صدقت التقديرات الغربية بشأن الإرهاب المحتمل فى أوروبا عقب عودة الأوروبيين الذين يحاربون فى صفوف «داعش» وإخوتها. لم يخش خبراء مكافحة الإرهاب من عمليات كبرى على غرار 11 سبتمبر 2011م بالولايات المتحدة، لكنهم يخشون عمليات صغيرة، مؤثرة، توقع ضحايا، وتبث الرعب فى نفوس الناس. الحادث الإرهابى الذى وقع فى جريدة «شارلى إبدو» الساخرة منذ أيام، وتسبب فى مقتل وإصابة كثيرين، ليس الأول من نوعه، والأرجح أنه لن يكون الأخير، وهو ما يؤكد صحة الآراء التى ترددت فى البداية من أن أوروبا سوف تعانى لفترة ليس من إرهاب منظم كبير، ولكن من عمليات محدودة، مؤثرة، تحقق خسائر بشرية ومادية. فى شهر فبراير الماضى، فى مدينة «كان» الفرنسية، التى يقترن اسمها بمهرجان عالمى للسينما، ألقت الشرطة القبض على شخص يُدعى «إبراهيم» - يبلغ من العمر 23 عاما - يقوم فى شقته بصناعة قنبلة، وأمضى نحو ثمانية عشر شهرا يحارب فى صفوف «داعش» فى العراقوسوريا، وعاد مثل المئات العائدين إلى المدن الأوروبية يحملون ذاكرة القتل، والوحشية، ويريدون عقاب أوروبا مثلما كان «إبراهيم» يرسل سيلا من الرسائل الالكترونية تحت عنوان «عقاب فرنسا». منذ سبعة أشهر وقع حادث مماثل فى «بلجيكا» - بالتحديد فى 24 مايو من العام الماضى - قام شخص فرنسى الجنسية من أصل جزائرى يُدعى «مهدي» بإطلاق النار فى المتحف اليهودي، مما أودى بحياة أربعة أشخاص، وألقى القبض عليه فى «مارسيليا» عند عودته إلى فرنسا عندما اكتشف موظف الجمارك أنه يحمل «كلاشينكوف» فى حقيبته. البحث فى خلفية «مهدى» الذى يبلغ من العمر 29 عاما - يكشف أنه أمضى عاما فى سوريا، وقبلها خمس سنوات فى السجن فى قضية جنائية، وخلال مدة إقامته فى السجن اعتنق الفكر الجهادي. وقد عاد إلى أوروبا عبر تذكرة سفر من تركيا إلى المانيا، وهناك تعرفت عليه السلطات الألمانية، وأبلغت نظيراتها الفرنسية. تشير السلطات الفرنسية إلى أن نحو ألف من مواطنيها يحاربون فى العراقوسوريا، عاد منهم نحو 118 شخصا، وهناك ما يقرب من خمسة بريطانيين يلتحقون بصفوف «داعش» كل أسبوع، وتشير التقديرات الأوروبية إلى أن عدد الأوروبيين الذين يحاربون فى الشرق الأوسط يبلغ أربعة آلاف. وهناك عملية اصطياد، ومراقبة للعناصر الأوروبية الجهادية العائدة إلى دولهم، لكن يبدو أن المسألة أكثر تعقيدا. فى استطلاع للرأى أجراه معهد «واشنطن» للشرق الأدنى أشار إلى أن التعاطف مع «داعش» فى المجتمعات العربية أقل منه لدى المجتمعات المسلمة فى أوروبا. وحول أسباب التحاق قطاع من الشباب المسلم فى أوروبا بالتنظيمات الجهادية المتطرفة يذهب السفير أحمد أكبر «صاحب كتاب رحلة إلى أوروبا: الإسلام، الهجرة والإمبراطورية» إلى أن هؤلاء الشباب من الجيلين الثانى والثالث من المهاجرين العرب والمسلمين يتعرضون للتهميش الاجتماعى، ويعانون من نقص الرعاية الدينية، ولديهم قضية يدافعون عنها فى سوريا التى قتل فيها إلى الآن نحو مائتى ألف شخص. ويضيف أن ذلك حدث على نطاق محدود سابقا فى الحرب ضد القوات السوفيتية فى افغانستان، وأيضا فى حرب البوسنة، وهو ما يشبه مشاركة بعض الأمريكيين إلى جانب الأسبان فى النضال ضد نظام فرانكو الفاشى، وخلال هذه المواجهة استخدمت أساليب تمارسها الجماعات الإرهابية مثل التفجيرات، القتل على المشاع، الخ. ما طرحه السفير «أكبر أحمد» يمثل نموذجا للتفسيرات النمطية التى تعيد انتاج المقولات التى ترى أن المشكلات الاجتماعية سبب فى انخراط الشباب المسلم فى تكفير وكراهية المجتمعات الأوروبية التى يعيشون فيها، ومن ثم يلجأون إلى العنف. ولكن هذه التفسيرات تظل قاصرة، تبريرية، تتغافل حقيقة أن ملايين المسلمين يعيشون فى أوروبا دون مشكلات كبرى، وكثير من المجاهدين الشباب نشأوا فى مجتمعات أوروبية تٌعرف بالتسامح مع الأقليات مثل بريطانيا. فى هذا الصدد يشير «أنتونى جليز» الاستاذ الجامعى فى مركز «الأمن والدراسات الاستخباراتية بجامعة باكينجهام» إلى أن التطرف ينتشر فى بريطانيا تحت ستار «حرية التعبير» و«التعددية الثقافية». يعنى ذلك أن «الفكر التكفيرى» هو باعث أساسى لانضمام الشباب المسلم لصفوف «داعش» وليس التهميش الاقتصادى والاجتماعي. فى تقرير لشبكة «سى. إن. إن» الإخبارية تضمن حوارا أجرته مع بعض المجاهدين عبر الإنترنت قال أحدهم من بريطانيا إنه نشأ فى أسرة متوسطة الحال، تعيش حياة كريمة، ويمتلك سيارة لكنه لا يستطيع ممارسة الإسلام، ويشعر بأن الفساد يحيط به من كل جانب، وبالتالى ذهب إلى سوريا لتحقيق حلم الخلافة الإسلامية، وهو ما يعنى أن العامل الاقتصادى الاجتماعى ليس دائما السبب الرئيسى فى تفسير انخراط الشباب المسلم فى الإرهاب. هذا فضلا عن أن هناك تقارير تشير إلى أن هناك عددا لا بأس به من الأطفال أقل سنا ممن يعتبرون فى مرحلة المراهقة من بينهم فتيات صغيرات خرجن من مدن أوروبية بحثا عن الجهاد، والزواج بالمجاهدين فيما يعرف باسم «الجهاد الجنسى». هذه مسألة ترتبط بقناعات ذهنية، وليس بواقع اقتصادى اجتماعى. هذا هو التحدى الحقيقى الذى يواجه أوروبا. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى