أعتقد أن دوافع ثورة9191 كانت الثمرة الطبيعية لأفكار التنوير العربي الذي تحول إلي مؤسسات تعليمية مدنية مع علي مبارك, ونزعة دينية عقلانية مع محمد عبده, ومطالبة بتحرير المرأة والتبشير بالمرأة الجديدة مع قاسم أمين(5681-8091) وتقاطع مع الفكر الليبرالي الذي تفاعلت فيه حرية الفرد مع الحرية السياسية والاجتماعية والفكرية والإبداعية للمواطنين في مدي الثورة علي طبائع الاستبداد التي كتب عنه عبدالرحمن الكواكبي(9481-2091). وأضيف إلي ذلك أفكار مذهب الحريين( أنصار الحرية) الذي كان ينادي به أحمد لطفي السيد, وأفكاره مندمجة في أفكار التنويريين العرب علي امتداد القرن التاسع عشر وهي أفكار أدت إلي اكتمال أوجه التنوير في وعيهم باتفاق نخبة منهم, ضمت قاسم أمين وسعد زغلول, علي ضرورة إنشاء الجامعة المصرية التي تم افتتاحها سنة8091 استكمالا لأركان الدولة المدنية الحديثة الواعد. ولم يكن من قبيل المصادفة ان تبدأ أحداث ثورة9191 مع خروج طلاب مدرسة الحقوق الذين أضربوا عن الدراسة في صباح الأحد التاسع من مارس, بعد اعتقال سعد زغلول باشا وصحبه ونقلهم إلي بورسعيد, حيث أقلتهم الباخرة إلي جزيرة مالطة التي اختارتها سلطة الاحتلال البريطاني منفي لهم, فهاج طلاب الحقوق, وعبرت مظاهرتهم النهر, حيث انضمت إليهم مدرسة الطب رغم محاولة المدير منع الطلاب, ومضت المظاهرة الهادرة إلي شارع المبتديان, حيث انضم إليها طلاب مدرسة التجارة, وتضخمت أعداد المتظاهرين في الطريق إلي السيدة زينب, حيث وصل المتظاهرون إلي مبني المحافظة( الحكمدارية) والناس تهتف للطلاب الذين كان خروجهم في ذلك الوقت أضخم تمرد سياسي للشباب الذي تكاملت في وعيه ثمار التنوير التي تجمع بين الحماسة للحرية السياسية والحماسة لحرية الوطن من غاصبية في الوقت نفسه. ولاغرابة في أن تنطلق ثورة9191 من مدرسة الحقوق من الأفندية علي وجه التحديد, وسرعان ما انضم أليهم طلاب الأزهر من المعممين الذين لحق بهم مشايخهم في الثورة التي جمعت بين الجميع, صانعة وحدة الهلال مع الصليب, رافعة شعار الدين لله والوطن للجميع. والحق أنه يمكن وصف ثورة9191 بأنها الثمرة الأولي للتنوير الذي تولي تأسيسه وتجذيره في المجتمع مشايخ الأزهر الذين قادتهم نزعتهم العقلانية الإسلامية إلي الإفادة من ميراث التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر وإعادة صياغته بما رأوا أنه لايتعارض وعقيدتهم الإسلامية, ولولا ذلك ماكتب الطهطاوي ما كتب عن منظور إيمانه بالفكر الإسلامي السمح فأخذ من الاعتزال مبدأ التحسين والتقبيح العقليين, وجعل منه معيارا للقبول أو الرفض, وعلي اثره مضي جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده اللذان انطويا علي تلهب مبدأي الحرية السياسية والعقل الاجتماعي, وكان لهما من عبد الله النديم سند قوي ولسان مؤثر, ولذلك مهدوا للثورة العربية واشتركوا فيها من توهجا الذي بدأ في البرلمان إلي انفجارها الذي شمل الوطن كله إلي أن تدخل البريطانيون لمساندة الخديوي توفيق بجيشهم, وبدأ الاحتلال البريطاني الذي قمع الثوار ونفاهم, غير الذين سجنهم. لكن ظلت جذوة الحرية متوهجة في النفوس, ظهر بعض شررها في محاولة اغتيال السلطان حسين كامل الذي جاء به جيش الاحتلال, في موازاة نفي الخديو عباس حلمي الثاني الذي مسته أفكار التنوير, خصوصا مايرتبط منها بالحرية والعدل, وعندما هدأت الرياح العاصفة للحرب العالمية الأولي, وانتهت الحرب فعليا ذهب نفر من طليعة الأمة ومستنيريها, لافارق بين أقباط هذه الطليعة ومسلميها مطالبين باستقلال مصر. وانتهي موقفهم الصلب في المطالبة إلي الصدام مع ممثل الاحتلال البريطاني, وكان علي رأس هذه الطليعة وزعيم الأمة كلها سعد زغلول الذي تلقي تعليمه الأول في أزهر محمد عبده, قبل أن يكمل تعليمه الحديث ويكمله بتعلم اللغة الفرنسية والاطلاع علي ميراثها التنويري, ويرث من فكر الإمام محمد عبده المعتزلي ضرورة الثورة علي الحاكم في حال جوره وظلمه للناس, وليس أقسي علي النفس الأبية من تحالف الحاكم الجائر الظالم مع احتلال غاشم غاصب للأرض التي هي الوطن الذي أصبح الموت في سبيله أمنية من أماني الوطنيين, هكذا كان نفي سعد وزملائه بداية ثورة9191 التي كانت أفكار التنوير في حضورها المؤسس التعليمي, وفي حضورها الفكري التحريض المنادي بالقضاء علي طبائع الاستبداد, وفي حضورها الاجتماعي المنادي بتحرير المرأة في موازاة تحرير الرجل, تمهيدا لظهور المرأة الجديدة. فضلا عن حضورها الديني الذي أعاد إنتاج أفكار التنوير من منظور عقلانية الدين الإسلامي فأصبحت كأنها إياه أو منه, خصوصا في معاني التوحيد والعدل التي تجاوبت لتؤكد جذوة الحرية التي توهجت وانفجرت مع ثورة.9191 ولذلك فإن من يتهم التنوير في تراثه المصري بالكفر والإلحاد والخروج علي الشريعة الإسلامية إنما هو مفتر ظالم لايريد أن يعترف بالحقائق الثابتة في تاريخنا, وينطبق عليه المبدأ من كفر مسلما فقد باء بها.