قد لا يعرف كثير من الناس فى مصر، أن السنكسار هو كتاب كنسى يتضمن سير الشهداء والقديسين فى مصر، خلال زمن الاضطهاد الدينى من قبل الدولة الرومانية للمسيحيين، عندما كانت تحتل مصر، والمعروف أن هذا الاضطهاد بدأ سنة 250 ميلادية، وخلا حكم الامبراطور داكيوس، ولم يتوقف وقت حكم الامبراطور فاليران الذى خلفه، ثم كانت ذروة هذا الاضطهاد أثناء حكم دقلديانوس الممتد من العام 284 وحتى 305 للميلاد، حيث تم التنكيل بآلاف المؤمنين بديانة المسيح، وتعذيبهم بكل الأساليب المعروفة خلال ذلك الزمان، ثم قتلهم بأساليب وحشية حفظها التاريخ بكل تفاصيلها. لكن وحتى الذين يعرفون السنكسار لأسباب دينية، لا يدركون أنه واحد من أهم المراجع لمعرفة جغرافية مصر القبطية، فخلال سرد سير هؤلاء الشهداء والقديسين، تم ذكر مواطنهم التى ولدوا وعاشوا بها، والأماكن التى انتقلوا إليها، أو تلك التى جرى فيها توفيقهم واعتقالهم من قبل عساكر الدولة الرومانية، وهكذا عرفت أسماء عشرات القرى والبلدات والمدن المصرية التى ربما اندثر الكثير منها بعد ذلك، ولم يعد يعرف عنها شيئا إلا من خلال السنكسار، وذلك بسبب اجتياح فيضان النيل لها أو حدوث كوارث طبيعية أخرى كالزلازل، أو بسبب اندلاع الحرائق، وربما الطبيعة النزاعات والحروب المتكررة.
القبطية همزة وصل
لقد ذكرت القرى والبلدات والمدن المصرية فى السنكسار باللغة القبطية، وهى اللغة التى سادت مصر حتى الفتح العربى لها فى العام 641 ميلادية، وظلت موجودة حتى بعد انتشار اللغة العربية فى البلاد لمدة قرون، وربما تكون أسماء هذه الأماكن المدونة بالقبطية، هى الاسماء القديمة لها منذ أقدم العصور الفرعونية، أو تحورت عنها قليلا، لذلك فإن كتابة هذه الأسماء باللغة القبطية، إنما حافظ على كثير من الاسماء الفرعونية، وطريقة النطق بها إلى حد كبير، إضافة إلى تبيان معانيها ودلالاتها الغائبة عن الكثيرين خصوصا أن بعضها مازال قائما حتى اليوم، ومحافظا على الاسم القديم له.
تاريخ الكنيسة أيضا
إن كثيرا من الكتب الكنسية الحافظة لتاريخ الكنيسة والمترجمة لتاريخ آبائها، تتضمن ذكر لمواقع جغرافية باللغة القبطية مثل كتاب يوحنا النيقوس، «تاريخ مصر والعالم القديم» والمكتوب على الأرجح فى القرن السابع الميلادى، ويوحنا كان أسقفا لمدينة نيقوس، غير أن كتابه لا يوجد له أصل عربى أو قبطى، لكن تمت ترجمته إلى العربية من مخطوطة حبشية قديمة، وهو يتناول بشكل أساسى فتح العرب لمصر. وهناك كتاب سعيد بن البطريق المكانى، وكتاب ساويروس المقفع المعروف باسم تاريخ الآباء البطارقة، وكذلك كتاب أبو المكارم المنسوب بالخطأ إلى أبو صالح الأرمنى، والمعنون الكنائس والاديرة فى مصر، وهو ثبت بكل الكنائس والاديرة فى مصر ما دثر منها، وما بقى حتى عصر المؤلف نحو القرن الثانى عشر الميلادى، فهذه الكتب جميعها وغيرها من الكتب تتضمن عشرات أسماء القرى والبلدات والمدن وفقا للغة القبطية، والتى لولا هذه الكتب ما كان عرف شيئا عن هذه المواقع الجغرافية، خصوصا تلك التى اندثرت أو التى تغيرت أسماءها على مدى الزمان.
