عمل أبى «المرحوم الأستاذ أحمد أمين» قاضيا شرعيا فترة قصيرة فى بداية حياته العملية، وقبل أن ينتقل إلى التدريس بالجامعة، وخلال عمله قاضيا كانت تعرض عليه أحيانا قضايا مرفوعة من الزوج ضد زوجته، يطلب فيها تطبيق حكم الطاعة، أى إعادتها بالقوة إلى بيت الزوجية، إذا كانت ترفض ذلك. يقول أبى عن ذلك فى سيرته الذاتية «كتاب حياتى»: «ظللت أحكم بالطاعة، وأنا لا أستسيغها، ولا أتصورها» كيف تؤخذ المرأة من بيتها بالبوليس، وتوضع فى بيت الزوج بالبوليس كذلك! وكيف تكون هذه حياة زوجية؟ إنى أفهم قوة البوليس فى تنفيذ الأمور المادية، كردّ قطعة أرض إلى صاحبها، ووضع محكوم عليه فى السجن، وتنفيذ حكم بالإعدام، ونحو ذلك من الأمور المالية والجنائية، أما تنفيذ المعيشة الزوجية بالبوليس، فلم أفهمه مطلقا إلا إذا فهمت حبا بإكراه، أو مودة بالسيف، ولهذا كنت أصدر هذه الأحكام بالتقاليد لا بالضمير، وبما فى الكتب، والقوانين واللوائح، لا بالقلب، وكنت أشعر شعور من يمضغ الحصى أو يتجرع الدواء المرّ؟!. وأعتقد أن أبى فى هذا كان محقا تماما «كما لابد أن يوافق عليه أيضا كثير من القراء».. إذ ما الذى يأمل الزوج أن يحصل عليه لو طبق القانون، وظل شعور الزوجة نحوه كما كان؟ لابد أن الإصلاح الحقيقى فى هذه الحالة له طريق آخر غير الاستعانة «بقوة البوليس». تذكرت ما قاله أحمد أمين عن الحكم بالطاعة، عندما تأملت ما نصادفه فى مصر كثيرا فى هذه الأيام، من صدور قانون بعد آخر، أو الإعلان عن النية فى إصدار قانون أو استخدام الشرطة لتنفيذ إجراء بعد آخر كوسيلة لحل مشكلة اجتماعية أو اقتصادية، طال الفشل فى حلها. فأعترف للقارئ بأنى لم أشعر مثلا بالتعاطف مع الطريقة التى اتبعت مع الباعة الذين يشغلون الأرصفة والطرقات، يعرضون فيها مختلف السلع، بما يتضمنه ذلك فى معظم الأحوال من تشويه لمنظر المدينة وإزعاج للمارة، فقد اتخذ قرار بإخلاء الأرصفة والشوارع منهم، ولو بالقوة، وقد رأيت بعينى سيارات الشرطة، وقد امتلأت بالعربات الصغيرة، والموائد المتهالكة، بما عليها من بضائع رخيصة، ويتعيش منها آلاف مؤلفة من صغار الباعة وفقرائهم، وقد تخيلت هؤلاء الباعة، وهم يجرون وراء سيارات الشرطة هذه، أو هم يحاولون يائسين استرداد ما انتزع منهم من سلع، هى كل رأس مالهم، ثم محاولة العثور على مكان آخر يمارسون فيه عملية البيع، آملين أن يجدوا فيه العدد الكاف من المارة الذين قد تكون لديهم أى رغبة فى الشراء منهم. نعم، كان هؤلاء الباعة يخالفون القانون، والقانون كان يهدف إلى تحقيق غاية معقولة تماما، وهى إن يؤدى الرصيف والشارع الوظيفة الأساسية التى وجدا من أجلها، مثلما شرع عقد الزواج على أساس أن يقيم الزوجان فى مكان واحد. ولكن ما العمل إذا لم يجد عدد كبير من المتبطلين عملا يقتاتون منه، ويطعمون منه أولادهم، إلا مخالفة قواعد المرور؟ وماذا يمكن للزوجة أن تصنع إذا أصبحت معاشرة الزوج أمرا لا يطاق؟ لابد فى الحالين أن نعثر على حلّ غير استخدام قوة الشرطة. يقول أبى: «إنى كثيرا ما كنت أنحّى المحامين عن الكلام وتزويقهم للأمور، وادعاء بعضهم ما ليس بصحيح، وأطلب حضور المتخاصمين شخصيا فى جلسة سرية، وأستمع إلى كل منهما فى تؤدة وتقصَّ لمعرفة الأسباب الأساسية التى أدت إلى هذا النزاع مما لا يذكره المحامون عادة، فكنت أعرف سر الخصومة، وذلك شىء ليس فى الأوراق، ثم أعالج هذا السر بما أراه ناجحا، وأكثر ما يكون بالصلح بين المتخاصمين، إما بالفرقة، إذا لم يكن هناك أمل فى نجاح الأسرة، وإما بالنصح بما يحسم الخلاف كأن يسكن الزوجان بعيدين عن أهل الزوج أو أهل الزوجة أو نحو ذلك». مثل هذا العلاج قد ينجح أو لا ينجح، ولكن اللجوء إليه معناه أن الواجب هو اكتشاف أصل المشكلة ومحاولة علاجه، وليس مجرد تطبيق القانون بالقوة.
إن قليلا من التأمل يؤدى بنا إلى اكتشاف ان نفس الاسلوب الخاطئ أصبح يلجأ إليه لمحاولة الخروج من مشكلات أخرى كثيرة، نقرأ مثلا عن قانون لمحاربة الفساد، والكسب غير المشروع، وللقضاء على الرشوة، وبدأ الحديث يتردد أيضا عن قانون يمنع المدرسين من إعطاء دروس خصوصية، ويعاقب على إعطائها، وقبل ذلك كثيرا حاولنا علاج مشكلة ارتفاع الأسعار بفرض التسعيرة الجبرية لبعض السلع، وتعقب من يبيع بأعلى منها، بل إنى لا أخفى على القارئ أنى شعرت بشعور مماثل إزاء القانون الذى يفرض حدا أدنى للأجور «بل ولم أسترح تماما لقانون الحد الأقصى»، إذكنت ولا أزال أعتقد أن كل هذه المشكلات لن تحل بمثل هذه القوانين ما لم يسبقها «أو على الأقل يقترن بها» إجراءات تقضى على أسباب وجود المشكلة أصلا. أصل المشكلة فى حالة الباعة الذين يشغلون الأرصفة والطرقات أنهم لا يجدون مصدرا آخر للرزق، وهم مستعدون لعمل أى شىء، ولو كان غير مشروع، فى سبيل الحصول على دخل، وأصل المشكلة فى انتشار الفساد والكسب غير المشروع والرشوة، وجود الفقر الشديد إلى جانب الثراء الفاحش، مع تزاوج المال بالسلطة، وأصل المشكلة فى انتشار الدروس الخصوصية اقتران انخفاض وثبات المدرسين بانخفاض مستوى التعليم فى المدارس، الذى يرجع بدوره إلى انخفاض وثبات المدرسين، وأسباب أخرى كثيرة. إذا لم نتصد لأصل المشكلة فى كل هذه الحالات، فما أسرع أن تختفى المشكلة من مكان «يطبق فيه القانون» إلى مكان آخر «لم يطبق فيه القانون بعد» فينصرف الباعة من الشوارع التى طردوا منها للظهور فى شوارع أخرى لم تصل إليها الشرطة بعد، الأمر هنا يشبه محاولة منع تسرب الغاز من التسرب من إناء عن طريق احكام إغلاقه، إذ لم يمنع هذا من تسرب الغاز بأى طريقة أخرى، وقد ينتهى الامر بانفجار الإناء الذى يحتويه. نعم العلاج صعب، فى كل الأمور، وطويل الامد، ولكن هذا لا يصلح مبررا لخداع النفس بأن من الممكن حل أى منها بمجرد إصدار قوانين جديدة، فالأمر فيها كلها شبيه بمحاولة فرض الحبس بالقوة. لمزيد من مقالات د. جلال أمين