الدمشقية التى آثرت الطيران مع العصافير والريح .. «تاء تأنيث» الأدب الشامى التى ارتشفت ضوء القمر فى صدفة بحرية .. لؤلؤة الإبداع التى ينبض حرفها بالألم والصدق والتمرد والارتحال هى روائية وشاعرة وكاتبة قصة قصيرة ومقال وناقدة وسندبادة فى أدب الرحلات.. تكتب على أجنحة الخيال والفانتازيا المتشربة بالذكاء والثقافة والتراث .. غادة السمان التى تأتى أحزانها من بعيد مثل الناى العتيق الذى ينوح فى حارات دمشق .. ينعى حالها ومآلها .. من تتطلع إلى الكون بعينين فاحصتين .. عاشقة البومة التى تشاءم منها الشرق بالباطل .. فالبوم هو الذى يتشاءم منا اليوم لكثرة مصائبنا .. ولا يطيق رؤيتنا لأن العالم العربى يحرق بلاده ويدمرها ويخلفاها خرائب يعف عن سكنها البوم. لفت نظر غادة حين كانت تعيش فى باريس وتقضى عطلة نهاية الأسبوع فى مزرعة ريفية خارج باريس أنه بمجرد وصول مجموعة أصدقائها كان يفر البوم من المزرعة ولا يعود إلا بعد مغادرتهم ومن يومها عشقت هذا الطائر الجميل صديق الليل الذى لا يقوى التحديق فى الشمس بعينيه الجميلتين والذى اتهم ظلماً بالفأل السيىء والتحامل عليه .. لكنه أصبح اليوم شعاراً لدار النشر التى تملكها منذ أواخر السبعينيات. البومة لا ترتدى زى السيرك وترفض التسول العاطفى ولا تُباع .. وتحلق إلى ما تحب .. لم يحتف أحد بالبوم فى الأدب العربى كما احتفى به عباس العقاد وكان يضع بومة شهيرة على مكتبه .. ولم لا فالبوم هى رمز الحكمة عند اليونان ولا يظهر إلا فى أحلك الأوقات. درست غادة السمان الأدب الإنجليزى ونالت الماجستير فى أدب اللامعقول .. وهى ابنة د. أحمد السمان وزير التعليم فى سوريا .. فى مكتبته الخاصة عرفت قيمة التراث العربى والإسلامى واعتزازها بجذورها .. غادرت سوريا – حبها الأول – إلى لبنان – حبها الناضج.. وفى سوريا تعلمت دروس الياسمين وأشجار الليمون والأزقة المنطوية على ذاتها والتاريخ العريق لمدينة أبوابها عتيقة استلهمت منها الاستمرارية والصلابة والمرونة .. فأسلوبها تكريس لهذه الفسيفساء الجميلة فى الجامع الأموى الذى تفتحت عيناها عليه حيث كان يسكن الجد .. عام 1962 نشرت مجموعتها القصصية الأولى «عيناك قدرى» حينما كانت غضة تحارب الشمس لتشرق من الغرب وتكافح لكى تخرس الأمواج ولكى يضل الليل طريقه إلى مدينتها .. تتلمظ بالذكرى .. أنامل المطر والإبداع تدق نافذتها .. وتستحيل اللغة بين أناملها إلى عطر خاص حين تصارح الحبيب بقولها : «عيناك قدرى لا أستطيع أن أهرب منهما وأنا أرسمهما فى كل مكان وأرى من خلالهما الأشياء». وباستثناء لبنان الذى يشبه قلبها خارطته وعملت فيه موظفة فى مكتبة ومدرسة للغة الإنجليزية وأستاذة جامعية وصحفية بالإسبوع العربى والحوادث فإن السفر وأسرار المدن تظل بالنسبة لها لغزاً شهياً على مرمى القلب والنظر وحلماً على حافة الانتهاك .. وفيما عدا ذلك فكل المدن متشابهة كالنساء .. وفقاً لرؤية اللورد بايرون. المفكرة العربية الكبيرة .. وجدت فى الرواية ذروة اشتعالها وتأججها وهى ككاتبة لديها من الأحلام أكثر مما لديها من حلول للمشكلات .. ترى أن الثقافة لم تلحق بالسياسة ولكنها لحقت بالحياة وارتباط السياسة بقضايا الناس .. جعل المثقف مضطراً لمعايشتها فالفن لا يكون خارج الحياة .. والفن العظيم ليس انعكاساً للواقع إنما هو تبشير بالمستقبل فالفنان هو «البوصلة» والحاكم هو «الربان» .. حاربت من أجل المرأة .. لكنها ترفض مقايضة الإبداع مقابل أى مغنم عابر ولا تطالب بالمساواة الكاريكاتيرية المطلقة التى ثار عليها الغرب ثم عادت النساء ليطالبن بمزايا الأنوثة وتعويضات الأمومة وإجازة الوضع .. فالمقصلة التى تتربص بالمرأة والرجل واحدة لا تتغير .. تخشى الأقنعة .. لأنه مع الزمن تضيع حقيقة المرء ولا يبقى إلا القناع .. لذلك نشرت رسائلها المتبادلة مع غسان كنفانى عام 1993 .. ولم تعبأ بالرجعيين .. فالحب فى نظرها هو فن تحويل القيود إلى أجنحة .. ,هى تعتز بلحظات