مع الحوادث الإرهابية التي شهدتها مدينة العريش في 29 يناير الماضي، تتكشف يوما بعد يوم استراتيجية الإرهاب في سيناء، فمنذ سنتين تشهد شبه الجزيرة وقوع عملية كبري أو سلسلة عمليات عنف وإرهاب في وقت واحد بإيقاع شبه منتظم (كل ثلاثة أشهر تقريبا) تلحق خسائر بشرية تتراوح في الأغلب بين 20 – 30 شهيدا بين أفراد الجيش وقوات الشرطة. وما أن تعتقد الدولة خلال الفترة بين الأشهر الثلاثة بانتهاء الإرهاب. وما أن تتجه الجهود للتركيز علي الإعمار المدني حتي يأتي حادث إرهابي غاشم ليباغتها ويربك حساباتها ويعيدها مجددا للمربع رقم 1 (معضلة الأمن وإرهاب الجماعات الإسلامية). منطقة حرب وفى ظل الصراع الدائر بين الدولة وجماعات الإسلام السياسي، أصبحت سيناء منطقة حرب حقيقية، وبعد فترة من الرغبة فى نشر العنف فى عموم مصر، اختارت الجماعات تركيز المواجهة مع الدولة فى بؤرة لها دلالات استراتيجية وعسكرية ووطنية. ومن خلال تكتيكات العمليات الإرهابية، بات من المؤكد أن هذه الجماعات لديها معلومات هامة بشأن حركة انتشار وتمركز القوات، ومن المرجح أنها تتعاون وتتلقى معلومات من جهات خارج الحدود، وبات معروفا نزوعها إلى إحداث أكبر أثر انتقامى ممكن، وتأكيد قدرتها على التحرك حتى مع الإجراءات الأمنية والعسكرية التى تتخذها الدولة. والمؤكد أن هدفها الأساسى هو خفض الروح المعنوية للجيش وللمواطنين وبث عدم الثقة بمسار الدولة بعد 30 يونيو. لا مستقبل لدويلات الإرهاب بالنظر إلى دور القوات المسلحة فى تحرير مصر من حكم جماعة الإخوان المسلمين، ودور الجيش فيما تعتبره هذه التنظيمات «إجهاضا للحكم الإسلامي»، وبالنظر إلى الاعتبارات الجغرافية والطبوغرافية والسكانية فى شبه الجزيرة، والقدرات اللوجستية الخاصة بإمكانات التمدد والتواصل التكتيكى والبشرى بين سيناء وغزة، أصبحت سيناء بؤرة للنشاط الإرهابي، وانتقلت الجماعات الإرهابية من توجيه عملياتها نحو تفجير أنابيب الغاز المتجهة إلى إسرائيل والأردن إلى توجيه ضرباتها إلى الجيش. وبعدما كانت تؤكد عدم استهدافها للجيش واقتصارها على قوات العدو الإسرائيلى أصبحت تعتبر الجيش المصرى عدوها الرئيسي، وغابت إسرائيل عن أيديولوجيتها تماما. والمؤكد أنه مهما بلغت أخطار الإرهاب، فإنه لا يتمكن من الانتصار على الدول، ولو تمكن من ذلك لشهد العالم مجتمعا دوليا جديدا غير مجتمع الدول الطبيعي، ولنشأت دويلات العصابات والميليشيات والجماعات الإرهابية، وانهارت الدول المعروفة، وهو أمر لا يمكن الاعتراف به دوليا، فحتى الجماعات التى سطت على بعض أجزاء من الدول، لم تتمكن من كسب اعتراف دولى يضمن لها حياة طبيعية. ومن ثم فإن النتيجة المؤكدة للحرب بين الإرهاب والدولة هى حتمية الانتصار للدولة، مهما بلغت فداحة الخسائر التى تلحقها الجماعات بالدولة لفترة، وإن امتدت لسنين (وتجربة الجزائر مثالا). وعلى الرغم من أن العملية الأخيرة، جرت بعد الإجراءات الأمنية التى اتخذتها الدولة مثل هدم الأنفاق، أو بناء الجدار العازل، وبعد عمليات الترحيل لسكان بعض المناطق وتوسيع مساحة المنطقة الخالية على جانب الحدود، إلا أن هذا لا يعنى عدم قيمة أو فعالية ما جرى اتخاذه من إجراءات، فمن المرجح أن جماعات الإرهاب تستهدف زعزعة ثقة المصريين والجيش بإجراءاته، ومن المؤكد أن عملياتها كانت ستصبح أكثر بكثير من دون هذه الإجراءات، كما أنه من الأرجح أن الإجراءات التى اتخذتها الدولة سوف تجنب مصر تاليا عمليات كان يمكن أن تكون نتائجها كارثية، لكنها تؤكد على الأقل أن الدولة لم تحكم بعد كل المنافذ ضد الإرهاب، وأنها بحاجة إلى مزيد من الإجراءات. دروس التجربة الأمريكية