الفاو: أسعار المواد الغذائية ترتفع للشهر الثاني على التوالي    التقديم الثلاثاء.. الأوراق المطلوبة للتصالح في مخالفات البناء    حرب غزة تشعل جامعات العالم، تعرف على خط سير الاحتجاجات الطلابية    جوميز يمنح 11 لاعبا راحة من التدريبات الجماعية قبل مواجهة سموحة    عاجل.. عودة الأمطار.. «الأرصاد» تحذر من تغير حالة الطقس في الساعات المقبلة    إصابة 12 شخصا في انقلاب ربع نقل بمركز المنيا    المتحدة تطلق حفلات "ليالي مصر" من الدلتا للصعيد    "شقو" يتراجع ويحتل المركز الثاني في شباك التذاكر    البابا تواضروس الثانى يصلى الجمعة العظيمة فى الكاتدرائية بالعباسية..صور    توخيل يلمح لإمكانية استمراره مع بايرن ميونخ    الذهب يرتفع 15 جنيها في نهاية تعاملات اليوم الجمعة    محافظ المنوفية: مستمرون في دعم المشروعات المستهدفة بالخطة الاستثمارية    عضو «ابدأ»: المبادرة ساهمت باستثمارات 28% من إجمالي الصناعات خلال آخر 3 سنوات    الاستعدادات النهائية لتشغيل محطة جامعة الدول بالخط الثالث للمترو    المنتدى الاقتصادي العالمي يُروج عبر منصاته الرقمية لبرنامج «نُوَفّي» وجهود مصر في التحول للطاقة المتجددة    أمين اتحاد القبائل العربية: نهدف لتوحيد الصف ودعم مؤسسات الدولة    السفارة الروسية بالقاهرة تتهم بايدن بالتحريض على إنهاء حياة الفلسطينيين في غزة    المحكمة الجنائية الدولية تفجر مفاجأة: موظفونا يتعرضون للتهديد بسبب إسرائيل    حاكم فيينا: النمسا تتبع سياسة أوروبية نشطة    المقاومة الفلسطينية تقصف تجمعا لجنود الاحتلال بمحور نتساريم    نشرة الحصاد الأسبوعي لرصد أنشطة التنمية المحلية.. إنفوجراف    الشكاوى الحكومية: التعامُل مع 2679 شكوى تضرر من وزن الخبز وارتفاع الأسعار    تونس تدخل تعديلات على قوانين مكافحة المنشطات بعد صدور عقوبات ضدها    بواسطة إبراهيم سعيد.. أفشة يكشف لأول مرة تفاصيل أزمته مع كولر    الغندور: حد يلعب في الزمالك ويندم إنه ما لعبش للأهلي؟    تشافي: نريد الانتقام.. واللعب ل جيرونا أسهل من برشلونة    "لم يحدث من قبل".. باير ليفركوزن قريبا من تحقيق إنجاز تاريخي    وزارة الصحة توضح خطة التأمين الطبي لاحتفالات المصريين بعيد القيامة وشم النسيم    برواتب تصل ل7 آلاف جنيه.. «العمل» تُعلن توافر 3408 فرص وظائف خالية ب16 محافظة    كشف ملابسات واقعة مقتل أحد الأشخاص خلال مشاجرة بالقاهرة.. وضبط مرتكبيها    إعدام 158 كيلو من الأسماك والأغذية الفاسدة في الدقهلية    خلعوها الفستان ولبسوها الكفن.. تشييع جنازة العروس ضحية حادث الزفاف بكفر الشيخ - صور    أبرزها فريد خميس.. الأوقاف تفتتح 19 مسجدا في الجمعة الأخيرة من شوال    نعم سيادة الرئيس    تعرف على توصيات مؤتمر مجمع اللغة العربية في دورته ال90    لأول مرة.. فريدة سيف النصر تغني على الهواء    في اليوم العالمي وعيد الصحافة.."