كان فى السادسة والثلاثين من عمره الحافل المجيد - الذى امتد حتى الثالثة والتسعين - حين التقيت به لأول مرة فى المدرج الرئيس لكلية التربية بجامعة عين شمس فى مبناها القديم بحى المنيرة، طالبًا يتلقى عنه علم أصول التربية فى عام 1957، وكان الالتحاق بكلية التربية بعد التخرج فى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة شرطا ضروريا للتعيين مدرسًا للغة العربية. ولفت انتباهنا واهتمامنا من اللحظة الأولى علمه الغزير فى تخصصه ومعرفته الموسوعية التى تتكئ على وعيه بعلوم التربية والتاريخ والاجتماع، بالإضافة إلى تواضعه الجم وبساطته المذهلة وحرصه على إشعارنا بأنه زميل لنا - نحن طلابه - فى رحلة البحث عن المعرفة، وأنه يطوّر نفسه بالحوار معنا، والإنصات العميق لما نثيره من قضايا ومداخلات. ولم يكن يكتفى بالمحاضرات الجامعية المقررة، بل كان يصحبنا فى رحلات شهرية إلى المركز الدولى لتنمية المجتمع فى العالم العربى بسرس الليان، وقد كان رئيسًا لقسم التدريب فيه بين عاميْ 1955 و 1968. بالإضافة إلى عمله الأكاديمى أستاذًا رائدًا بعد حصوله على ليسانس الآداب من جامعة القاهرة، قسم التاريخ عام 1941، ودبلومة التربية من معهد التربية للمعلمين عام 1942 والماجستير فى التاريخ من جامعة القاهرة عام 1945 ودبلوم المعلمين من معهد التربية بجامعة لندن عام 1947 والماجستير فى التربية من معهد التربية. بجامعة لندن عام 1949 والدكتوراه فى اجتماعيات التربية من معهد التربية بجامعة لندن عام 1952، وبالإضافة - أيضًا - إلى رئاسته لقسم الدراسات التربوية بمعهد البحوث والدراسات العربية، بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم منذ عام 2003 حتى رحيله عنا فى الأسبوع الماضي. وعلى مدار حياته الحافلة والثرية كانت له إسهاماته وجهوده الدائبة فى تأسيس المركز الدولى للتربية الأساسية الذى تحوّل إلى تنمية المجتمع، ثم محو الأمية وتعليم الكبار منذ عام 1952 حتى 1986 وتأسيس معهد الخدمة الاجتماعية بالأردن وبرامج مكتب اليونيسيف الإقليمى فى أبو ظبى وتأسيس مركز التدريب على العمل الاجتماعى فى سلطنة عمان وفى الأردن، والإسهام فى وثيقة إنشاء الصندوق العربى للعمل الاجتماعى التابع للمجلس القومى للطفولة والأمومة وإنشاء قسم الدراسات التربوية فى معهد الدراسات والبحوث العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وأخيرًا فى موقعه مستشارًا للدار المصرية اللبنانية. هذا العالم المتفرد، شيخ التربويين المصريين والعرب، تلخصت حياته العلمية والإنسانية فى قضية واحدة هى قضية التعليم، أعطاها عمره وجهده واهتماماته ومشاركاته - فى مصر وعلى اتساع الوطن العربى - من أجل أن يكون لدينا تعليم يليق بهذا الوطن، ويكون أساسًا لنهضته وتقدمه وتبوّئه لمكانته بين الأمم. وكان أشد ما يؤلمه ويثير غضبه وحزنه - معًا - رؤيته - عن كثب - للواقع المتردى فى التعليم، فى كل جوانب العملية التعليمية ومفرداتها. وربما كانت آراؤه العميقة المخلصة، التى أطلقها فى العديد من مقالاته ودراساته وأبحاثه ومؤلفاته، وراء استبعاده طويلاً عن موقع المسئولية عن هذا التعليم، وتكليف عديمى الخبرة والمعرفة وشطار الزلفى والتملق ومجيدى التسلق والمداهنة لدى كثير من هؤلاء الذين أكثروا من إقامة المؤتمرات والملتقيات بدعوى إصلاح حال التعليم وإحداث نهضة فيه تكون مفتاحًا لنهضة قومية، ثم يتمخض هذا كله عن صخب وقتى لا يغنى ولا يفيد، ويبقى الحال على