أميلينو ورمزى
فى العام 1893 قام عالم الآثار الكاثوليكى كليمنت اميلينو بوضع كتابه المعنون «جغرافية مصر فى العصر القبطى» وكان أميلينو وهو الدارس للاهوت، حيث تمت رسامته فى إيبارشيه رينز الكاثوليكية، قد جذبته الحضارة المصرية القديمة، فأنضم إلى البعثة الاثرية الفرنسية بالقاهرة سنة 1882وتخصص فى الفترة القبطية، وقد استفاد اميلينو من دراسته للحضارة الفرعونية، حيث قام فى كتابه بمضاهاة كثير من المواقع القبطية بالمواقع الفرعونية القديمة، وقد استفاد هذا المؤرخ استفادة كبيرة عند وضعه لهذا الكتاب من السنكسار، وكذلك من كتب المؤرخين الكنسيين المشار إليها سابقا، ومن علاقته بشامبليون الذى كان قد توصل إلى فك رموز اللغة الهيروغليفية المصرية القديمة، وكتابه حافل بأسماء المواقع المصرية الجغرافية القديمة، والذى وضعها باللغة القبطية، فمثلا عندما يذكر بلدة جرما حجت، يذكر ووفقا للترجمة العربية لكتابة، والتى قام بترجمته وعلق عليه ارشيد ياكون د. ميخائيل مكس إسكندر: «ورد هذا الاسم فى السنكسار فى عيد شهداء إسنا، إذ عندما وقل الوالى أريانوس إلى إسنا، وعرف إن أهل المدينة تركوها، سعى وراءهم: إلى تقبالا ثم لموضع يسمى جرماحجت» وكان ذلك فى 13 من شهر كيهك القبطى. ومن خلال هذا الكتاب، يتم التعرف على أسماء مدن قديمة، فمثلا الجيزة ووفقا لما ورد فيه كانت تسمى برسيس، ومن المعروف أنه خلال فترة الاحتلال الرومانى لمصر، تغيرت كثير من أسماء مواقع مصر الجغرافية، وتم تدوينها باليونانى أو اللاتينى، لذلك فإن كتاب جغرافية مصر فى العصر القبطى، أعاد إلى الذاكرة الثقافية الاسماء المصرية القبطية، والتى ظلت متداولة على السنة المصريين طوال الوقت، حتى أن المؤرخين العرب باتوا يستعملونها فى كتاباتهم التاريخية دون الاسماء اللاتينية واليونانية فى أدبيات المؤرخين الأجانب خلال ذاك الوقف. وقبل نهاية الاربعينيات من القرن الماضى، كانت عبقرية محمد رمزى قد تجلت بوضعه «القاموس الجغرافى للبلاد المصرية من عهد قدماء المصريين إلى سنة 1945» وهو سفر ضخم يقع فى ستة أجزاء، جاءت كنتاج جهده الباحث المدقق فى تاريخ مصر الجغرافى، فالرجل الذى عمل طوال حياته المهنية فى وزارة المالية لخبير ضرائب نجح فى وضع مرجع شامل لكل المواقع الجغرافية المصرية منذ أقدم العصور، وحتى ما يقارب منتصف القرن الفائت، لكن جهده البحثى فى واقع الأمر إنما هو جهد فريق بحث متكامل، لأنه، وهو الرجل غير المختص أصلا بعلم الجغرافيا عموما، والجغرافية القديمة خصوصا، والذى كان يطلق على وظيفته فى وزارة المالية الوظيفة الصامتة، كتب استدراجات على مؤلف اميلينو جغرافية مصر فى العصر القبطى، معتمدا على العديد من الاديبات التاريخية التى كتبت فى العصر الوسيط، ككتاب التحفة السنية لأبن الجيعان، وكتاب تحفة الارشاد، وكتابات تقى الدين المقريزى، وابن مماتى وغيرهم. ولقد ظل محمد رمزى مرجعا للمواقع الجغرافية المصرية حتى وفاته فى فبراير 1945، فكان مرجعا لدار الكتب ومصلحة المساحة ولجنة الآثار العربية ومصلحة التنظيم ولجنة تسمية الشوارع والمجلس الحسبى العالى، ولجنة التقسيم الإدارى بوزارة الداخلية، وذلك وفقا للمقدمة الوافية التى قدم بها كتابة عندما أعيد طبعة سنة 1954، والتى وضع تقديمة الشاعر أحمد سامى والعلامة أحمد لطفى السيد، عندما كانا يعملان بدار الكتب المصرية.
كتب دينية ولكن
إن الهدف والغرض اللذين وضعت من أجلها كتب تتعلق بتاريخ الكنيسة، أو سير الشهداء والقديسين، ربما كان دينيا بالطبع، غير أن ذلك لا ينفى حقيقة أن جانبا مما تحويه هذه الكتب، إنما هو يتعلق بتاريخ مصر القومى، وجغرافية هذا التاريخ الذى لا يمكن فهم حوادثه وتحليلها، إلا من خلال بعض ما ورد فيها، لذلك فإن التعامل العلمى مع هذه الكتب، لهو ضرورة لكل باحث مدقق يبغى الوصول إلى حقيقة حوادث التاريخ، التى ربما تكون قد غمضت أو سكت عنها فى المدونات التاريخية الشائعة، خصوصا خلال زمن الاحتلالات الاجنبية لمصر كالاحتلال الرومانى، والذى يقرأ التاريخ المصرى خلاله من خلال كتابات مؤرخية الرومان أو الاجانب.
الجغرافية القبطية والآثار
وربما كانت الجغرافية القبطية مرشدا مهما للمشتغلين بعمليات التنقيب الاثرى وعلم الآثار، فمواقعها المذكورة فى الأديبات المسيحية، قد تكون مؤشرا على مواقع جغرافية أقدم، جرت فيها بعض من حوادث التاريخ المصرى، والتى تحتاج إلى دلائل وثبوت اركيولوجية، لذلك فإن جغرافية مصر القبطية يجب أن توضع فى دائرة الضوء لأكثر من سبب، ولعل وضع خرائط لها لهو من الأمور المطلوبة الآن.