الصحفيين العرب" يطالب بتحرير الصحافة والإعلام من البيروقراطية    عمر الشناوي ل"مصراوي": "الوصفة السحرية" مسلي وقصتي تتناول مشاكل أول سنة جواز    مواعيد وقنوات عرض فيلم الحب بتفاصيله لأول مرة على الشاشة الصغيرة    دعاء يوم الجمعة المستجاب مكتوب.. ميزها عن باقي أيام الأسبوع    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة.. فيديو    خطيب المسجد الحرام: العبادة لا تسقط عن أحد من العبيد في دار التكليف مهما بلغت منزلته    مديرية أمن بورسعيد تنظم حملة للتبرع بالدم بالتنسيق مع قطاع الخدمات الطبية    بعد واقعة حسام موافي.. بسمة وهبة: "كنت بجري ورا الشيخ بتاعي وابوس طرف جلابيته"    بيان عاجل من المصدرين الأتراك بشأن الخسارة الناجمة عن تعليق التجارة مع إسرائيل    خطبة الجمعة اليوم.. الدكتور محمد إبراهيم حامد يؤكد: الأنبياء والصالحين تخلقوا بالأمانة لعظم شرفها ومكانتها.. وهذه مظاهرها في المجتمع المسلم    دليل السلامة الغذائية.. كيف تحدد جودة الفسيخ والرنجة؟    ضبط 2000 لتر سولار قبل بيعها بالسوق السوداء في الغربية    التعليم العالي: مشروع الجينوم يهدف إلى رسم خريطة جينية مرجعية للشعب المصري    سموتريتش: "حماس" تبحث عن اتفاق دفاعي مع أمريكا    محافظ المنوفية: 47 مليون جنيه جملة الاستثمارات بمركز بركة السبع    إصابة 6 سيدات في حادث انقلاب "تروسيكل" بالطريق الزراعي ب بني سويف    نقيب المهندسين: الاحتلال الإسرائيلي يستهدف طمس الهوية والذاكرة الفلسطينية في    «الإفتاء» تحذر من التحدث في أمور الطب بغير علم: إفساد في الأرض    إصابة 6 أشخاص في مشاجرة بسوهاج    الفلسطينيون في الضفة الغربية يتعرضون لحملة مداهمات شرسة وهجوم المستوطنين    رئيس اتحاد الكرة: عامر حسين «معذور»    الغدة الدرقية بين النشاط والخمول، ندوة تثقيفية في مكتبة مصر الجديدة غدا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى الذكرى السابعة والتسعين لميلاده
صورة ناصر وراء جموع تتقدم نحو الغد
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 01 - 2015

قبل أن تحل الذكرى السابعة والتسعون لميلاد الرئيس جمال عبد الناصر ،المولود في السادس عشر من يناير 1918 ،تلمس بعض الكتاب أوجه شبه بينه وبين مؤسس الحكم المركزي الوراثي في مصر الحديثة محمد علي باشا الذي أنهى النظام المملوكي ،وهو النظام الذي يصفه المؤرخ الأرمني سوفور لويزينيان في كتابه الممتع «تاريخ تمرد علي بك» بأنه «جمهورية عسكرية أرستقراطية» يُنْتخب رئيسها(شيخ البلد) من بين 20 سنجقا ملوكيا يحمون السنجقيات (المحافظات)الداخلية ،تاركين الثغور الأربعة لسناجق أتراك ،وفي إطار تعددية مجتمعية اعتبر محمد عبده في مذكراته أنها كانت مصدر قوة المقاومة ضد الحملة الفرنسية ،بينما تسببت المركزية الخانقة التي فرضها محمد علي وخلفاؤه ،برأي محمد عبده ،في السقوط السريع أمام البريطانيين في 1882.
لكننا نرى أنه لا مجال للمقارنة بين الباشا والرئيس لأن كلا منهما نقيض للآخر. ففي كتابه «مصر تحت حكم الخديويين» يعتبر روبرت هنتر أن حكم أسرة محمد علي قام على رعاية مصالح أوروبا في مصر العثمانية. والثمن ،برأينا ، مساندة أوروبا لطموحات الباشا وذريته باعتبارهم وكلاء لأوروبا في مصر العثمانية. وبالمقابل ،فنظام عبد الناصر وخلفائه (ويستثنى منهم محمد مرسي)اتخذ لنفسه مسارا معاكسا،هو مقاومة الهيمنة الغربية وتأسيس سلطة وطنية على ركائز محلية ،في مقدمها مؤسسة الدفاع التي اعتبرها ناصر«طليعة الشعب المسلحة» ،وحوّلها عبد الفتاح السيسي إلى «ظهير للإرادة الشعبية».
وكما كان محمد علي تجسيدا ناجحا لطموحات سياسية لقادة سبقوه ولم يبلغوا ما بلغ ،فقد كان عبد الناصر تحقيقا لطموحات من سبقوه ولم يحققوا آمالهم التي هي آمالنا. وكلاهما ،وبغض النظر عن هزائم عسكرية لا يمكن تجاهل آثارها ،واصل الشوط حتى نهايته المظفرة. فمحمد علي باشا ،وبغض النظر عن طموحاته الإمبراطورية التي حجّمتها أوروبا ،مكّن مصر من أن تطل برأسها ،دون أن تخرج تماما ،من «الغمر الإمبراطوري» ،عندما حقق لها الحكم الذاتي الإداري. وارتفع حفيده اسماعيل بهذا الإنجاز لمستوى الخديوية أوالحكم الذاتي السياسي ،ثم صعد به فؤاد الأول إلى مرتبة الاستقلال الإسمي. كل ذلك وسط حضور قوي ومهيمن لجاليات أجنبية مهيمنة على شئون الأسرة الحاكمة وعلى فعاليات الدولة والمجتمع ،من زمن محمد علي ليوم خروج فاروق الأول من مصر. أماعبد الناصر فقد مصّر الدولة وحقق شعار العرابيين ،أعداء الأسرة الخديوية ،وهو«مصر للمصريين». وربما كان عنوان كتاب ويلتون واين «ناصر : قصة البحث عن الكرامة» أفضل تلخيص للفارق الجوهري بين المغامر الألباني وبين الزعيم المصري. الأول استعان بفرنسا وغيرها من قوى أوربا لتحقيق طموحاته ،والثاني حارب الجميع من أجل كرامة أمته ،والسردية المصرية تجدد روحها في كل واحد منهما ،على نحو فريد ومبهر ،وعبر عذابات وتضحيات كبيرة ،ثم تغادره نحو أفق هو بدوره دائم التجدد.
بدأت المسيرة التي يعد محمد علي تتويجا لها مع علي بك الكبير ،أول من سعى لتنسيق المصالح الأوروبية في مصر والشرق العربي مقابل مساندة توقعها من قيصرة روسيا إيكاترينا الثانية له في فصل المنطقة العربية عن الكيان العثماني. وطبقا لما ذكره هنري لورانز فقد وعد علي بك الكبير قيادات مالية يهودية في ألمانيا بدولة لليهود في فلسطين كجزء من مشروعه الإقليمي.
ولم ترد إيكاترينا على علي بك الكبير إلابعد أن أقنع الحاخام اليهودي جوشوا تسايتلين الألماني الأصل عشيقها الأمير بوتمكين بتشكيل فيلق يهودي كطليعة لاستيطان يهودي في فلسطين. وبدأ الاقتراب من سادة فلسطين المماليك في القاهرة عندما وصل الدبلوماسي الروسي الألماني الأصل البارون دو طونوس إلى ميناء دمياط في أغسطس 1788على متن بارجة حربية ليعرض تقديم المساعدة على استقلال مصر عن السلطنة ،كما طلب علي بك الكبير ،الذي كان في ذلك الوقت مقبورا بعد أن دالت دولته بلدا مضطربا ،وكان مراد بك وابراهيم بك اللذين خاطبتهما الأوراق التي وجدت مع البارون هاربين في الصعيد ،فسجن مماليك القاهرة البارون في القلعة ثم قتلوه.
ووفقا لما ذكره ابراهيم أمين غالي في دراسته «جذور التغلغل الروسي في مصر» فقد كان تلويح الإمبراطورة لمصر المملوكية بالاستقلال مجرد خديعة لأنها كانت قد وعدت فرنسا بأن تعطيها مصر ،على أن تؤسس هي لنفسها مركزا متميزا في الشام تكون قاعدته دولة يهودية في فلسطين. وهكذا فشل أول مشروع لوكالة أوروبية في مصر ،وكان بين علي بك وروسيا القيصرية.
