كان آخر تكريم للراحل د. ثروت عكاشة هو الندوة التي أقامها معرض الكتاب يناير الماضي,احتفاء بأعماله وانجازاته, ضمن احتفالات المعرض برموز الثقافة المصرية. وبرغم انه لم يحضر لظروفه الصحية, إلا أنه كان حاضرا بما قدمه للثقافة المصرية.. حاضرا علي لسان محبيه الذين مثلهم في هذه الندوة الفنان التشكيلي عز الدين نجيب,والكاتب الصحفي أسامة عفيفي, وان المرء ليأسف للعدد القليل الذي حضر الندوة, حيث لم تحظ بالنشر اللائق من وسائل الاعلام. ويعتبر الفنان التشكيلي عز الدين نجيب د. ثروت عكاشة من قادة التنوير في مصر في العصر الحديث, وأحد واضعي أسس النهضة في القرن العشرين, بل ويزيد عنهم في أنه صاحب مشروع خاص به تولي قيادته والإشراف عليه عندما كان وزيرا للثقافة مرتين من1958 إلي1968, إن مجمل السنوات التي شغل فيها منصب وزير الثقافة ست سنوات بني فيها أسسا ثقافية لازالت قائمة حتي الآن, علي الرغم من مرور نصف قرن, ولعل البعض يتساءل ما هو المشروع الثقافي؟ مشروعه هو حق الجماهير في الثقافة بعد أن كانت تحتكرها العاصمة والنخبة المثقفة. فباستثناء القاهرة والإسكندرية, لم يكن هناك معاهد أو مراكز أو قصور ثقافية في مختلف المدن والمحافظات, وكان د. ثروت عكاشة لديه فلسفة أن تنتقل الثقافة من العاصمة إلي باقي المدن الأخري. لقد أخذ علي عاتقه بناء البنية التحتية للعمل الثقافي, ومنها قصور الثقافة التي لم يخل منها إقليم من أقاليم مصر, وشارك في بنائها أعظم المعماريين المصريين, وكان يري أن قصر الثقافة يأخذ شكل القصر بكل ما فيه من أبهة, ولكن أبهة العلم والمعرفة. كما قاد حملة بناء المتاحف القومية, ومنها متحف الفن الحديث, والمتحف الروماني, وجدد المتحف المصري.فالدكتور ثروت عكاشة آمن بدور التطور المجتمعي عن طريق البحث عن أصالته وحضارته... ومن مشاريعه الضخمة أيضا إحياؤه للتراث المصري القديم, وكلنا نذكر حملته العالمية لإنقاذ معبد فيلة في أسوان, ونقله إلي أبو سمبل لأن بحيرة ناصر وبناء السد كانت ستغرق جميع آثار رمسيس الثاني, وهو العمل الذي يعد إعجازا معماريا خاصة أن معبد أبوسمبل محفور داخل الجبل.. كما كان د. ثروت عكاشة صاحب فكرة تفرغ المبدع لكي يعكف علي أعماله, ولا يشتت نفسه بين الجهة التي يعمل بها وبين فنه. فضلا عن أنه مؤسس مشروع صندوق الرعاية للفنانين والأدباء وهو يختص بحالات المرض والعجز والوفاة وهو ضمانة مالية تحفظ للمبدع كرامته, وهو واجب أصيل للدولة. أما الكاتب أسامة عفيفي فيري: أن د. ثروت عكاشة ظاهرة ثقافية بنت جيلها فلقد ولد عام1921 وعاش شابا في الثلاثينيات من القرن الماضي حيث كانت مصر تموج بجميع التيارات الثقافية والنهضة, وقضايا المعرفة وقضايا الاستقلال الوطني.. كان طه حسين قد كتب كتابه في الشعر الجاهلي, ومحمد حسين هيكل رواية زينب, والفنان الرائد محمود مختار تمثال نهضة مصر. وثروت عكاشة قال في مذكراته إنه كان يقرأ في' مجلتي' كل ما يصدر من أدب عالمي في ذلك الوقت. فتشكل وعي د. ثروت عكاشة في هذا الجو المشبع بحب المعرفة المتطلع للنهضة, وكان يعشق شخصية عمر بن الخطاب, وله كتاب مجهول عن البطولة عند جنكيز خان,وطبعه عام1951 علي نفقته الخاصة. درس د. ثروت عكاشة الدراسات العليا في فنون العسكرية و في نفس الوقت درس في كلية الآداب قسم الترجمة والإعلام, وكان زميله في الدراسة قبل الثورة يوسف السباعي, وهي معلومات لابد أن يعرفها شباب اليوم حتي يعرف أنه كان يجتهد قبل الثورة. فأصبح مثقفا كبيرا.. ولم يصل لما وصل إليه بنفوذ الثورة بل بمجهوده الشخصي, فقد كان يكتب المقالات في جريدة المصري في الأدب والفنون منذ عام1949, كان يكتب فيها كبار الكتاب امثال توفيق الحكيم وغيره. وبحكم عمله كملحق عسكري في عدد كبير من الدول بدأ يرتاد المسارح, والمتاحف في تلك الدول, وكانت محاضرات الكوميدي فرانسيز والتي تضم كبار مثقفي العالم وتطبع في نهاية العام في كتاب يضم محاضرات هؤلاء الفلاسفة, والشعراء ومحاضراتها للجمهور.. في تلك الأثناء تعرف علي عالم في علم الجمال وهو الفرنسي رينيه ويج- رائد علم الجمال في أوروبا- الذي قدم نظرية توافقية بين أصالة الفن وتحديثه, وهي نفس نظرية د. ثروت عكاشة فهو أستاذه الأول في علم الجمال, بل وصل به الأمر أن أصبح صديقه, وأثر في تكوينه ووعيه الجمالي. وأيضا' رينيه ماهيه' وكان أحد الفلاسفة الفرنسيين الذين آمنوا بمحو الأمية الثقافية, وقدر له أن يتولي منظمة اليونسكو, وهو الذي انشأ في مدينة سرس الليان المصرية مركز محو الأمية,كذلك آمن رينيه بثقافة المواطن العادي وحقه في المعرفة, ولقد تأثر به د. ثروت عكاشة, وعن طريق رينيه نجح عكاشة في أن يأتي بالدعم من اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة. كما تأثر أيضا بالكاتب الفرنسي أندريه مالرو والذي أصبح وزير الثقافة الفرنسي, وحدثت اتفاقيات بينهما منها مستنسخات اللوفر هنا في القاهرة. كما دعاه عكاشة إلي إلقاء محاضرات في مصر, ومعه العديد من المفكرين الفرنسيين مثل المفكر الفرنسي الكبير' سارتر' و'سيمون بوليفار'. إن د. ثروت عكاشة ظاهرة ثقافية متفردة, وله مكانة خاصة في تاريخ مصر الحديث.