نعم.. لم تعد العرائس مجرد وسيلة جذابة لمخاطبة عقول الأطفال وغرس فضائل ما في وجدانهم، فعلى مدى العقود الماضية حدث تطور مذهل في فنون الدمى على مستوى العالم بحيث أصبحت مسرحا يجتاح مشاعر الكبار أيضا ببساطة وإبهار في ذات الوقت.. وما شاهدته في عرض «التحولات» لفنان العرائس الأيسلندى بيرند اجرودنيك خير دليل على ذلك.. وهو العرض الفائز بجائزة الإبداع من مهرجان بانكوك الدولى للعرائس عام 2014. ليلة واحدة وقفها مخرج ومصمم ولاعب العرائس العالمى بيرند على خشبة مسرح القاهرة للعرائس ليقدم لنا عرضا شديد الجاذبية استخدم فيه أغلب فنون العرائس لرصد فكرة التحولات التى يمر بها الكون والبشر من حال إلى حال، وقد اختار هذا العرض تحديدا لمناسبته لما تمر به مصر من حالة مخاض وتحول نحو غد أفضل.. العرض عبارة عن لوحات فنية متنوعة استخدم لها قالب المسرح الأسود لتمنحه القدرة على التنقل بين نوع وآخر بحرية وسلاسة.. عذوبة العرض تتمثل أولا في حالة الحوار والتناغم بين الممثل وعرائسه، وثانيا في بساطة الأدوات المستخدمة فيه والتى جمعها البطل كلها في صندوق أسود صغير بدا لنا وكأنه صندوق العجائب.. في البداية لعب بيرند بإحدى عرائس الماريونيت واستعرض بها حالة الإنسان من الميلاد وحتى الممات وأدى بالعروسة حركات غاية في الدقة والمرونة معا، ثم قدم لوحة اخرى لنشأة الكون وقصة آدم وحواء وكيف تطورت الحياة منذ بدء الخليقة، من خلال مجسم لكرة ارضية تتشابك فيها عناصر الكون من شمس وقمر واشجار وحيوانات وطيور، والتى تحركت جميعها في مرونة فائقة تحسب لبطل العرض الذى استخدم ادواته التمثيلية ليكمل بها عذوبة التكوين العرائسى.. وفوق منضدة سوداء جلس الرجل مستخدما قطعة من القماش الأحمر ووجه سيدة عجوز رصد بها يوميات تلك المرأة وصراعها من اجل التشبث بالحياة في أداء كوميدى رائع.. ثم خاطب عقول الصغار ايضا حينما قدم لوحة الولد والحصان بعرائس اليد والتى حاول فيها التأكيد على ان الأحلام لا تتحقق إلا بالإصرار علي تنفيذها وذلك من خلال محاولات الصبى على اعتلاء صهوة الجواد والتحكم في زمامه مرات عديدة حتى انه نام يوما وتحقق حلمه في المنام وصار الحصان رفيقه، وفي هذه اللوحة كان بيرند بطلا ثالثا يعلق على الأحداث بتعبيرات وجهه ويتفاعل بها مع أفعال شخصياته ودوافعهم إليها.. واستكمل هذه الفكرة بلوحة اخرى النجم فيها كان أصابعه وثلاث كرات خشبية مثقوبة، فقد جسد بها رجلا يسعى لقفز حاجز خشبى ويتعثر عدة مرات حتى يصل لمبتغاه بسبب ارادته واصراره، وهنا كان الممثل كله واضحا لنا رغم ملابسه السوداء واستخدم بقعة اضاءة لمتابعة حركته وابهار الجميع بإمكاناته الحركية وقدراته في التحكم بأعصاب يديه.. أما اعذب اللوحات فكانت تلك التى استخدم فيها نفس الكرات الخشبية لتقديم ولادة حالة حب بين رجل وامرأة وكيف خاض رحلة طويلة من المحاولات حتى يصل إلى قلب محبوبته حتى انه استخدم كل طرق الإغراء والتى اثارت ضحكات الجمهور منها التلويح لها بدولار لاستمالتها وطوال هذا الوقت وهى تبدى تمنعها، حتى استجابت له في النهاية وتزوجا معا، وهى لوحة تحركت فيها الكرات من خلف الصندوق الأسود في رقة شديدة. الملاحظ في هذا العرض هو خلوه من اى كلام او حوار واعتماده على طريقة المايم، باعتبارها ابلغ وسيلة لتوصيل المعلومات لكل شعوب العالم بعيدا عن حواجز اللغة ولكن في المقابل تطلب هذا قدرا عاليا من القدرة على التعبير واستخدام كل امكانات الممثل الجسدية والعقلية في مخاطبة العرائس والتحاور معها، وهو ما حققه بيرند بكل دقة ليؤكد أننا لسنا بحاجة إلى الدعم الإنتاجى بقدر احتياجنا إلى توظيف العقل في عمل حالات درامية متنوعة بعرائس بسيطة وهذا هو التحدى القادم لمسرح العرائس المصرى.