(الممر التجاري)، البناية محاطة بحديقة، صغيرة أنيقة ، مسَّورة بسياج من أسياخ الحديد( الكاريتال) المدهون ببويه أقرب إلي الفضي .. الحديقة فيها أزهار البنفسج الفوَّاح كانت قد عبقت رائحة المكان... (4) بعد خروج (هو) علي المعاش.. لزم البيت.. وفي يوم الجمعة ، استيقظ بعد نوم عميق..... .. كان بصره يتعلق بالموج المتلاطم تحت سيل من الفراغ الذي تزاحم علي رأسه، ونهش فيها عنوة.. (5) في اليوم التالي..... و في شرفة المنزل ، تري الشمس تتسلل ببطء، وقد تلونت السماء بضوء السحر الضبابي ، جلسا معاً ، تناولا أقراص الضغط وسرنجات ( الأنسولين ).. كان نظره الضعيف يبحث بمشقة عن الكلمات في ( كتاب الله)، وبأنامل مرتعشة تحركت حبات المسبحة، تردد وردا يتناغم مع صفاء السماء.. (6) عند الغروب .. دقت ساعة الحائط.. (هو) يشعر بجلده يحترق بقيض الشمس اللاهب في جسده الذي صار قميئاً ، والعرق ينسال من كله ، حملق صوب البحر الراقد بداخله والمواجه لسجل حياته ، كان وجهه شاخصا في رعب غير بادٍ علي تصرفاته، فتح عينيه ، حدج الزوجة بنظرة بطيئة ، غير معتادة ، ومن خلف غمامة ضبابية، تشاهد وجها عميق التجاعيد، بشرته تحمل رائحة عتيقة فوَّاحة ، راح يتمتم بود.. رغم ما ألم به من وجع، ابتسما معاً دون كلمة .. لكن الزوج نطق وقال وهو يركن يده- المعروقة - علي ركبتيه: ** يا زوجتي العزيزة ، إنني أعشق رنين ساعة الحائط!....(ثم صمت).. هزت (هي) رأسها التي اشتعلت شيباً، فانتابها شعور بالدوار: ** لم يا حبيبي؟! أجاب وقد طأطأ رأسه .. ونطق بفم سقط ركناه: ** رنين الساعة هو الطارق الوحيد- بعدك- الذي يشعرني أنني مازلت علي قيد الحياة ؟ تلعثمت الزوجة ، وتحلب ريقها بمرارة لا تعرف مصدرها... وصمتت.. (7) في هذا المساء تحديداً.ٍ. عندما احتدم النقاش، وطق الخلاف، علت الأصوات بينهما، فغمغم (هو).. يداري رعبه، وهو يحتسي فنجان القهوة: * سيجئ ، قبلنا .. أم أبينا...! بعدها ، جلس الزوجان علي مقربة من بعضهما .. يشد كل منها اّزر أخيه ، ينظرا لباب الشقة .. ينتظران الزائر الذي يتواصل معهما من فترة طويلة .. عبر التفاصيل الحياتية.. لكنه غاب طويلاً.. كان يتشوقا اللقاء.. - « أه يجئ ونخلص» .. تلك هي كلمات الزوجة التي قل أن تخرج من فيها الا نادراً... وبعد لحظات من الانتظار ارتفع صوت الطرقات علي الباب ..فجفلا معاً.. ثم نهضا سوياً ، يتسابقان كالصبية ، ترتسم علي وجهيهما ابتسامات عريضة .. يستند هو عليها وهي عليه.. فٌتح الباب ببطء شديد.. دون أن يلمسانه .. فتراجعا خطوات وئيدة... (8) ......المشهد/ خارجي/...... يتسع ويضيق.. لا يتفق علي شئ بعينه.. تبسما الزوجان مرة أخري ..كان شبح الزائر يرفل في ثوب قشيب ، ينزلق علي الدرج الرخامي الحلزوني هابطاً لأسفل ، في خطو رتيب ، دون أن يخشي أحدهما أن يكون الطارق هو الزائر نفسه.. المنتظر قدومه..... وعندما هدأ الليل ، وانصرفت الهواجس ، تحركت (هي) مذعورة ، حدَّقت في وجه زوجها، كان يرقد علي رأسه المدبوغة فودان اشتعل الشيب فيهما ، وكان ( الرمص ) ينسال من عينيه يصنع أخاديداً ، ومخاط أنفه يسيل ، يتسلل بين الشعيرات النابتة في شاربه الصغير، وراح يغط في نوم عميق ، يتنفس بصعوبة ، وذفراته المتتابعة تٌرجف شفتيه الباذنجانية.. وبالتدقيق في خطوط وجهه الساكن العجوز ، كان قد تغَّير سمت صفحة سحنته إلي زوايا حادة... (9) سري صوت المؤذن يؤذن بالفجر، وارتفع صياح الديكة في البنايات الواطئة البعيدة ، وباتت الدنيا تتمخض عن مولد يوم جديد.. وعند مدخل الشقة في البهو الصامت..... كان ( هو وهي) قد فارقا الحياة ، في لحظة واحدة....!! في حزن دفين يرتكن ( الزائر ) علي كرسى ( البامبو) غير المهتز ، دلف للخارج؛ لاستكمال أعماله اليومية....لكن أين ؟؟!!............. وقتها كان المشهد يتأرجح بين الوهج والظلام.. صمتٌ طويل.. وظلال الغروب تعلو الأسطح والبيوت ، سكنت حركة الطريق من المارة وعواء السيارات ، حتي الطيور المحلقة فوق أشجار (السرو) بحي (شبرا) – وأخص المحيطة ب(جمعية كاريتاس لتنمية المجتمع ).. لاذت بالصمت أيضاً...