الصفاء الكونية النادرة فى حياتها فلماذا تستنكر الحب ! فى اللغة العربية من وجهة نظرها لغتان : لا العامية والفصحى .. بل لغة القلب السرية ولغة الرياء العلنية .. فى قصتها «القمر المربع» ترسيخ أدبى لكل ازدواجية حضارية يعيشها المهاجر العربى بالرغم من أن الحضارة تنوع وإضافة لا استلاب .. تثق بالموهبة ثقتها بالحب الغض الحى النابض الصادق الجارف .. لكنه لا يكفى لبناء شئ وحده .. لابد من خلفية ثقافية وفكرية. الناقدة الأدبية تنعى حال النقد الشفهى الجائع إلى التعميم هرباً من التدقيق .. فى عالم يتطلب خيالاً فوق العادة لإدراكه .. من هنا تشعر أحياناً أنها تتقاضى راتبها ككاتبة لا مقابل ما تكتبه ولكن مقابل ما تسكت عنه .. وهى ترى أن (التفاهة) ستظل هى القاسم المشترك فى العالم العربى ما دامت الحرية الفكرية مقيدة ! من آرائها الطريفة أن البشر هم الذين أفقدوا التكنولوجيا براءتها بشرورهم واختياراتهم وألفريد نوبل هو الدليل الدامغ على ذلك. الشاعرة الرقيقة حين أعلنت الحرب الأهلية فى لبنان كتبت ديوان «أعلنت عليك الحب» وتوالت قطع السحاب الأبيض الهش كغزل بنات يذوب فى الفم بمذاق خاص فى دواوين : عاشقة فى محبرة .. رسائل الحنين إلى الياسمين والرقص مع البوم والحبيب الافتراضى .. المشاغبة التى وصفت المرأة بأنها : بروليتاريا البروليتاريا .. المرهفة .. المتمردة التى ترى أن الوداع هو التصاق بالمحبوب .. فالفراق أكذوبة اخترعها الإنسان لإنعاش حاسة الحب .. فالحب كالطرق القروية فى دول العالم الثالث .. نصفها مسدود والنصف الآخر يقود إلى الهاوية. أيام قلائل وينتهى عام 2014 بكل أهواله العربية التى جللتها داعش بإرهابها الذى أصبح خلفية حياتية لهذه البقعة من العالم .. أيام معدودات وتحتفل غادة السمان بمرور أربعين عاماً على روايتها الشهيرة «بيروت 75» التى تنبأت فيها عرافة الرواية بالحرب الأهلية اللبنانية قبل حدوثها بشهور وقالت فى فزع : «أرى دماً كثيراً، كثيراً من الحزن والدم» أما البطل فقد اقتلع لافتة مستشفى العصفورية للأمراض العقلية ووضعها عند مدخل بيروت .. كانت نبوءة حرب.. ولكن الفن لا يطلق نبوءات ولكنه يرسل إضاءات يلتقطها الأديب المحلق فى مدارات مرتفعة يرى مالا نراه حين يشف المشهد عن خباياه الدفينة والجروح الآتية .. ما أشبه اليوم بالبارحة «40 عاماً» مرت ولبنان يبحث عن وجهه الحقيقى - 40 عاماً - ولبنان ينشد الحرية التى تصفها السمان بأنها «بترول لبنان». تطابق المعنى مع المبنى والأسلوب مع المضمون فى روايات غادة السمان أمر لافت فى إبداعاتها وأعمالها غير الكاملة التى أصدرتها فهى ترى أن الأعمال الكاملة لا تتحقق إلا بالموت. بومة غادة السمان المتفائلة تتحدى إرهاب داعش فهى حين سألتها ماذا ترين أيتها البومة؟ أجابت: أرى غباراً وكلاباً تنبح ولا أرى قافلة فى صحراء دائرتها القرن الآتى .. ولكننى بومة متفائلة تطارد الدهشة والفرح والأسرار والوعد المؤجل ! وستهزم داعش لا محالة. الرقص مع البوم وأشعار أخرى * العين ثرثارة كأرملة ضجرة. العين نافذة بلا ستائر العين لم تسمع بكلمة الكتمان العين لافتة إعلانية عن أسرار القلب * لأننا نتقن الصمت، حملونا وزر النوايا * لم أعرف يوماً طعم الأمان فى حبك .. كنت دوماً وحيدة ومتحفزة مثل حارس مرمى لحظة ضربة الجزاء. هناك أشخاص حين تلتقى بهم تشعر أنك التقيت بنفسك. * ما ذنبى إذا كان البشر يرون فى مرآة لشرورهم وهل نجاتهم فى قتلى أم قتل شرورهم؟ هل شاهدت بومة تضطهد رجلاً كما يفعلون بى ؟ ألحق بالبوم يدلك على الليل الجميل ؟ * «الطالبان إخوان» باسمائهم المختلفة وتقمصاتهم المتجددة يريدون منى أن ارتدى خيمة حين أمشى فى الشارع وهم يمشون فى الأرض مرحاً على أشلائى .. «الثوريون إخوان» يريدون أن أنادى بشعاراتهم وارتاد اجتماعاتهم لأغلى لهم القهوة فى المطبخ التقدمى الثورى وهم يدوسون حريتى بجزمهم .. لذا تطير البومة عن كل ذلك الجحيم متعدد الطبقات واللهجات.