ولا أدل علي ذلك من أن أول من خرج معلنا الثورة كانوا من طلاب الجامعة التي رعي فكرتها سعد زغلول ورفيقه قاسم أمين الذي ظل دينامو اللجنة إلي أن توفي قبل افتتاح الجامعة رسميا بأشهر معدودة. ولاأدل علي ذلك من أن الذين خرجوا في المظاهرات كانوا من المطربشين أبناء كليات الجامعة ومن المعممين من أبناء معاهد الأزهر الذين امتزجت دماؤهم بعد تصديهم الباسل لرصاص الاحتلال البريطاني, ولا أدل علي ذلك من اتحاد مشايخ الأزهر مع رجال الدين المسيحي رافعين شعارات الهلال مع الصليب, بعد أن خطب رجال الدين الإسلامي في الكنائس, ورجال الدين المسيحي في المساجد, ابتداء من الأزهر وكان الجميع ينادي بحرية الوطن خصوصا بعد أن أسهم في تأكيد قداسة الكلمة, الرومانسي الثائر مصطفي كامل الذي جعل سيد درويش من كلماته أغنية الثورة: بلادي بلادي... لك حبي وفؤادي وأسهم أحمد لطفي السيد في التأصيل الفكري الوضعي لمعني الوطن الذي أصبح يفديه الثوار بأرواحهم صارخين: الاستقلال التام أو الموت الزؤام. ومن تزاوج المعني الرومانسي والمعني الوضعي لكلمة الوطن تأسس معني الوطنية المصرية الذي سرعان ماأكد حضوره في وجه المعاني الشائه التي لاتزال تسعي لأن تستبدل بالولاء للوطن الولاء للدين, وبالحكم الوطني حكومة الخلافة, ومن معان صاغتها تيارات هدفت إلي إزاحة الشعور الوطني الذي أيقظته ثورة9191 وغرسته في الوعي المصري, فظل راسخا فيه, مقاوما كل محاولات زعزعته. وأضيف إلي هؤلاء جماعة السفور الذين تحلقوا حول أحمد حمدي الذي أصدر جريدة السفور الذي كتب فيها علي ومصطفي عبدالرازق ومحمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهم من الثائرين علي التقاليد من الجيل الذي تتلمذ علي رواد التنوير الأوائل, وكانت جماعة السفور لاتفصل بين سفور الوجه وسفور العقل برفع أستار الجهالة والانغلاق والتقليد الأعمي عنه, وقد أنزلت ثورة9191 فكرة السفور من عالم المجردات إلي عالم الوقائع, وقد حدث هذا في مظاهرات المرأة المصرية سنة.9191 وكانت البداية حين تصدرت هدي هانم شعراوي أولي مظاهرات النساء بتشجيع من زوجها علي شعراوي باشا. ثالث الثلاثة الذين قابلوا المندوب السامي, مطالبين باستقلال وطنهم يوم31 نوفمبر3291 ولحسن الحظ لم يكن علي شعراوي مع الذين قبض عليه مع سعد زغلول, وهم: محمود محمود باشا, وحمد الباسل باشا, وإسماعيل صدقي باشا, ولذلك تولي علي شعراوي أمور الوفد في فترة نفيهم, وقاد عمليات الثورة احتجاجا علي نفي الزعماء, وكانت النتيجة انفجار الثورة في كل مكان بأرض مصر, وخرجت النساء المصريات في مظاهرات لم يشهدها التاريخ المصري من قبل, وكانت تقود المظاهرة الأولي هدي شعراوي التي لم تكن أقل شجاعة ووطنية من زوجها ورفاقه, ولم تخش هدي شعراوي ورفيقاتها جند الاحتلال الذين تعرضوا لهن بالسلاح, هذه الروح القائدة هي التي أدت إلي الثورة علي الحجاب وغطاء الوجه التركي, وكان النتيجة سفور الطليعة من ثائرات9191 اللائي سرعان مانقلن عدوي السفور إلي أقرانهن, وذلك علي نحو سرعان ماانتشر حتي أصبح السفور هو القاعدة. ولعل أبناء محمد عبده من الأزهريين وأحفاد رفاعة الطهطاوي من الدعاة تذكروا هذه الأسطر من سطور تخليص الإبريز, التي تقول: إن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لايأتي من كشفهن أو سترهن, بل منشأ ذلك التربية الجيدة, ولقد قال رفاعة هذا الكلام الذي طبعه سنة4381 وكانت لديه الشجاعة مؤكدا أن الأصل الذي يعول عليه في الحكم علي المرأة هو تربيتها الجيدة, وما في داخلها من خير, ومايوجه أفعالها من مباديء فالإيمان الباطن المستقر في القلب والعقل أهم ألف مرة من قطعة قماش قد تصغر أو تبكر. المزيد من مقالات جابر عصفور