فى تراثنا يتجلى فن الخط ملمحا بارزا فى ملامح الحضارة العربية،له تاريخ حافل بآيات من الروعة والجمال خطتها أنامل موهوبين مهرة وصناعين عباقرة، من ابن مقلة إلى خضير وأقرانه..لكن الإمكانات الفنية الهائلة للحاسوب جعلته غولا يهدد دولة الموهوبين، فما مستقبل دولة الخط فى ظل هذا المتغير الخطير؟. هل يهدد عرشها أم لديها من الأسباب ما يمنحها الخلود؟.. «تراث وحضارة» سألت الفنان محمد المغربى, خطاط الأهرام اليومي،رأيه باعتباره أحد طرفى الصراع،فأبدى تفاؤله،كما كشف عن رحلة كفاح ذاتية حافلة بكنوز فى ذكريات. سألته عن مستقبل الخطاط فأنحى باللاءمة على وزارة التربية والتعليم:» لا تهتم بالخط أدنى اهتمام، كنا صغارا ندرس حصة كاملة فى الخط،وكانت هناك جمعية لتحسين الخطوط، اليوم لا اهتمام، فكيف تكتشف المواهب؟هناك حرب ضروس ضد الخط العربى، وكأننا لا نفهم أنه موهبة، هناك خطاط مهمل بالصعيد اسمه خالد أبو حرشة يعمل موظفا فى الشئون الاجتماعية، أشاد به خطاطو العالم.. علم نفسه بنفسه، فنان موهوب يراك يرسمك بالخط، ويسمع الآية يكتبها فى صورة منبر، وأمثاله كثيرون مجهولون، لكننا لا نهتم بالمواهب، وهذه مهمة وزارة التعليم أولا، إنها حتى لا توكل تدريس الخط لمعلمين خطاطين يحسنون القواعد، وتريد أن يؤديها معلمو اللغة العربية..اقترحنا عليها تنظيم دورات فى الخط للمعلمين واختبارهم كل 3 أشهر، ومن ينجح يدرّس الخط،ولا مجيب، بح صوتنا منذ شهور لزيادة أجر حصة الخط من 3 إلى 5جنيهات، هم لا يريدون أن يفعلوا أى شيء لإنقاذ الخط، ويلحقونه بحصة التعبير، بصعوبة بالغة وافقواعلى «كراسة الخط العربى» للصف الرابع الابتدائى، والمحزن أنها جاءت منقولة واكتشف الجريمة الخطاط السكندرى يسرى حسن. كيف؟! وضعوا عليها أسماء ثلاثة خطاطين وهى فى الحقيقة كراسة «الهادى» وكاتبها الحقيقى الخطاط عبدالرازق سالم وكتبها سنة 1955!. ألا تتبع مدارس الخط وزارة التربية والتعليم؟. تتبعها ولكن لا اهتمام..ليتهم يغلقونها ويأخذون الخطاطين لتدريس الخط فى مدارس الوزارة، أين جماعات تحسين الخط بالمدارس ومسابقات ومعارض الخط العربى؟. ربما تلجأ إلى الحاسوب..كيف أثرت الآلة على دولة الخطاطين؟. هل تعلم أن أكثر من 30 من خطاطى الأهرام تركوا الخط ويعملون موظفين إداريين الآن؟ الكمبيوتر فيه مزايا لا يمكن تجاهلها، منها السرعة والجودة وتوفير الجهد والمال أيضا..الاعتماد على الكمبيوتر يتفشى،نحن نخوض صراعا لا بد منه. إذن يفرض الغول الجديد وجوده فلا تهتم الوزارة بالخط؟. وهل نقتل المواهب لأن الآلة تؤدى العمل؟. هل ينال الخط اهتماما فى المؤسسات الثقافية الأخرى؟. لا..لا تقام له معارض مستقلة بل على هامش معارض أخرى، كالموسيقى العربية والشعر والفنون التشكيلية. كيف تعلمت الخط ؟. كان يدرس لنا خطاطون فنانون، وكان همهم اكتشاف المواهب، أذكر فى الأولى الابتدائية الأستاذ عوض، أحببت الخط بسببه،كان خطه باهرا، فنان يجعل من السبورة لوحة فنية كل يوم. وكان لأمى دور عظيم،أخذت يوما قطعة طباشير وكتبت على جدار البيت فمسحت الكتابة دون أن توبخنى،ثم كتبت على ضلفة الدولاب من الداخل وبه الملابس، ومسحت الكتابة دون أن تعنفنى، وصرت أكتب على الجدران والأبواب والشبابيك وداخل الدولاب وهى تمسح فى صمت،حتى أتيت يوما بالسلم وكتبت الآية الكريمة «وقل رب زدنى علما» أعلى الجدار قرب السقف، فتركتها أمى ولم تمسحها قط، ورآها أحد الجيران فقال لها «محمد هيبقى خطاط له شأن»، هى السبب فى نجاحى، بدعواتها حققت ما لم أكن أحلم به..