لا يعرف الأنسان أنه فعليا قد أصبح كبيرا فى العمر إلا عندما يحرمه القدر من أن ينطق كلمة "بابا" أو "ماما" إن وجود هذا الحب الفطرى المجانى الذى ليس خلفه أى أغراض دنيوية هو بالفعل ما يشعرنا أننا رغم تراكم السنوات وحتى شيب مقدمة الرأس لازلنا أطفالاً. " لقيتنى كبرت فجأة " جملة بليغة جدا لمطرب شعبى نظر ذات يوم لنفسه فى المرآة ليجد أمامه شخصا آخر غيره، أكبر منه بكثير حتى أنه لم يعرفه، فماذا ياترى حدث له ؟! تذكرت هذه الجملة وأنا أسترجع شريط الحياة أمامى منذ الطفولة وحتى تلك النهاية القاسية رغم واقعيتها. والدى الحبيب يرقد فى صندوق خشبى ملفوفا فى كفنه الأبيض فى أنتظار أنتهاء تجهيز مرقده بمقابر العائلة .. صورة هذا الأب الذى يموت بأحدى المستشفيات ويعمل كل أبن أو أبنة من أبنائه على إنهاء أوراقه وإجراءاته الأخيرة بأقصى سرعة لأخراجه من ثلاجة الموتى الكئيبة بالمستشفى تداخلت معها صورة نفس هؤلاء الأبناء حين كانوا صغارا يتسابقون لفتح باب البيت عند عودة والدهم "العامل" بأحدى الشركات الحكومية التى تم بيعها الآن كشركات حكومية كثيرة طالما فتحت بيوتا وتربى من خيراتها أجيال. أبناء هذا الرجل البسيط الذين تعلموا أيضا فى مدارس حكومية، اصبحوا الآن فى مناصب مرموقة، فمنهم المهندس والمترجم والصحفية . حتى تلك اللحظة كنت أظننا لازلنا صغارا رغم أن منا من تخطى الأربعين، لكن وجود الأب أو الأم بيننا هو ما كان يشعرنى بطفولة دائمة رغم كل ما نكابده فى الحياة من صعوبات . بفقدان الأب أو الأم يفقد الأنسان كنز من السعادة الخاصة لن يستطيع أن يلتمسه فى أى سعادة أخرى قد تقدمها له الدنيا، لا فى أولاد ولا فى زواج ناجح ولاثراء ولا حتى فى مناصب رفيعة . يفقد الأنسان اسم التدليل الذى يسمعه منذ أن كان طفلا ولن يكون جميلا من أى أحد بعد الوالدين، يفقد الدعاء له بالبركة والستر فى الدنيا والآخرة عند آذان الفجر. يفقد حتى جسر التواصل الهادىء بينه وبين أولاده الذين كثيرا ما يتفاهمون بهدوء مع الأجداد أكثر من الأباء. الحياة حولنا "شحيحة" جدا فى منحنا بعض الأفراح وكنت لا أريد منها شيئا سوى أن تتركنا فقط "فى حالنا" لكن متى كانت أبسط أمنياتنا تتحقق !! فجأة شعرت أننى لم أكبر وحدى وإنما كبرت معى كل الأشياء الجميلة وشاخت ذاكرتها حتى ماعادت تعرفنى. [email protected] لمزيد من مقالات وفاء نبيل