أقام الإسلام علاقته مع الآخر على الاحترام والتقدير ما لم يصدر عنه ما يعكر صفو هذه العلاقة من مبادأة بالعدوان. وأمر القرآن الكريم بالبر بأهل الكتاب والإحسان إليهم “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين”. وكبيان عملى وبرهان واضح على تطبيق هذه القاعدة عقد الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة مع اليهود بعد هجرته إلى المدينة فترجم رغبته فى التعاون الصادق معهم فى إطار المواطنة فى الدفاع عن المدينة ضد أى عدو خارجى، ومنحهم الرسول حق الدعوة لدينهم وممارسة شعائرهم، وأمنهم على زروعهم وثمارهم وممتلكاتهم. وخص الإسلام النصارى على وجه التحديد بمعاملة تتلاءم مع تلك الطبيعة التى وصفوا بها فى القرآن بالتواضع والسماحة “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون”. وحظى أهل الكتاب من اليهود والنصارى باهتمام بالغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أوصى بالبر بهم وحذر من ظلمهم أو إلحاق الأذى بهم بأى صورة من الصور “من ظلم كتابياً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة “أى محاجه ومخاصمه. وقال صلى الله عليه وسلم أحفظونى فى ذمتي”. وسار الخلفاء الراشدون على هذه السنة من البر بأهل الكتاب والحزن والألم لما قد يصيبهم. فقد ورد عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يتفقد أحوال الرعية فوجد شيخاً يسأل الناس فى الطرقات فسأله: من أنت؟ قال: نصراني، فتأثر عمر غاية التأثر وقال للرجل: ما أنصفناك: أكلنا شبابك ونضيعك فى شيخوختك!!” يا خازن بيت المال أنظر هذا وضرباءه فافرض لهم من بيت مال المسلمين ما يكفيهم وعيالهم”. إن الرأى العام المصرى بشقيه المسلم والمسيحى فى حاجة إلى معرفة أن الاختلاف سنة من سنن الله فى الكون، وأن التعددية الدينية من ضرورات الحياة “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين”. “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً”. ولا يجوز لنا كبشر أن نتجاوز هذه الحقيقة، وأن نتناقض معها ونعمل على تقويضها. ولو كانت هناك فئة ثالثة ورابعة لوجب للمجتمع أن يتسع لهذه الفئات كلها. بات الرأى العام المسلم فى مصر فى حاجة إلى معرفة تلك العلاقة المتميزة بين الإسلام والمسيحية والعمل بمقتضى تلك العلاقة الممتدة عبر التاريخ، فالإسلام عندما كان وليداً ناشئاً احتمى بالمسيحية عبر هجرة المسلمين إلى الحبشة. وما كان الإسلام الوسطى المعتدل وأتباعه يقبلون اليوم أدنى مساس بالمسيحية وأتباعها الذين هم نسب ورحم وصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً. بات الرأى العام القبطى فى مصر فى حاجة إلى معرفة تلك الصورة الوضاءة والسمات الجميلة الحسنة التى جسد بها الإسلام عبر القرآن والسنة رؤيته للمسيحية، فثلث القرآن الكريم عبر سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والتوبة يرد فيها ذكر المسيح عليه السلام وأمه والإنجيل وذكر النصارى. والسيد المسيح عليه السلام هو نبى ورسول من أولى العزم من الرسل وهم الخمسة العظام الذين أختصهم القرآن بالذكر فى قوله تعالي: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ”. وقرابة عشرين سورة من القرآن الكريم تمجد عيسى وأمه والإنجيل وأهل الكتاب، وبالإضافة لما سبق هناك سور المؤمنون ومريم والأنبياء والعنكبوت والروم والأحزاب والزخرف والفتح والتحريم والحديد والصف والبينة... الخ، كما أن سور القرآن الكريم كلها لم تعرف سورة سميت باسم امرأة إلا سورة واحدة حملت اسم السيدة العذراء مريم عليها السلام. بل واعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضليات الكاملات، وأن الإسلام كدين يجعل الإيمان بعيسى عليه السلام من مقتضيات الإيمان به بل ويجعل البر بأهل الكتاب مدخلاً لنيل رضا الله، وعدم البر بهم والإحسان إليهم موجباً لسخط الله عز وجل. ولقد آن الأوان أن يكون الخطاب الدينى على الجانبين أكثر التزاماً بالنصوص الدينية ومصلحة الوطن، وأن يكون خاضعاً لتوجيهات الأزهر والأوقاف والكنيسة، ولا يجب أن يترك الحديث عنه لأنصاف المتعلمين والمتهورين والساعين لإشعال الفتنة. لمزيد من مقالات د. محمد يوسف