أهدانى أستاذى الجليل د.(عبدالعزيز نوار) منذ زمن بعيد كتابا نادرا من أمهات الكتب التى تضع معالم الطريق للنهضة الإسلامية، وتوسع مدارك العقل العربى والإسلامي، لفهم صحيح الدين ولكى يطلعنى على المحاولات الجادة والعميقة للاجتهاد الذى تتطلبه جوهر العقيدة، ويجعل منها صالحة لكل زمان ومكان، وعندما اكتشفت أهمية الكتاب، الذى أثار ضجة عظيمة عند تقديمه كرسالة دكتوراه فى جامعة «فؤاد الأول» عام 1946، اقترحت على الأستاذ الجليل أن أعيد عرضه ليستفيد منه غيرى من المخدوعين بخطابات الإسلام السياسى البعيدة عن روح الدين وجوهره، فإذا به يشفق على من ذلك، ليقول لى «رحمة الله»: بلاش يابنتى متجبيش لنفسك وجع الدماغ!! لم يكن يتصور الأستاذ أن تصل دينامية الأيديولوجيا أن تصم الإسلام فى العالم كله بصف الإرهاب، لذا على المؤمنين بالرسالة العظيمة للإسلام، ألا يألو جهدا لتقديم صورة حقيقية، ليس للعالم، ولكن للمؤمنين أنفسهم عن جوهر دينهم، باجتهادات أبنائهم المخلصين للدين والوطن، بعد أن أصابنا الفكر الإرهابى بوجع الروح والضمير! الكتاب المقصود هو كتاب العالم د. محمد أحمد خلف الله بعنوان (الفن القصصى فى القرآن الكريم)، وهى رسالة دكتوراه تقدم بها للجامعة تحت إشراف الشيخ (أمين الخولي)، وهو من سانده بقوة ضد الحملة الفكرية، للتيارات التقليدية التى رأت فى الرسالة خروجا على الدين، مادامت خرجت عن التصورات الخاصة بهم لقراءة النص الديني، ورغم ما فيها من اجتهاد لمصلحة النص الديني، بتبنى الأساس الأدبى واللغوى والبلاغى فى قراءة القرآن الكريم، لكنها حتى ذلك الوقت واجهت ما واجهته من قبلها، طروحات (محمد عبده)، واجتهادات «على عبدالرازق» فى الإسلام وأصول الحكمة، وكذلك المنهج البحثى فى (الشعر الجاهلي) لطه حسين، بل اعتبرتها الغول الظلامية التى تفضل الموت على التفكير، أنها أشد شناعة من خطر الكوليرا!! ورغم أن الرسالة تم طبعها بعد ذلك عدة طبعات، وتعتبر مرجعا قيما فى الدراسات الإسلامية، إلا أن محاكم التفتيش التى أدانتها مازالت تحكم الوعى العام، فالمجتهدون يضعون فى اعتبارهم محاذير فكرية، وحدودا لا يتخطونها خوفا من وجع الدماغ! بفرض رقابة ذاتية على اجتهاداتهم، مما يحرم الفكر الدينى من إعمال العقل والتفكير، الذى نادى به القرآن الكريم، ف(خلف الله) لم يكن يقصد التجديد الذى أصابه، ولكن كان يعمل العقل بإخلاص فى القراءة للنص الديني، ويخلص القصد فى البحث العلمى الجاد، ليخرج بنتيجة فى مصلحة النص الديني، ويفهم بالفعل جوهر الدعوة ومعنى أنها صالحة لكل زمان ومكان بالتأويل العقلانى لمعانى القصص القرآنى المختلفة عن تأويل النقليين ممن يحافظون على التأويل التراثى النقلى المرتبط بأزمنة وأماكن مختلفة فحولوا الفكر الدينى من مجال وأفق رحب للاجتهاد وفق متغيرات الزمان والمكان إلى أيديولوجيا مغلقة مكتفية بذاتها، لا تبالى بوقع التفسيرات البشرية التى أسقطت ثقافتها على النص المقدس، والتى قد تؤدى إلى عكس ما أراده النص المقدس، إلى الإرهاب، فالفكرة المغلقة عندما يتم تفعيلها خارج التاريخ، تصطدم بالمعارضين لها، فتتطور إلى معاداتهم، لتنمو داخل نفسها وتكفرهم، وتدخل فى حقل الهذيان الفكري، بترديد قناعاتهم بعنف، يؤدى لا محالة للإرهاب، لأعداء الله وهم ليس إلا أعداء منطقهم فى التفكير الأيديولوجي، الذى يخرج الدين عن مقاصده فى القيم الدينية للعبادة والهداية والتقوى والمثل العليا، فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون. صدق الله العظيم. أكثر الناس لا يملكون من العقل والحكمة ما يجعلهم على مستوى النص الديني، ومن هنا أهمية الاجتهاد فى الإسلام، ليجعل العقول النيرة قادرة على فهم النص وفهم ضوابط الزمان والمكان، والجميع بعد الأحداث المؤسفة التى ترتكب باسم الدين، يطالب بالإصلاح الدينى فى الخطاب العام والحقيقة أن الدين ليس فى حاجة إلى إصلاح، بينما القمع باسم الدين، هو ما يحتاج إلى بتر ومواجهة ، ضد الكهنوت المفروض على الفكر الدينى ما حوله إلى أيديولوجيا تغذى الإرهاب باستقطاب شباب يعانى عوامل سياسية واقتصادية ونفسية اجتماعية ويجد الخلاص فى الموروث الدينى لشخصيات خارج التاريخ سواء من أنتجها، أو من يحرسها حفاظا على سلطته الدينية أوالسياسية، وقال عنهم الشيخ أمين الخولى فى تقديمه للطبعة الثالثة من الفن القصصي: أستطيع أن أقول: رسالة الفن القصصى قد أدت تلك الضريبة فى سنتى 46 و 48 وتقاضتها منها عامية فاسدة الفطرة، فى ظن من ظن لهم خطأ وخداعا، إنهم أصحاب وعي، واليوم صارت الرسالة وفكرتها كسبا غنيا ووجها حسن من الإعجاز القرآنى عند أصحاب الدين والأدب!، تلك الضريبة مازالت تدفع من دماء المفكرين وتفسر معنى الإرهاب. حرية الفكر فى مصلحة الدين عامة، والإسلامى خاصة، فهى ما تربط الفكرة الدينية بالواقع المعاش وحياة الناس الطبيعية، لتستفيد الفكرة من إبداعات الفكر الإنسانى لفهم جوهرها، وهو ما اتضح فى الكتابات الدينية لطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم واجتهادات الباحثين العقلانيين التى تضيع جهودهم هباء، لأنها لا تجد المنظومات التعليمية والإعلامية التى تحملها وتوصلها إلى أفهام الناس وتمكنها من الحكم المنطقى على الأشياء، وفهم الروابط بين الأفكار، التى تؤدى إلى فهم جوهر الدين، وتلك التى تؤدى بالضرورة فى ديناميتها إلى الإرهاب، وهذا المعنى أنتج نوعيات غريبة من البشر يحملون الدكتوراه فى علوم شتي، ويحافظون بمنتهى العنف على الجهل!! وللحديث بقية. لمزيد من مقالات وفاء محمود