يحتفل الشعب المصرى هذه الأيام بمرور ثمانية وخمسين عاماً على جلاء آخر جندى من قوات العدوان الثلاثى (بريطانيا / فرنسا / إسرائيل) عن أراضى مصر، وهو ما اعتدنا لعقود أن نحتفل به فى كل أنحاء مصر تحت عنوان «عيد النصر» وأن يكون يوم عطلة وطنية، ثم أصبح الاحتفال تدريجياً منذ نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضى مقصوراً بشكل أساسى على كونه يوم عطلة للمدارس والجامعات، ثم تحول إلى انحساره على محافظة بورسعيد فقط باعتباره يوم عيد للمحافظة وأبنائها. ودلالات عيد النصر مهمة وعميقة ومؤثرة للغاية، ليس فقط فى تاريخ مصر، وليس فقط فى تاريخ المنطقة العربية والشرق الأوسط، بل فى تاريخ وتطور النظام الدولى بأسره. فالعالم قبل 23 ديسمبر 1956 كان شيئاً، وصار بعد ذلك اليوم شيئاً آخر تماماً. فقد انهارت آخر امبراطوريتين استعماريتين فى تاريخ العالم الحديث، وهما الامبراطوريتان البريطانية والفرنسية بفعل هذه الحرب، ومن ثم حدثت طفرة غير مسبوقة فى انتصارات حركات التحرر الوطنى فى بلدان العالم الثالث فى السنوات التالية، وتضاعف معدل استقلال هذه الدول بشكل غير مسبوق منذ ذلك التاريخ، ولعبت مصر بكل مؤسساتها وعلى كل المستويات دورها فى توفير الدعم الفعال السياسى والإعلامى والمادي، بل والعسكرى أحياناً، لحركات التحرر الوطنى تلك وللدول المستقلة حديثاً، سواء كان ذلك ثنائياً أو على ساحات العمل الدبلوماسى الدولى والإقليمى ودون الإقليمي. كذلك ترسخ فى القانون الدولى وفى قانون التنظيم الدولي، خاصة لدى الأممالمتحدة وأجهزتها الفرعية، بما فيها محكمة العدل الدولية، مبدأ حق الدول والشعوب فى تحقيق وممارسة السيطرة على مواردها الطبيعية وثرواتها الوطنية وكذلك حقها فى التصرف فيها، وذلك كنتيجة طبيعية ومنطقية ومباشرة لقرار الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية، ثم نجاح مصر فى إلحاق الهزيمة بالعدوان الثلاثى الذى استهدف تحقيق إحدى نتيجتين: إما إجبار مصر على التراجع عن هذا القرار التاريخي، أو الإطاحة بالقيادة السياسية الثورية التى اتخذت مثل هذا القرار. كما كان من نتائج الانتصار على العدوان الثلاثى أن نشأت وتطورت وتعاظم تأثير حركة بلدان العالم الثالث على الساحة الدولية، سواء كان ذلك سياسياً من خلال حركة التضامن الأفرو آسيوى فى البداية ثم تطورها إلى حركة عدم الانحياز، وذلك بانضمام دول من أمريكا اللاتينية، بل ومن أوروبا، فى مرحلة لاحقة، أو اقتصادياً عبر تأسيس مجموعة ال 77، وخلال جميع هذه المراحل كان لمصر الثورة الدور الرائد والقائد فى الدعوة إلى تأسيس هذه التجمعات والدفع نحو إنشائها، وبلورة مبادئها ومعالمها، وصياغة توجهاتها الأساسية، وتحديد أهدافها على المدى القصير والمتوسط والبعيد، وتبنى استراتيجيات عملها وأساليب تحركها. وبخلاف ما أمضى البعض، وبكل أسف بعضهم ساسة وكتاب ومثقفون عرب، بل ومصريون، عقوداً فيه من الترويج لأكذوبة وهى أن مصر انهزمت عسكرياً أمام العدوان الثلاثى، ولكنها نجحت فى تحويل هذه الهزيمة إلى انتصار سياسي، فإن الواقع هو أنه بكل المعايير العسكرية الموضوعية، فمصر انتصرت عسكرياً بالإضافة لانتصارها السياسى فى تلك الحرب، لأنها، بقدراتها العسكرية المحدودة للغاية فى ذلك الوقت حيث إنها حققت الجلاء النهائى لقوات الاحتلال البريطانى عن أراضيها فقط فى 18 يونيو 1956 (عيد الجلاء)، لم تتح الفرصة للقوات البريطانية والفرنسية للتمكن من السيطرة الفعلية على أى مدينة فى غرب القناة، وذلك بفعل بطولة المقاومة الشعبية المنظمة من قبل الدولة وبتدريب وتسليح وتخطيط وتنظيم وقيادة لها من جانب حكومة ثورة 23 يوليو 1952 فى مصر فى ذلك الوقت، وتحديداً بقيادة مجموعة من خيرة أبناء الوطن من الضباط الاحرار، وذلك فى تناغم وتنسيق مع مواطنين مصريين عاديين، وكذلك عناصر تنتمى لمختلف أطياف القوى الوطنية المصرية فى ذلك الوقت، سواء من اليمين أو من اليسار، وسواء بشكل فردى أو نتيجة قرار تنظيمى جماعى من التيارات التى كان ينتمى إليها هؤلاء، وكذلك بتعاون كامل مع أهالى مدن وقرى وقبائل محافظات القناة الثلاث، خاصة بورسعيد، وأيضاً الاسماعيلية، وبعض المحافظات المجاورة مثل الشرقية على سبيل المثال. ومن بين هؤلاء الضباط الذين خلدوا أسماءهم فى سجل الشرف فى سبيل حرية وعزة وكرامة وفخار واستقلال الوطن وأبنائه نتيجة دورهم فى هذه المقاومة الشعبية الباسلة، دون ادعاء من جانبى بتقديم سجل حصرى أو قائمة نهائية لهؤلاء، هما: صاحبا الدور القيادى فى تلك المقاومة السيدان الراحلان زكريا محيى الدين وكمال الدين رفعت، بالإضافة إلى السادة محمود عبد الناصر، ولطفى واكد، وسعد عفرة، وعبد الفتاح أبو الفضل، وعبد المجيد فريد، وعبد المجيد شديد، ولطفى حنين وسمير غانم، ومحمد غانم، وغيرهم. لمزيد من مقالات د.وليد محمود عبد الناصر