كانت مثقفة، تحفظ من القرآن، تحب القراءة وتسائل أبى رغم الفقر الشديد لمَ لمْ يشترالكتاب الذى طلبتْه. ماذا حققتَ؟. يكفى أن انتظرنى المخرج يوسف فرنسيس خصيصا ليصورنى فى فيلم «تاريخ الأهرام» باعتبارى «خطاط الأهرام» ،أنا محظوظ، أصبحت جزءا من تاريخ الأهرام المرئى رغم العمالقة الذين سبقونى فى دولة الخط وتعلمت على أيديهم. مثل من؟. الأساتذة سيد دياب وعبوش وعدلى وسميرعزيز وحمام وغيرهم من الفنانين كتاب «المانشيت»..سميرعزيز لم يكن خطاطا موهوبا فحسب،كان إنسانا فوق الوصف، فى بداياتى كنت أتفق على كتابة عناوين مجلات وصحف، وأحدد مكان اللقاء فى الأهرام، ويأتون فلا يجدوننى، يستقبلهم عزيز قائلا: «لسه خارج.. سيبوا له الشغل» ويكتب هو،وفى الموعد يسلمهم ما كتبه قائلا: «مغربى ساب الشغل معى» وحين أعود يقول هذا أجرك عن كذا..أقول لم أكتب لا أستحق،فيصرعلى أن آخذ المال..كان يساعدنى دائما، تخلفت يوما عن سفرى الأسبوعى المعتاد إلى قريتى القطشة،المنزلة دقهلية، فسألنى لمَ لمْ تسافر؟ قلت:متعَب، والحقيقة أن المكافأة الشهرية تأخرت،مد يده ب60جنيها وقال:قم سافر،كان مبلغا كبيرا جدا آنذاك، رفضت فأصر، ولم يأخذه قط..كان سمير مثالا للإنسانية الراقية والمحبة الصادقة. إجازة خضير وخارج الأهرام على من تتلمذت؟. خضير البورسعيدى.. قيمة وقامة، معجزة الخط العربى فى عصرنا.. يكتب بكلتا يديه بدرجة إجادة واحدة، يكتب الخط المعدول والخط المقلوب والمنعكس (كأنه فى مرآة) هو الوحيد الذى يدرس فى المحاضرة الواحدة خمسة أنواع من الخطوط بدرجة واحدة من الإجادة والإبداع..تعلمت منه الكثير، ولا أنسى أنه كان فى زيارة للأهرام يوم نشر لى عنوان «مصرع القذافى» وأنا أستقبله فى «البهو» قال: «عنوانك اليوم 10على10» قلت: «حتى تكتب ذلك» ،فصعد إلى مكتبى ووقع على «البروفة»، كان إعجابه ب »كشيدة» الياء التى خرجت عن القاعدة دون أن تكسرها،كان البياض على جانبى العنوان كبيرا ويجب تقليله، تصرفت بشد الياء،جاءت من مرة واحدة ، بدا واضحا حسن التصرف، أعجب خضير بفنية الأداء ووقع الإجازة..فأى شهادة؟. ومن غيره؟. شقيقه الأكبر الحاج محمد الذى علمنى خط الرقعة فى البداية،وشيخ الخطاطين الحاج محمد عبد القادرعبد الله،الذى درست الخط الديوانى على يديه،من حسن الحظ أنى أدركته،هو الأب الروحى لخضير،ومثله الأعلى. عمل الخطاط فى صحيفة يومية مختلف؟. قطعا..العنوان فى الصحيفة قد يكتب تحت ضغط الاستعجال،الخبر قد يأتى مفاجئا،أتذكر يوم كتابة مانشيت «الشعب أسقط النظام» ،كنت فى الشارع، حضرت فورا بالجلباب، يومها وللمرة الأولى منذ ثلاثين عاما نشر المانشيت فوق «اللوجو» (اسم الأهرام)..لم ندرك الطبعة الأولى، نشر فى غيار سريع،بدت الصفحة الأولى به «لوحة فنية».. العنوان بخط اليد فيه روح وحياة.. فيه مشاعر الخطاط وإرادة الإبداع ،الخطاط الصحفى يفكر كيف يقدم عنوانه فى أحسن صورة، ويحدد سمك الخط ويتصرف أحيانا فى شكل الكلمة والحرف ليحقق أعلى قدر من التناسق والتناغم. المغربى الخطاط..موهوب أم مجتهد؟. ليس الحكم لى، ما أعرفه أنى تقريبا كاتب المانشيت الوحيد الآن، وأن خطاط الأخبار الأستاذ عبدالله المراغى- وكنت أتمنى أن أسلم عليه ذات يوم- زارنى فى الأهرام ليشكرنى على عودة الخط للمانشيت، وقال «أنت رجّعت للخط روحه».