تحتاج مصر إلى الاستفادة من التجربة الأمريكية بعد 11 سبتمبر 2001، لأن هناك قدرا كبيرا من التشابه بين الحالتين، وتشير تجربة الولاياتالمتحدة إلى أنه بعد الأحداث جرت ثورة عسكرية قادها وزير الدفاع الشهير فى عهد بوش دونالد رامسفيلد، وجرى ساعتها التأصيل العسكرى لما أسمى بالحروب اللامتماثلة، حيث كان هناك إدراك منذ اليوم الأول بأن الحرب على الإرهاب ستكون طويلة، وأن خسائر القوات الأمريكية ستكون بالغة لعدم اعتياد الجيش على هذا النمط من الحرب، وقد أصّلت تقارير الاستراتيجيات الدفاعية وتقارير المراجعة الدفاعية التى تصدر عن البنتاجون كل أربع سنوات لذلك على نحو مفصل. وأدت الإجراءات الأمريكية - رغم الانتقاد العالمى لها - إلى تقليص الخطر الإرهابى على الولاياتالمتحدة ليصل إلى مستوى الصفر تقريبا منذ 2001، وأصبحت أحداث 11 سبتمبر هى آخر أحداث الإرهاب التى تعرضت لها الولاياتالمتحدة (حتى الآن على الأقل) رغم استمرار تهديدات كافة الفصائل الجهادية ومنها تنظيم القاعدة، وهو أمر ينبغى الاعتبار به. وفى الأغلب فإن حركة الجيوش العسكرية ثقيلة بالقياس إلى حركة العصابات الإرهابية التى اعتادت العمل بأساليب وأنماط وتكتيكات مختلفة. كما أن أخلاقيات الحرب التى تتعامل بها القوات المسلحة تختلف عن لا أخلاقيات الجماعات. ومن ثم، دخل الجيش المصرى فى حرب ليست من طبيعة الحروب العسكرية، التى يكون فيها العدو واضحا، وتكون هناك نسقية ونظامية فى طرق ومناهج و»كتالوج» خوض الحرب وفق الأنظمة والمدارس العسكرية المعتادة، لذلك من المرجح أن تمضى فترة قبل أن تحدث عملية التحويل والتخصيص والتركيز داخل الجيش على كسب هذا النوع من الحرب، وهو أمر مرت به كل من الولاياتالمتحدة فى حربها ضد الإرهاب ومرت به إسرائيل فى حربها مع حزب الله وحماس. فالحرب التى يخوضها الجيش المصرى الآن ضد جماعات الإرهاب هى من نمط الحروب اللامتماثلة، التى تتطلب تأهيل وتدريب تشكيلات وفصائل عسكرية على هذا النوع من الحرب، والتركيز دائما على التفكير فى اللامتوقع واللامعتاد، وهو نمط تفكير الجماعات الإرهابية. وإذا كانت العمليات الكبرى التى وقعت منذ يوليو 2012 أحدثت خسائر بشرية كانت تقارب الثلاثين جنديا، فإن ذلك يعنى أنه من الضرورى تلافى الوجود العسكرى والانتشار الكثيف لعناصر الجيش فى مربعات متقاربة، وتلافى الكمائن لمجموعات مسلحة فى مساحة يمكن أن تطالها عمليات الإرهاب بضربة واحدة. ومن المهم أن تتكثف أدوات الاستشعار السريعة لأى ناقلات أو عربات غريبة تقف بجوار وحدات أو منشآت عسكرية. الدرس الثانى وهو مستفاد من التجربة الأمريكية هو الحاجة لقوانين وتشريعات جديدة ناجزة فى التعامل مع المقبوض عليهم أو المشتبه بهم، فقد مارست الولاياتالمتحدة إجراءات قانونية وقضائية خاصة واستثنائية فى عهد الرئيس بوش، فى ظل الحرب على الإرهاب ومارست جهات التحقيق إجراءات استهدفت الحصول السريع على المعلومات، وكلها استهدفت أمن أمريكا وأمن المواطن الأمريكي، وتفهم المجتمع الأمريكى ذلك وتعاونا مع السلطات. وبالتأكيد أن هذه الإجراءات لم تكن قانونية أو دستورية، كما أنها عرضت الإدارة لانتقادات شديدة لازالت موجهة لها حتى اليوم، وعلى الرغم من تعهد الرئيس أوباما خلال حملته الرئاسية الأولى فى 2008 بإنهاء هذه الإجراءات وإخلاء معسكر جوانتنامو وانتقاداته الشرسة لإدارة سلفه بوش على إجراءاتها «غير القانونية» فلازال المعسكر قائما حتى الآن، والمؤكد أنه لن يتم إخلاؤه فى ظل هذه الإدارة. وخلال فترة 11 سبتمبر وحتى الآن تحمل المجتمع الأمريكى والعالم أعباء وأثقال الإجراءات والاحتياطيات الأمنية الأمريكية بالمطارات