وجاء المشروع الثاني بعد أن فشلت الحملة الفرنسية في إخضاع مصرطوال ثلاث سنوات من الاحتلال لم تتوقف أثناءها المقاومة ،في مختلف أنحاء البلاد ،فيما بقي أغلب الصعيد مستقلا. ويصف أونوريه دي بلزاك المواجهة العسكرية بين الفرنسيين والمماليك على أطراف القاهرة وصفا يشعرك بأن القوات المملوكية ،بعد أن أعجزتها القدرات العسكرية الفرنسية الحديثة ،في نهاية معركة امبابة ،تحولت إلى سراب صحراوي ظل الفرنسيون يلهثون وراءه ،دون طائل ،حتى استنزفت قواهم وصاروا فريسة سهلة للتدخل الأنكلو-عثماني. ولاشك أن مراد بك كان بطل هذه المقاومة الأسطورية التي صارت مثلا يحتذى في نضال الشعوب ضد الإمبريالية ،من روسيا التي غزاها بونابرت في 1812إلى الهند الصينية التي قهرت الغزاة الفرنسيين ثم الأمريكيين في القرن العشرين.
وبالنهاية تحالف الفرنسيون مع مراد بك ،النجم العسكري وأبرز وجوه المقاومة في مصر فى تلك الفترة والذي لطالما تردد في الاختيار بين تحالف مع انجلترا وتحالف مع فرنسا قبل أن يستقر على التحالف مع انجلترا ويغضب فرنسا قبل حملتها على مصر بأربع سنوات. وقد أبرم التحالف مع مراد الجنرال كليبر الذي أنشأ في مصر أول محفل ما سوني. وإذا كان من السهل تحديد موقع المشروع الصهيوني من مشروع الوكالة الأولى بين علي بك وروسيا ،فالأمر غير واضح بالنسبة للوكالة الثانية التي أبرمتها الحملة الفرنسية مع مراد ،لأن المؤرخين يشككون بالمانيفستو الذي انفردت بنشره الجريدة الحكومية الفرنسية المونيتور La Moniteur زاعمة أن بونابرت وجهه إلى «الأمة اليهودية» ،واعدا إياها بالحرية وب «العودة» إلى فلسطين.
الشاهد أنه لم يمهل الموت مراد بك حتى يصبح وكيلا لفرنسا في مصر. وجاء محمد علي باشا إلى الحكم بعد أن تيقن الفرنسيون من أن السيطرة الأوروبية المباشرة على مصر ليست بالأمر الهين ،وهو درس لم ينسوه أبدا. ومن ينظر إلى التعاون الوثيق بين الباشا والحكام من أبنائه وبين فرنسا ،وإدارتهم لكثير من مشروعات الدولة على نحو يعد نسخة شرقية من الرؤى الفرنسية ،يفهم ماقاله لويس عوض عن محمد علي فهما لا أدري هل كان عوض نفسه يقصده أم لا.
يقول لويس عوض إن محمد علي وليس بونابرت هو رجل الأقدار.ويمكنك أن تقرأ عبارة لويس عوض هذه على أنها تعني أن الباشا – وليس بونابرت - هو من اصطفته الأقدار ليدخل بمصر والشرق العربي إلى الحداثة. وما أفهمه أنا أن الباشا هو أول من قدر له أن يحكم مصر العثمانية كوكيل لأوروبا ،وإن جاء التحديث كجزء من الصفقة التاريخية. وقد كان المعلم الجنرال يعقوب مؤسس الفيلق القبطي مرشحا لهذا الدور ،كوكيل لبريطانيا ،لكن الموت الذي وضع نهاية لطموحات مراد بك وضع نهاية لطموحات المعلم القبطي. ويروي نوبار باشا كيف أن محمد علي وكل من خلفه على حكم البلاد كانوا يبدأون عملهم اليومي ،كل صباح ،بالإنصات لمطالب ستة عشر قنصلا أورويا وقنصل الولايات المتحدة ،وكان الإنصات مشفوعا ،في معظم الأحوال ،بالاستجابة للطلبات وإن بلغت سفاهتها مبلغا سورياليا.
لكن النفوذ الأوروبي يكاد يكون انحصر في فرنسا وبريطانيا مع تأسيس السيطرة الثنائية على شئون الحكم في 1876فلماذا حركت لندن الأمور باتجاه الانفراد بحكم مصر؟ يقول عباس العقاد إن الاحتلال البريطاني لمصر كان هدفه أن يكون مساندة الاستيطان اليهودي في فلسطين. ويؤيد هذا الرأي أن بيوت المال اليهودية كانت أكبر دائن لمصر ،والديون كانت المدخل للسيطرة التي أفضت إلى احتلال عسكري تزامن مع تأسيس أول مستوطنة يهودية في فلسطين في 1882.
