مع اقتراب الانتخابات البرلمانية بدأت ظاهرة جديدة قديمة، كانت قد توقفت بعد قيام ثورة 25 يناير؛ وهي الهجوم علي جمال عبد الناصر ومبادئه وانجازاته وما كان يمثله بالنسبة للشعب المصري والعربي.. الحرية والاستقلال الوطني والقضاء علي الاقطاع وسيطرة رأس المال علي الحكم والاحتكار، وإقامة عدالة اجتماعية وديمقراطية سليمة.إنها نفس المبادئ التي عبر عنها الشعب ولخصها في 25 يناير و30 يونيو.. عيش ، حرية.، عدالة اجتماعية، وكان ينادي بها وهو يرفع صور جمال عبد الناصر.وعندما تولي الرئيس السيسي ظهر إيمانه بهذه المبادئ وتركيزه علي مبدأ العدالة الاجتماعية بالذات، بعد أن وجد أن ما يقرب من 50% من الشعب المصري تحت خط الفقر وحوله، وأن قلة معدودة احتكرت ثروة البلاد لأكثر من 40 عاما بالفساد والتزلف للحكام.ولقد ارتعدت هذه الفئة من الرأسماليين الفاسدين ولا أقول الرأسمالية الوطنية بوجه خاص عندما تكلم الرئيس السيسي عن ضرورة حصول كل مواطن علي نصيبه من الثروة الوطنية.لقد تكتلت فئة الرأسماليين الفاسدين الذين أثروا علي حساب الشعب، وبدأت حملتهم في أجهزة الإعلام المكتوب والمرئي التي يملكونها ضد جمال عبد الناصر، بل إنها طالت الرئيس السيسي نفسه الذي انحاز الي الشعب، وذلك بطريق مباشر وغير مباشر مستخدمين أسلوب التشكيك واصطياد الأخطاء المعتاد. وقصة هذه الرأسمالية المستغلة مع ثورة 23 يوليو معروفة. لقد حاربت هذه الثورة حماية لمصالحها منذ اللحظة الأولي التي أعلنت فيها مبادئها، وانتفضت عندما أصدرت الثورة قانون تحديد الملكية وتوزيع الأراضي علي الفلاحين المعدمين، بعد ستة أسابيع من قيامها. ولذلك فإن الرأسمالية المستغلة عندما دعيت في سنوات الثورة الأولي 1953 - 1957 الي التقدم للمساهمة في الاستثمار لدفع عجلة الاقتصاد المصري الي الأمام، أحجمت رغبة في الضغط علي جمال عبد الناصر وإثارة المشاكل أمامه، بغية التخلص من النظام الثوري في مصر. ومضي جمال عبد الناصر في طريقه بعد تكوين وزارة 1956، وكان رأيه كما ذكر الأستاذ هيكل في مقال له بالأهرام حديث يتجدد عن العمل الداخلي ومشاكله (6)، 25 ديسمبر 1964 - «أن جلاء الاستعمار عن مصر ليس نهاية المطاف بالنسبة للنضال الشعبي، وإنما هو بداية التحدي الحقيقي؛ وهو التنمية بأسرع معدل نستطيع تحقيقه... وأن الصناعة هي المجال الذي يستطيع الاستجابة الي هذا التحدي». وقال جمال عبد الناصر للدكتور عزيز صدقي، الذي اختاره لتولي وزارة الصناعة في نفس العام: - لقد اخترتك وأنا لا أعرفك، تحدثنا مرة [ في مجلس الخدمات] لكني تابعتك من يومها، وهذه مهمة جديدة أمامك، وهي أساسية بالنسبة لكل خطط مستقبلنا، وأريدك أن تبني جهازا إداريا جديدا لهذه المهمة، ولا أريدك أن تتقيد بما هو موجود الآن، بل إني أعطيك يدا مطلقة لكني سوف أحاسب. ويهمني أن تعرف أسلوبي في الحساب.. إنني لا أطلب نجاحا كاملا وبنسبة 100%، ذلك إنسانيا مستحيل، وهو في ظروفنا أكثر استحالة. إنني علي استعداد أن أقبل في هذه المرحلة بنسبة نجاح مقدارها 60%، أي أنني أستطيع أن أدافع عن أخطاء نسبتها 40% في هذه المرحلة، علي أن تقل النسبة تدريجيا مع ازدياد الخبرة. لكن الذي لا أستطيع أن أدافع عنه اليوم ولا غدا هو أي نسبة من الفساد، أعني أنني واثق من أن البلد يستطيع أن يغفر الأخطاء، لكنه لن يقبل بالانحرافات». وبدأت عملية التحرك الواسع نحو الصناعة في أصعب الظروف. وبعد