الطريقة التى تعاملت بها الحكومة، مع القنوات الفضائية التى تبث سموما سياسية من الخارج، لم تكن موفقة تماما، فقد صبت غضبها وضيقها على الدول التى سمحت لها بالانطلاق من أراضيها، أكثر من التعب لتحسين عرض خطابها الإعلامى. الأمر الذى أشعر أصحاب هذه القنوات بالنشوة والفرح، حيث تأكدت أنها أصابت الهدف. عندما تقوم وزارة الخارجية بحشد الجهود الدبلوماسية، ومخاطبة سفرائنا فى عدد من الدول الأوروبية، وإصدار بيانات تندد بالفضائيات التابعة للإخوان، فهذا يعنى أن هناك أصداء أحدثتها فى الشارع المصري، وربما العربي، بصورة تدفع باتجاه المزيد من رعايتها وتغذيتها، والتوسع فى أعدادها، ومحاولة التفنن فى البرامج التى يتم إذاعتها. والقلق الذى بدا فى بعض التصرفات، أوضح أن هذه القنوات مؤثرة، وهو ما عكسه كلام الخارجية عن التواصل مع فرنسا بشأن دور قمرها «يوتل سات»، الذى أصبح واحدا من المراكز الرئيسية التى تبث بعض القنوات المسيئة لمصر إرسالها عليه. كما أن التوجه الذى جرى تدشين ملامحه خلال الأيام الماضية، يثبت أننا مازلنا نرغب فى تفضيل الحلول البسيطة، التى لا تتعب وزيرا هنا أو موظفا هناك، وأن المسطرة العمياء التى أشرت إليها فى مقال الأسبوع المنصرم، لن تتوقف عن قياس المسافات فى العتمة، لذلك فهى غير قادرة على رؤية الطريق الصحيح. فالجهود الدبلوماسية قد تأتى بنتائج مع دولة شقيقة مثل الأردن، صاحبة القمر الصناعى «نور سات»، لكنها لن تجدى مع القمر «سهيل» الذى تملكه دولة قطر، وحتى فرنسا، غير مضمون أن تستجيب لمطلبنا، وإذا استجابت، لأسباب سياسية، فمن الذى يضمن عدم تحول هذه الفضائيات إلى أقمار أخرى، لا نستطيع التأثير على أصحابها ؟ التقنيات التى وصلت إليها بعض الأقمار متقدمة جدا، بشكل يجعل المحطة تعمل على ترددات مختلفة، وقد تعمل على المدار أو الحيز نفسه الذى يشغله القمر المصرى «نايل سات». بالتالى فمحاربة القنوات التابعة للإخوان، على طريقة «تطييب الخواطر»، قد تصلح فى جلسات المصالحة عند أهالينا فى الصعيد، لكنها لا تصلح على الإطلاق مع دول، لديها منظومة متكاملة من القوانين، تحكم تصرفاتها، وإذا نجحت جزئيا مع باريس، وتفهمت مطالبنا، فلا يعنى ذلك أن هذه قاعدة يمكن تطبيقها مع آخرين، فى فضاء يتسع لكثيرين من الشرق والغرب، وبات محورا أساسيا فى الحروب التى تخوضها الدول، من خلال الدعاية المغرضة، وبث المعلومات الكاذبة. وزارة الخارجية، تكبدت عناء كبيرا فى تجميع فيديوهات تثبت بها، أن هذه القنوات تحمل غالبية برامجها تحريضا على العنف، وأفكارا داعمة للإرهاب، وتنقل صورا مزيفة ومشوهة، وكلاما مبتورا وموجها، وقدمتها إلى دول غربية. قد تكون هذه الخطوة مفيدة، إذا رافقتها خطوات أكبر وأعمق، وقامت جهات أخرى فى الدولة بالتنسيق والتعاون لتقديم إعلام جاد ينقل الصورة الحية والخبر الجاد، ويحلل بنزاهة وموضوعية، بدلا من الصياح والصراخ، وأحيانا الحض على القتل. فمن يرى السيرك، الذى تنصبه ليلا بعض المحطات الفضائية، من المؤكد أنه سينصرف عنها، ويبحث عن شيء مختلف، حتى ولو كان فى فضائيات الإخوان، ولو من باب التغيير وحب الاستطلاع، خاصة أنهم أجادوا العزف على الوتر الإنسانى، ودغدغوا مشاعر المواطنين، وهم يعرفون أننا شعب عاطفى نتأثر بالدم، أكثر مما نتأثر بالذم. هنا تكمن نقطة البداية الحقيقية، فقد تحدث خبراء الإعلام كثيرا، وبحت أصواتهم منذ سنوات فى أن يكون لمصر خصوصيتها فى تقديم إعلام جاد، يبعد عن الإثارة والانتقام، ويحاول أن يقترب من وجدان الناس، عبر قناة أو أكثر تتولى نقل ما يجرى فى مصر بمهنية، لكن لا حياة لمن تنادي. ومازلنا نفضل الاستسهال، ونبدع فى تكسير عظام الخصوم وتخريب تجاربهم، أكثر من تقديم تجاربنا التى تناطحها وتتفوق عليها، فى جذب الجمهور، لاسيما أن معظم القنوات الخارجية تعمل بلا مهنية حقيقية، وتقدم مضمونا ساذجا، يعتمد على الإثارة، واستخدام عبارات زاعقة جوفاء، من أجل لفت الانتباه. ونجاحها قائم أصلا على فقر الإعلام الرسمي، الذى لم يستطع أن يغير جلده السميك، مع أنه نال من النقد ما يكفى لأن ينطق الحجر. كما أن الإعلام الخاص، تفرغ بعضه لتصفية الحسابات، وخدمة أجندة أصحاب رأس المال، فبدت الساحة فارغة أمام الإعلام الساذج للإخوان. الحل ينطلق من التصرف بعقلانية، والابتعاد عن الأفكار الخيالية، والهبوط على الأرض ورؤية الواقع بكل ملابساته وتعقيداته. فعلى الحكومة أن تأخذ مسألة تطوير الإعلام الرسمى بجدية، وتوفر له كل التسهيلات اللازمة لمناطحة المحطات الكبرى، وأعتقد أن هناك إمكانيات تقنية قابعة فى ماسبيرو، لم يستطع المسئولون، سابقا أو حاليا، استغلالها وتوظيفها بصورة علمية. وعليها أيضا أن تضع أمام من يتولى مهمة التطوير مراعاة الثوابت المهنية والوطنية، وتوفير مساحة ليست هينة للحريات. وتبنى فكرة التنوير، بطريقة بعيدة عن المزايدات الثقافية، لأن التنوير الحقيقي، هو الذى يقاوم الخرافة، ويفصل المقدس عن المدنس. رب ضارة نافعة، كما يقولون، فقد تكون حانت لحظة المكاشفة، وأخذ زمام المبادرة لتطوير الإعلام، لأن التدليل الذى يحصل عليه إعلاميون، من قبل بعض مسئولين كبار أفسدهم، وجعلهم يتصورون أنهم يقدمون بضاعة جيدة، ليست بحاجة إلى مراجعة أو تغيير. وهو ما يسمح للإعلام الذى يخرج من قطر وتركيا وفرنسا وبريطانيا، بالتمادى فى شططه، لأن قطاعا كبيرا من الجمهور، بدأ ينصرف فعلا عن المحطات المصرية، فأصبح جزءا منه يبحث عن ملاذ فضائى آخر. لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل