قد يحتاج المرء إلي فصاحة أمة العرب كي يبرهن علي أن المعرفة ملك لفضاء الناس علي اتساعه، ومن ثم فهي ليست ملكا لأحد. ليست ملكا للمثقف أو رجل النخبة، كما أنها ليست ملكا للكاهن أو رجل الدين. من هنا يجب ألا تمثل امتيازا لكائن من كان. ينطبق الأمر علي المعرفة العلمية المجردة التي موقعها العقل، كما ينطبق علي المعرفة الحدسية التي موقعها القلب. فالمعرفة ليست مُعْطَي إلهيا، كما يصورها الكهنة ورجال الدين وليست برهانا علي عبقرية فردية شبه إلهية كما يصورها فنانون ونخبة بل هي مُعْطَي إنساني في كل صورها، ومن ثم يجب ألا تكون طبقية، بل يجب ألا تبقي ملكا للجميع وهذا جزء من نبلها وعدالتها. فكيف إذن تحولت المعرفة في مجتمعاتنا إلي حضَّانات للخرافة وجرَّافات لدهس العقول، ومخازن لجمع المال وسوط لضرب ظهور العامة، ومخلب لابتزازهم ؟! لدرجة بدت معها النخبة وكأنها تنظيمات لتكدير الإنسان. فإذاكانت السلطة، أي سلطة، تمتلك منطقا في استخدام أدوات المعرفة واستثمار فوائض قوتها لتبقي في المخيلة العامة كقوة لا تقهر، فما هي الأسباب التي يمكننا أن نلتمسها للنخبة في ارتكاب الجريمة ذاتها؟! فالواعظ الذي أنفق الليالي في امتداح الجحيم وتعظيم مدونة النواهي يفعل ذلك وهو يرتب لنفسه معصومية تضعه فوق الناس، كأنه ليس واحدا من أبرز خطاياهم، والطبيب الذي يعتقد أنه امتلك حكمة «أبوقراط» لا يدرك أن كَلْبِيَتَه للمال حولت معرفته إلي جحيم ، ففي اللحظة التي امتلك فيها الحكمة فقد فيها العدل، والمسئول الذي ورث قوة الشكيمة جراء تعدد ألقابه وانتفاخ أوداج حُرَّاسِه سقط عندما استبدل العدل بفزاعة البطش، والفنان الذي امتهن ملايين البشر باستخفافه المتواصل بأفراحهم وأحزانهم وهم يهدهدون خوفهم بأعلى الصوت لم يكن بإمكانه أن يقدم لتلك الملايين عملا نافعا سوي الإقامة آخر الليل في مواخير الساقطات. هذه صَفَوِيَةٌ بلا أب ، وأمومة مزيفة للتعالي، وتكاثر مؤلم لمعاني الاغتراب. فهل فعلا تحولَ عامة الناس إلي هَوَام لابد أن نضرب المعازل حولها، وأن نملأ سماءنا بالدخان المُسَمم خلاصا منها؟ وهل ما نقوله ليس أكثر من جرعة مخدر لمريض لا يُرْجَي شفاؤه؟! من أطرف القصائد التي كتبها الشاعر الألماني «برتولد بريخت» قصيدة علي لسان التاجر أو رجل المال يقول في جزء منها: «الله الذي خلق الأشياء وسوَّاها، خلق السيد والعبد، والخير فيما فعل والحكمة فيما رآه .» غير أن الشاعر نفسه قضي عمره مقاوما للنازية باحثا عن العدل فاضحا للمتحدثين باسمه، وعلي رأسهم رجل المال الذي يحاول أن يضفي المزيد من القداسة علي تقسيم البشر إلي سادة وعبيد باعتبار ذلك تعبيرا عن إرادة الله. وقد أشار الدكتور زكي نجيب محمود مؤسس المنطق الوضعي في أكثر من موضع إلي أن دارسي الفلسفة من المسلمين يواجهون معضلة كبيرة تجاوزتها الفلسفة الإنسانية منذ عشرات السنين، باعتقادهم أن حرية الإنسان محدودة بسلطة الجبر وليس ببراح الاختيار، لذلك لم ينجحوا في أن يحرروا الفلسفة من الأوهام التي تقع خارجها، ومن ثم فشلوا في تحرير الإنسان. ربما بسبب الإخفاقات نفسها عاني شعراء المدنيات الحديثة من اغترابات عاصفة أدت ببعضهم إلي الانتحار في نهاية المطاف. وثمة صور مأساوية تعمق معاني المذلة حتي داخل أعتي الديمقراطيات الحديثة. فالشاعر الزنجي الأمريكي « لانجستون هيوز» أحد ضحايا ثورة الزنوج في هارلم يعبر عن ذلك في واحدة من أجمل قصائده عندما يقول: «يتركونني لآكل في المطبخ حين تأتي الرفقة..» ومع ذلك عاش الرجل عمرا، بقوة نضاله، استطاع في نهايته أن يسير مع كلبه في عرض الشارع دون أن يعني ذلك أنه حارس عقار أو سكير وضيع. وربما لغياب هذه الإرادة الحرة تعاظمت مسافات التغرب بيننا حتي لتكاد تستغرق كامل الجغرافيا بعد أن استغرقت جل صفحات التاريخ. العطب يتزايد إذن بين النخبة وناسها. فالمعتقدات والآلهة التي يروج لها المخمليون والرواقيون من الفلاسفة لم تمنع الحروب، ولا الإبادات الجماعية ولا الأوبئة التاريخية ولا منعت الطواغيت عن أكل لحوم ملايين المضطهدين. بهذا المعني لم يكن الله موجودا دائما في ضمير الناس ،ولم يكن غريبا لدي هؤلاء الرواقيين أن يتآخى العشق مع العبوات الناسفة، وأن تتواشج سخرة الأقنان مع كرابيج السادة، فإلي أي حد يمكن للبسطاء أن يثقوا في أن تلك المتناقضات ،علي فداحتها، هي شمس الحقيقة؟ في هذا المناخ لا يمكن فهم شعور النخبة بالاغتراب سوي باعتباره موقفا طبقيا، لكنه يحتمي بأكذوبة القيم «الرفيعة «الطبقية هي الأخرى. وبشكل شخصي لا أخشي من الاعتراف بأن كثيرا من السياسيين الذين التقيتهم في حياتي جعلوني أقل إيمانا بالسياسة وأكثر إيمانا بالناس، لأنهم ببساطة لم يكونوا يعرفون الناس، لذلك بدت السياسة كذبة وبدا احتقار الناس حقيقة ساطع، كما بدا الكدر كأنه أب وأم، كأنه تركة الله التي لا تنفد، فهؤلاء الذين يستوقفوننا ليسألوننا عن الطريق هم الأَوْلَي برعايتنا وليس بالمزيد من سخطنا واحتقارنا. أتذكر للشاعر صلاح عبد الصبور قوله: «إن الأقفال التي نضعها علي قلوبنا لتباعد بيننا وبين الناس ما هي إلا عزلة الذاهب إلي الموت» .فنانون ومفكرون وشعراء من السلالة ذاتها عاشوا منذورين للدفاع عن الحب ، بالأحرى عن سواسية الحلم به، من أجل استنباته أسفل مضاجع الأشقياء الذين أعياهم فقدان الأمل . وهذه كانت علي الدوام رسالة ممثلي الحقيقة أو من يرون أنفسهم كذلك. من هنا ربما تبقي تلك الرسالة غامضة بما يكفي لتعكير صفو «جماعات تكدير الإنسان» لكنها ستظل صادقة بما يكفي لتجديد هوائنا وإصلاح أعطابنا الروحية، لأنها ليست أكثر من رسالة من أجل الحب. وعلينا دائما أن نتذكر أن أجمل ما في الحب أنه تذكير دائم بأننا لا نكتمل إلا بغيرنا. لمزيد من مقالات محمود قرنى