ما هو عليه، بل ينحدر من عام إلى عام. وكثيرًا ما كنت أتلفت حولى وأبحث عن اسْم حامد عمار بين منظومة هؤلاء المختارين المحظوظين، وفى قوائم الحكومات المتتابعة. لكن عصور الفساد والتراجع والتخلف لم تكن لتسمح لمثله بأن يعتلى قمة المسئولية عن هذا التعليم، الذى شخّص أعراض مرضه ومختلف سلبياته، ورسم منهج استنقاذه وسبل إحيائه وإطلاق إمكاناته. فى استعراضه لسيرته الذاتية فى آخر كتبه: «خطى اجتزناها». الذى جعل له عنوانًا فرعيًّا هو: «من الفقر والمصادفة إلى حرم الجامعة»، لم يخجل حامد عمار من ذكر اضطراره منذ صباه إلى تقديم شهادة فقر كل عام مع شهادة التفوق الدراسى للحصول على مجانية التعليم، ومدى ما كان يشعر به من ذل ومهانة، وهو الأمر الذى جعله يسعى إلى تسجيل أولى رسائله الجامعية عن «عدم تكافؤ فرص التعليم فى مصر». كما جعله فى مقدمة المدافعين عن مجانية التعليم - حين نادى البعض بإلغائها من أجل إصلاح التعليم - فكتب تحت عنوان «اغتصاب مجانية التعليم» مؤكدًا عددًا من المبادئ الإنسانية، منها أن التعليم بمختلف مراحله حق من حقوق الإنسان، وهذا الحق هو حق للجميع دون تمييز فى العرق أو النوع أو المعتقد الدينى أو السياسى أو الوضع الاقتصادي. وحين أعود إلى العام الدراسى الذى حظيت فيه بالتلمذة عليه فى كلية التربية، أسترجع عطر ذلك الزمن البعيد الذى كان فيه المعلم - على مستوى المدرسة أو الجامعة - صاحب رسالة ومنشئ عقول وصانع أجيال، وأتذكر كيف كان يكلفنا بأبحاث ميدانية عن الشخصية المصرية والنمط الحضارى لهذه الشخصية بعد أن درَّس لنا نموذج الشخصية الأثينية - نسبة إلى أثينا - الذى ارتبط بالعقل والحكمة و التأمل، فى مقابل نموذج الشخصية الإسبرطية - نسبة إلى إسبرطة - الذى ارتبط بالحرب والقتال والتكوين العسكري. وكم كان سعيدًا وهو يتأمل ما خرج به طلابه من بحوثهم عن الشخصية المصرية وقد اتخذوا لها نموذجًا هو «الفهلوي» والكلمة من أصل فارسي، لكنها شاعت فى المجتمع دلالة على النصب والاحتيال واستخدام الذكاء - أو الفهلوة - فى الالتفاف على العقبات والتحديات وتحقيق الهدف مهما كان الأمر. ومن يومها، وكلمة «الفهلوي» ومعها «الفهلوة» تشيع فى الدراسات الاجتماعية - والتربوية منها بشكل خاص- فى مجال التوصيف الدقيق للشخصية المصرية فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. رحل حامد عمار. لكن هذا العقل الفريد المهموم بقضايا التعليم فى مصر، وهذا الوجدان الرحب المفعم بالقيم القومية والإنسانية، وهذا الالتزام الصارم بمناهج البحث العلمى - ومن بينها الفكر التحليلى النقدى - وهذا الانفتاح المستمر على تجارب العالم من حولنا وخبراته وإضافاته: كل ذلك يبقى ميراثا حيًّا فى تشكيل الضمير المصرى المعاصر، والتجديد التربوى للثقافة، والتوظيف الاجتماعى للتعليم، وتكامل المعرفة وتنمية رأس المال البشرى واستراتيجية تطوير أوضاع المرأة - فى المجتمعات العربية - والتنمية الشاملة، وقضايا الطفولة والأمومة فى مصر. ولقد سعدت غاية السعادة، وأنا أقلب الآن فى عديد المصادر عن أستاذى حامد عمار، أن أجد على الشبكة الدولية اهتمامًا بسيرة حامد عمار وأعماله وآثاره، وهى تضيء كثيرًا من فقرات هذا المقال، فشكرًا لمن حرّر هذه المادة التى أنصفت حامد عمار، وردّت إليه اعتباره فى مجال الريادة والعبقرية، وصُنْع أجيال متتابعة من تلاميذه ومريديه، ومُتّخذيه قُدوةً وأبا روحيًّا فريدًا، لن ينسوه أبدًا. لمزيد من مقالات فاروق شوشة