وحركات انتقال السلع والأشخاص، ويبقى الشرط الأساسى أن يتم كل ذلك مع التقيد الكامل بحقوق الإنسان وعدم عرقلة المسار السياسى للدولة. ومن السخرية أنه لا يزال كثير من المحتجزين على ذمة قضايا إرهابية محققة إما هاربين أو فى السجون دون أحكام قضائية نهائية رادعة. ويكشف السجل الإجرامى للكثير منهم عن ارتكابهم سلسلة من الجرائم التى لا يزالون متهمين على ذمتها أو تمكنوا من الهرب أو أخلى سبيلهم فيها بكفالة! حرب المجتمع على الرغم من أن المعلومات العسكرية والأمنية بالغة الحساسية فى جوانب متعددة، لعل أهمها ما يتعلق بالروح المعنوية للقوات، إلا أنه من المهم توسيع إتاحة المعلومات الصحيحة بشأن ما يجرى فى سيناء لدوائر بحثية وطنية أوسع محل ثقة، خصوصا بالنظر إلى أن هذه الحرب ليست حرب الجيش والشرطة فقط، وإنما هى حرب المجتمع كله. ولقد مكنت مراكز الدراسات وبؤر التفكير خارج المؤسسة الأمنية والعسكرية الأمريكية بعد 11 سبتمبر من طرح أفكار وتقديم تقارير بالغة الدقة استفادت بها المؤسسة العسكرية والدولة الأمريكية، وهو أمر يمكن الاستفادة به أيضا فى التجربة المصرية، وتستطيع مراكز الدراسات المعنية فى مصر أن تقدم دراسات جادة لو توافرت المعلومات، مع طليعة وطنية تتحلى بالروح القتالية فى أنماط التفكير اللامتماثلة، لتخلص بتقارير مفيدة للدولة على الصعيد الوطنى بشأن سيناء. ففى الأغلب فإن الاستغراق الأمنى والعسكرى فى ملاحقة تدفقات المعلومات الواردة لا يفسح لأصحاب القرار طاقة عقلية للتفكير فى استراتيجيات جديدة أو طرح بدائل استراتيجية من خارج الصندوق، وللأسف فإن المعلومات فى مصر بشأن ما يجرى فى سيناء لا تزال حديثة الهمس وعدم اليقين، ولا يطلع عليها سوى بعض القريبين من المصادر، والبعض منهم يعكس معلومات مشوهة، وربما تخفض الروح المعنوية التى تسعى الدولة لتلافيها. ويطرح تكرار أنماط متشابهة من العمليات الإرهابية فى سيناء السؤال بشأن مستويات إحاطة الجهات الأمنية والعسكرية بجغرافيا سيناء وبممرات وخطوط التواصل التسليحى البشرى الإرهابي، فالعمليات التى جرت تعكس القصور فى دراسة الدولة المصرية لجغرافيا سيناء وممرات الإمداد الإرهابى لهذه الأنشطة، وهو ما يستلزم أيضا الانتباه إلى احتمالات وجود اختراقات لمنظومة الاتصالات العسكرية والشرطية، أو اختراقات مادية وبشرية من نوع آخر، وهى أمور على الرغم من الثقة بقدرات الدولة والجيش على تلافيها، إلا أنها ينبغى التفكير فيها، حيث أنه يصعب التسليم بقدرة هذه الجماعات على تحقيق ذلك من ذاتها وارتكانا إلى قدراتها الذاتية. تحالف إقليمي ومن الضرورى أن تسعى مصر لتكريس تحالف إقليمى ضد الإرهاب. وهو ما يقتضى إجراءات خاصة من جانب الدولة ضد الدول الممولة والراعية والمساندة، وأيضا ضد شبكات العنف وجماعاته، وأخيرا داخل المجتمع بتبنى إجراءات واضحة لنبذ السلوك الإرهابى ومحاصرة الإرهابيين من الإسلاميين اجتماعيا وعلاجهم نفسيا، وهو ما يعنى ضرورة التأكيد على الدور المجتمعى فى الحرب على الإرهاب. وقد يتخذ ذلك أشكالا متعددة، منها إمكان تشكيل كتائب للعمل المدنى التطوعى ضد الإرهاب، على أن توضع لها مناهج وشروط عمل محددة لا تسمح بتشويهها. وأخيرا، فإن بعض الإجراءات والقرارات التى اتخذتها الدولة والجيش هى إجراءات هامة، ولكنها لا تزال تدور فى إطار «عسكرة» المعركة ضد الإرهاب، أو حصرها فى كونها معركة عسكرية يخوضها الجيش، فهذه القرارات بالغة الأهمية، لكن من الضرورى أن تعكس الحرب ضد الإرهاب فى سيناء مفهوم أنها حرب الوطن كله، وأن يشترك الجميع فى المسئولية بما فيها المؤسسات التعليمية والفنية والإعلامية والدينية.