في ظل الأسرة العلوية همدت الروح الوطنية المصرية التي تجلت كحركة وطنية ديمقراطية مع توقيع وثيقة 1795بين المماليك وقيادات المجتمع المدني المصري ،ثم عادت للظهور في المقاومة المصرية المتواصلة للاحتلال الفرنسي ،ثم خاضت إلى جانب محمد علي الحرب ضد الرجعية المملوكية ،بقيادة رجال من أمثال حجاج الخضري وابن شمة الجزار ،وهما قائدان لنقابتي الخضرية والجزارين كونا ميليشيا مسلحة تضم أربعين ألف رجل. والطريف أن رابطة الشحاذين ،شأنها شأن الصوفيين والأشراف الذين قادهم عمر أفندي مكرم ،كان لها هي الأخرى دور في الحرب على المماليك.
وبعد أن «خلصت مصر لمحمد علي»بتعبير الجبرتي خنق كل مبادرة أهلية فوهنت الروح الوطنية قرابة خمسة وستين عاما ،لتستيقظ بعد هزيمة الجيش المصري في حرب الحبشة في 1876بسبب خيانة جنرالاته الأمريكان وتخاذل جنرالاته الأتراك ،فنشأ الحزب الوطني في حلوان ،وكان من قادته الضابط أحمد عرابي.
وبعد احتلال البريطانيين مصر بتواطؤ من الخديو ومن السلطنة العثمانية التي أعلنت عاهلها خليفة وأميرا للمؤمنين – بنصيحة من الإمبراطورة إيكاترينا !! - عندما هزمه الروس في حرب القرم الأولى ،توارت الروح الوطنية المصرية مجددا ولعقد كامل ،انتهى بارتقاء باعث الحركة الوطنية عباس حلمي الثاني الأريكة الخديوية في 1892.
لكن التيار الذي بلغ ذروته مع ظهور عبد الناصر ،أول رئيس دولة مصري يحظر النشاط الماسوني ،والقائد الذي أخرج مصر خروجا كاملا ،لأول مرة منذ عشرين قرنا ، من «الغمر الإمبراطوري» ،هذا التيار بدأ بعد أن تخلى محمد بك فريد ،وهو منفي خارج البلاد ،عن التطلع للدولة العلية العثمانية ،وإن كانت زعامة سعد باشا زغلول وتأسيس حزب الوفد المصري هي البداية العملية للمشروع الوطني الذي تموضعت في فضائه الزعامة الناصرية ،والذي مازال المصريون يتحركون في إطاره ،بعد سقوط محمد مرسي ،الذي مثلت رئاسته النشوز الوحيد عن المشروع الوطني الذي بدأ في 1918.
فكيف نرى ،إذن ،المقايضة التي ساقنا إليها جمال عبد الناصر بعد 1954عندما أخذ منا الديمقراطية وأعطانا ،في المقابل ،الحقوق الاجتماعية والاقتصادية؟ أليس هذا خروجا على المشروع الزغلولي الوطني الدستوري الذي ورث عن العرابيين ربط الوطنية بالحكم البرلماني الفعال وبالمحاسبية accountability ؟
نعم هو خروج على المكون الدستوري في المشروع الوطني المصري بعد أن أفلست القوى الديمقراطية المصرية ،منذ أزمة فبراير 1942 ،وصارت البلاد مهددة بأن تستولي عليها قوتان معاديتان للديمقراطية ومتجاوزتان للوطنية : الإخوان المسلمون كأممية دينية والشيوعيون كأممية بروليتارية. وفي مناورة بالغة الخطورة فإن «الأخ جمال» كما كان يدعوه الإخوان ،أو «الرفيق موريس» وفقا للاسم الحركي الذي يقال إنه كان يعرف به في الدوائر الشيوعية ، هذا القائد الذي قرأ كتاب «الأمير» لماكيافيللي أكثر من عشر مرات ،حرك جنوده وضباطه للاستيلاء على السلطة ،بعد اتفاق مع الإخوان ومع منظمة «حدتو» الشيوعية ،كممثلين للقوى الجديدة في الشارع السياسي. وبعد نجاح الحركة طعم المجتمع والدولة ضد الفريقين : بجرعة أصولية سلفية في التعليم والإعلام تُغْنيه عن الإخوان ،وبقدر من التحديث والعدالة الاجتماعية ومجابهة الإمبريالية يُغْنيه عن الشيوعيين ،وكل ذلك في إطار الخروج الكامل من «الغمر الإمبراطوري»للكيان الوطني المصري.
سبقت ذلك إرهاصات تربطنا علاقة مباشرة بفصلها العرابي. لكن العرابيين وكل من ظهر قبل الحرب العالمية الأولى لم يعمل ،صراحة ،على الخروج من التبعية العثمانية ،وبقينا متأرجحين بين الاحتماء بالترك من الأوروبيين والاحتماء بالأوروبيين من الترك. وفي نهاية الحرب الأولى ،جاءت اللحظة الويلسونية (حسب تعبير إيريتس مانيلا في كتاب له بهذا العنوان) برسالة تقرير المصير والمساواة بين الأمم ،ونشطت للاستفادة منها بلدان كان أهمها الصين ومصر والهند وكوريا. عندئذ قررت مصر الزغلولية أن تعطي استقلالها عن السلطنة العثمانية المتهاوية المعنى الذي لا يتحقق إلا بخروجها من قفص الحماية البريطانية ،ومن كل تبعية للقوى خارجية. وكانت هذه هي الرسالة المركزية لثورة عبد الناصر كثورة تحرر وطني تستكمل ،بأبناء الطبقات الوسطى ،ما بدأته ثورة 1919من نضال يستهدف الاستقلال والتحديث ،فالعسكريون ،برأي ستيفت كوك ،تحديثيون بالمقام الأول.
فهل انتهت ثورة عبد الناصر ،كما هو شائع بعد هزيمة 1967؟ لقد خرجت مصر ،وإلى الأبد ،من «الغمر الإمبراطوري». وهزيمة 1967 بالنسبة لمصر عبد الناصر هي ،في بعض جوانبها ،كمؤتمر لندن 1840بالنسبة لمصر محمد علي ،باعتبارها تغليبا للبعد الدولي في ترسيم مصائر الدول في الهلال الخصيب وليبيا ،على كل بعد إقليمي أو وطني ،مع بقاء السيادة الوطنية المصرية كاملة لا تمس ،خاصة بعد اكتمال تصفية الوجود الإسرائيلي في سيناء في 1982.
ومرة أخرى نتساءل :هل انتهت ثورة عبد الناصر؟ الخروج من «الغمر الإمبراطوري» اكتمل ،لكن التحديث لم يكتمل ، والعدالة الاجتماعية تترنح. ووفقا لما يقوله الكاتب الفرنسي المصري روبير سوليه ،في كتابه«السادات : سيرة لاغنى عنها لفهم مصر اليوم» فجمهورية عبد الناصر تريد ،في مرحلتها الراهنة ،تحقيق التنمية والعدالة والتحديث ،ليس بأسلوب عبد الناصر بل بأسلوب السادات : بانفتاح على كامل القوى الإقليمية والدولية الفاعلة ،وبمكون إسلامي قوي في الخطاب الوطني العام ،وبتعددية حزبية ،وبدور قيادي للقطاع الخاص في التنمية. ونضيف نحن أنها اليوم قد تكون أميل لأن تحقق غاياتها برزانة الدولة وليس بجموح الثورة. فكيف بزغت ،وراء هذا كله ،صورة عبد الناصر التي رفعها المتظاهرون في ميدان التحرير في مطلع اللحظة الراهنة التي يمكنك أن تتبين فيها امتدادات اللحظة الويلسونية السابقة ؟ لأن ناصر رمز باق في كل رمز أتى بعده ؟ لتأكيد التأويل المصري للحظة الويلسونية الجديدة ،وخاصة فيما يتصل بترسيم حدود التصادم والتعايش بين المشروعين المصري والصهيوني ؟ لأن صورته تعويذة قد تدفع الأشباح الأصولية السلفية بعيداعن قلب المشهد وإلى منطقة محدودة على أطرافه؟ كل هذا جائز.. لكن المؤكد أن الصورة باقية حيث هي ،لا تغادر خلفية المشهد ،لتختفي أو لتتقدم الصفوف. ووراءها بمسافة بعيدة ،لاتكاد تبين ،تلوح صور عديدة من «البانثيون المصري» ،أو من مراقد الأبطال الوطنيين ،بينها صورة محمد علي باشا ،تلوح كلها وراء الجموع الحاشدة ،فيما تواصل مصر مسيرتها لتطور جمهورية يوليو ،وربما لتتجاوزها تماما ،وفق متغيرات قد تأتي بها الأيام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.