الذكريات الجميلة واللحظات السعيدة كالأحجار الكريمة الثمينة تستحق أن يتم تخليدها والحفاظ عليها بتسجيلها وتدوينها والتقاط الصور لها ، وهذا ما كان يفعله زوار مصر والسائحون والمغامرون الذين جاءوا اليها فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين فتركوا تراثاً ضخماً مبعثراً فى كل أنحاء العالم من الصور والمذكرات والأوراق الخاصة التى تسجل ذكرياتهم وأخبار رحلاتهم ، و قد عثرت أثناء تنقيبى عن الأوراق والصور المصرية القديمة فى أحد المعارض فى لندن بالمصادفة على لوحة من الكارتون المقوى عليها لائحة بأسماء 60 راكباً كانوا على متن إحدى الدهبيات ( المراكب النيلية الضخمة ) وإسمها Damietta أو دمياط التابعة لشركة « كوك « للسياحة فى رحلة نيلية لمدة 20 يوماً بدأت يوم 9 مارس 1927 من القاهرة الى الاقصروأسوان ثم العودة ، الملاحظ أن كل الأسماء المشاركة فى الرحلة كانت لأجانب وأغلبهم من الإنجليز وبعضهم يحمل القابا نبيلة، مما يدل على أن هذه الرحلات كانت تستهوى الأغنياء وأثرياء أوروبا، وخاصة أن الشركة المنظمة هى شركة « كوك وأولاده « والتى كانت تقدم خدمات رفيعة المستوى غالية القيمة مقارنة بما يمكن أن يدفعه من يستأجر دهبية صغيرة خاصة ويقوم بالرحلة بنفسه بدون الحاجة لأى شركة سياحة وهو ما فعلته الليدى دوف غوردون فى نهاية القرن التاسع عشر حينما استأجرت دهبية خاصة جابت بها صعيد مصر صعوداً ونزولاً فى النيل بمبالغ زهيدة ، واللافت للنظر فى هذه القائمة أن الغالبية ممن تضمهم عائلات أو أزواج أى ( السيد والسيدة Mr & Mrs ) كما أن بعضهم إصطحب خدمه معه طوال الرحلة لخدمتهم، وهو ما كان شائعاً فى ذلك الوقت من تأجير خدم وإصطحابهم للحصول على مزيد من الخدمات أثناء الإقامة فى الفنادق وفى الرحلات ، وفى نهاية القائمة وضعت إدارة الشركة اسم مدير المركب والمسئول عن الرحلة وهو السيد فرديناند هاس واسم المدير الطبى للرحلة وهو الدكتور ا. بيسيت مما يعنى أن هذه الرحلات كانت تهتم باصطحاب طبيب ليرافق السياح لمزيد من الأمان ولتقديم الرعاية الصحية لمن يحتاجها على الفور وهى بالطبع خدمة رائعة تدل على وعى القائمين على السياحة فى ذلك الوقت . وفيما يبدو أن هذه القائمة ألصقها أحد المشاركين فى الرحلة ليسجل بها ذكرياته عن هذه الأيام فقد وضع أيضاً مجموعة من الصور الكاريكاتيرية والكروت التى كانت منتشرة فى ذلك الوقت لركوب الحمير فى صحراء مصر، وزيارة المعابد الفرعونية وهى طقوس سياحية كان لابد أن يقوم بها أى زائر لمصر فى تلك الفترة كما الصق صورة للمركب التى أقلت المشاركين فى رحلتهم النيلية وكأنه كان يسجل كل خطوات الرحلة بالأسماء والصور والرسوم الكاريكاتيرية . أما عن شركة « كوك » التى نظمت الرحلة فقد كانت من أوائل الشركات السياحية التى حصلت على ترخيص بتنظيم رحلات نيلية، وكان لها دهبيات مخصوصة تقوم بتسييرها بين مدن صعيد مصر كما كان لها محطات خاصة تحمل اسمها لتنزيل وإستقبال الركاب على ضفاف نهر النيل وخاصة فى الأقصروأسوان ويقول إعلانها الذى نشرته عام 1922 « أن شركة توماس كوك وأولاده توفر لكم أرقى رحلات نهرية على مستوى العالم فمراكبها تتميز بالغرف الفاخرة والأسطح المتسعة والحمامات الخاصة الملحقة بالغرف التى تتوافر فيها المياه الساخنة والباردة فى كل الأوقات كما أن هذه المراكب النيلية توفر الراحة لركابها ، وتقدم الشركة ثلاثة برامج من الرحلات ، الأولى من القاهرة الى الاقصروأسوان لمدة 3 أسابيع ب 70 جنيه إنجليزيا على متن المراكب ( السودان والعربية ومصر ) والتى تغادر القاهرة الأربعاء من كل أسبوع بداية من شهر نوفمبر وحتى شهر مارس من كل عام والثانية نفس الرحلة ولكن لمدة أسبوعين ب 56 جنيها انجليزي على متن المراكب ( دمياط ورشيد ) والتى تبحر من القاهرة يوم السبت بداية من شهر يناير وحتى بداية شهر مارس أما الثالثة فكانت مختلفة لانها لمدة أسبوع واحد فقط وتبدأ من الشلال فى أسوان وحتى أبو سمبل ووادى حلفا يوم الاثنين من كل أسبوع ب30 جنيه انجليزيا فقط ، وفى نهاية الإعلان أكدت الشركة التى يوجد مقرها الرئيسي فى لندن أن لها أفرع فى كل من القاهرة والإسكندرية والأقصروأسوان وبورسعيد والخرطوم وكافة أنحاء العالم . بقى أن أقول إن شركة « كوك وأولاده للسياحة « أسسها الانجليزى توماس كوك ( 1808 - 1892 ) الذى يقول عنه شريف سيد عفت فى كتابه « تاريخ أقل قبحاً » أن توماس كوك هو بلا جدال رائد السياحة المنظمة فى العالم وكان يطمح فى زيارة الشرق الأوسط والحج الى الأماكن المقدسة فى مصر وفلسطين مستكشفاً الطريق والمعالم حتى يمكنه إعداد برنامج لزيارتها وقد فتح له مكتباً فى فندق شبرد القديم وبعد إفتتاح قناة السويس عام 1869 أصبحت مصر عنصر جذب للأجانب فبدأ التركيز على مصر وأثارها ونيلها والشتاء الدافئ فقرر بناء سفن للإبحار جنوباً على طول النهر وقد تم بناء عدد منها فى إسكتلندا وإرسالها مفككة الى مصر حيث يتم تجميعها فى ورش خاصة فى بولاق وقد أطلق عليها السائحون «القصور العائمة عن « وأصبح لديه 17 منها بالإضافة الى 33 دهبية صغيرة وتم تنصيب شركته وكيلاً وحيداً للمسافرين عبر نهر النيل بموافقة الخديو اسماعيل عام 1870 وهكذا بدأت السياحة النيلية فى مصر فى القرن التاسع عشر والله .. الله على نيل مصر زمان والآن .