أول خطوة جاء العدوان الثلاثي في 29 أكتوبر 1956، وبعدها الحصار الاقتصادي. وبدأ تنفيذ المشروعات الصناعية فعلا بعد أن تم توقيع اتفاقية التصنيع الأولي مع الاتحاد السوفيتي في نوفمبر 1957. ودأب جمال عبد الناصر علي النقد الذاتي باستمرار من أجل تحسين مستوي الصناعة في القطاع العام. إن حملة التشويه والأكاذيب التي تقودها الرأسمالية المستغلة الآن؛ هي خوفا من إقدام الحكومة علي إقالة القطاع العام من عثرته خلال أكثر من أربعين عاما؛ بأن توقفت عملية الإحلال والتبديل لمصانعه، وبيع عدد منها بأقل من ثمن الأرض المقامة عليها! وخوفا من الاتجاه للتوسع فيه من جديد لتحقيق عدالة التوزيع. ولمواجهة الحملة علي تجربة الصناعة المصرية التي نفتخر بها، وكانت نموذجا لدول العالم الثالث في وقتها، وكان إنتاجها يكفي السوق المحلية ويصدر منها الي الخارج، كما كانت مدرسة لتخريج الخبراء والفنيين الذين استعان بهم علي مر السنين الأشقاء العرب والأفارقة، فقد بحثت عن أوراق الدكتور عزيز صدقي، واتصلت بإبنه محمد الذي أخبرني أن والده كتب مذكراته وهي في سبيلها للنشر، كما سجل 18 ساعة صوت وصورة ستوضع في أقرب وقت علي موقع جمال عبد الناصر في مكتبة الإسكندرية، HYPERLINK «http://www.nasser.org» www.nasser.org. ومضت حملة الرأسمالية الفاسدة تلوي الحقائق وتهاجم كل ما كان قطاعا عاما وتضفي عليه الفشل! وهنا أقول: ماذا عن أداء الهيئة المصرية لقناة السويس، وماذا عن مشروع السد العالي الذي استغرق إتمامه عشرة أعوام وتم في وقته المحدد؟! أليست هذه مشروعات عامة ناجحة الي جانب إنشاء أكثر من 1000 مصنع في ثلاثة عشر عاما؟! وهذا النجاح لم يتم في ظروف سهلة، بل واجه تحديات كان نجاحه أمامها مصدر فخر للشعب المصري، الذي تكتل وراء زعيمه في كل خطوة يخطوها. ولقد كانت قناة السويس أصعب تحد إداري واجهته مصر، وكانت تمثل الكرامة والأمن الوطني، ولم يكن هناك استعداد مسبق لهذه المسئولية، فقبل تأميم قناة السويس بثلاثة أيام قال جمال عبد الناصر لمحمود يونس ضاحكا، والكلام للأستاذ هيكل: »هل أعصابك قوية كما عرفتها؟ لقد قررت تأميم شركة قناة السويس، وأريد أن أجعلك مسئولا عنها بعد التأميم«. مرت فترة صمت انتهت بقول محمود يونس: «حاضر يافندم»! وانتقل جمال عبد الناصر الي شرح مستفيض للأسباب والدوافع التي بني عليها قراره الخطير، ثم انتقل الي الحديث عن النتائج والاحتمالات، ثم وصل قرب نهاية المقابلة الي تفصيل الخطوات المحددة خلال الأيام الثلاثة التالية حتي ساعة إعلان قرار التأميم. وقصة نجاح الإدارة المصرية في هيئة القناة معروفة، خاصة أمام مناورات شركات الملاحة، ثم انسحاب المرشدين الأجانب. وقد استطاعت هذه الإدارة المصرية أن تقوم بتوسيع القناة عدة مرات، وترتقي بخدماتها، وتضاعف دخلها حتي الآن عدة مرات. وبنفس الروح بدأ مشروع محور تنمية قناة السويس الذي بادر به الرئيس السيسي تحت إشراف القوات المسلحة، وبمساندة عامة الشعب له في الاكتتاب بأكثر من 64 مليار في مدة قياسية هي أسبوع، وهو ما لم يحدث من قبل في أي دولة في العالم! وهنا أنوه بأن مساهمة الرأسماليين الكبار في تمويل هذا المشروع كانت محدودة، بالمقارنة بثرواتهم التي حققوها بدون وجه حق، وكذلك يفعلون الآن بالنسبة لصندوق تحيا مصر. لماذا نجحت كل هذه المشاريع العامة في عهد جمال عبد الناصر وفي بداية حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي؟ لأن الجماهير المصرية وقفت بإرادتها وراءها بعد ثورات أيقظت الحس الوطني والمشاركة الشعبية. وفي نفس الوقت، تم إعطاء الأولوية لهذه المشروعات العامة، ووقفت أجهزة الدولة كلها وراءها في حزم. هذا بالإضافة الي حسن الاختيار لكل من قادوا هذه المشروعات؛ في الماضي.. محمود يونس وصدقي سليمان ود. عزيز صدقي، وفي الحاضر الفريق مهاب مميش. وأخيرا أحب أن أضيف أن العالم قد تغير، وحتي الولاياتالمتحدة التي تمثل أشرس أنواع الرأسمالية اعترف رئيسها باراك أوباما بضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية في بلده، وركز في خطابه عن «حالة الاتحاد» في 20 يناير 2015 علي رفع مستوي الطبقة الفقيرة والمتوسطة، والعمل علي تضييق الهوة بين الفقراء والأغنياء، ومساعدة عائلات العمال حتي يشعروا بالأمان؛ وذلك بأن يمدهم بالخدمات الصحية والتعليم والمساكن، ودخل للتقاعد! ونفس الاتجاه رأيناه في منتدي دافوس الأسبوع الماضي في حضور 40 رئيس دولة؛ حيث بحث الوسائل الممكنة لتقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وأعتقد أنه الآن، بعد أن تحقق الاستقرار السياسي في مصر، آن الآوان لوقت الحساب.. حساب الرأسمالية الفاسدة عن مصدر ثرواتها وفضح تجاوزاتها، علي أن يتولي ذلك القضاء المصري العادل، ويعيد الي الشعب الأموال المسروقة منه وثروات وطنه. إن مصر أصبحت في الوقت الحاضر دولة غنية بمواردها وبأبنائها، وإذا كان الرئيس السيسي قد قال مخاطبا الإعلام، وكان يقصد الإعلام الخاص الذي يملكه كبار الرأسماليين: «لديك مسئولية عظيمة جدا، إن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كان محظوظا لأنه كان يتحدث والإعلام معه»، فإنني أقول: إن جمال عبد الناصر كان يُحارَب إعلاميا بشراسة من أعدائه في العالمين العربي والغربي، وما أكثر محطات الإذاعة التي وجهت ضده، وبعضها كان يديره مصريون! وفي الواقع فإن وجود الأستاذ هيكل الي جانب جمال عبد الناصر كان حقيقة مكسبا كبيرا له، فقد قام بمناقشة وتفسير وتحليل ونقد سياساته وتوجهاته. إن الرئيس السيسي محظوظ من جانب آخر؛ حيث إعلام الدولة قوي، ناهيك عن ملايين الخبرات والكفاءات المصرية التي أصبحت متاحة للعمل الوطني بعد مجانية التعليم والتوسع في إرسال البعثات الي الخارج في عهد عبد الناصر. وأخاطب الرئيس السيسي.. لا تخش هؤلاء الذين يبدون مصلحتهم الشخصية علي مصلحة الوطن، ولا تنتظر منهم المشاركة في خطة التنمية القومية. إنهم سيحاربونها بشدة، هادفين الي إسقاطها كما فعلوا مع جمال عبد الناصر. إن الشعب بنفس الروح التي تجلت في مشروع قناة السويس، مستعد أن يؤازرك فقد وثق بك.. بوطنيتك وطهارتك وإخلاصك. ولا تحمل هم الإجراءات التي من الممكن أن تبعد القطاع الخاص المصري أو الأجنبي عن المشاركة الوطنية؛ فهم في الواقع قد أحجموا وسوف يمتنعون في المستقبل باستثناء رأس المال العربي. وكان من رأي والدي بعد أن مر بهذه التجربة في الخمسينيات كما ذكر في جلسات مجلس الوزراء - أنه من الأفضل عقد القروض لإقامة الصناعة علي أن تسدد بفوائدها من الناتج الصناعي، ثم يعود الدخل الي الشعب. أما رأس المال الأجنبي، فإنه يقيم الصناعة ويظل الي الأبد يجني ثمارها! إن أمامنا تحديا كبيرا في الداخل والخارج، ولسوف نقف صامدين نعمل من أجل مستقبل يعطي لكل مصري حقه، ويرفع من مستوي هذا الشعب الذي ظُلم كثيرا.