بعد نشوب أول ثورة اجتماعية وسقوط أول دولة قومية- فى تاريخ مصر والإنسانية- كانت غضبة وحكمة وكلمة مفكرى مصر هى ما مهد لأن تشهد ميلاد فجر الضمير وأن تشرق شمس العدالة عليها مجددا، وأن تتحرر من نكبتها التاريخية الأولي. وكان هذا حين تحقق حُلم المُخَلِّص المُنَتَظر، أو الحاكم العادل الوطني، الذى أعاد بناء الدولة بقيادة الاصلاح الداخلى وطرد الغزاة الأجانب، والأهم؛ حين وجدت المثل العليا للعدالة سبيلها الى الحكومة والى كل طبقات الشعب. والأمر- كما أوجز عن عالم المصريات الأمريكى المُدقِق والمُنصِف جيمس هنرى بريستد فى كتابه البحثى الرائد والفريد فجر الضمير- أن تيار تشاؤم ويأس مفكرى عصر النكبة قوبل بتيار مضاد ومعاصر له يحلم بالمثل العليا الاجتماعية، ويتوق لحاكم يحمى أهل بلده ويسحق الأشرار، ويدعو للعدالة الاجتماعية وسيادة القانون، قبل أكثر من أربعة آلاف سنة!! ومن مفكرين وحكماء اجتماعيين احتفظوا بتفاؤلهم، جاءت تحذيرات إيبور ونبوءات نفرر وصيحة الفلاح الفصيح أمثلة رائعة لهذه الدعوة، وكانت كتاباتهم هى أسلحة أقدم جماعة إنسانية قامت بالجهاد فى سبيل إصلاح النظام الإدارى والأخلاقى والاجتماعي!! وكان إيبور، بين الحكماء الذين تأثروا تأثرا عميقا بالكارثة التى أحاقت بمصر، فتطلعوا الى ظهور الملك العادل, ونقرأ فى برديته: إن العدالة موجودة فى البلاد اسما فقط, وما يلقاه الناس حينما يلتجئون إليها هو العسف.. ليتنى رفعت صوتى فى ذلك الوقت.. الويل لى لأن البؤس عم فى هذا الزمان!! ويوازن بين الحاكم العادل والحكم الغاشم الذى كانت البلاد ترزح تحته فى عصره، فيقول: إنه يطفئ لهيب الحريق الاجتماعي، ويقال عنه إنه راعى كل الناس، ولا يحمل فى قلبه شرا!! وكان الأمل فى ظهور المُخَلِّص المُنَتَظر محققاً عنده، كما يدل قوله: "أين هو اليوم، هل هو بطريق المصادفة نائم؟ انظر إن بأسه لا يري"!! ونجد الحكيم نِفرر، يصف البؤس والظلم الاجتماعى والخراب الاقتصادي، وعواقب تعطيل أعمال الرى العظيمة العامة وغياب التحوط للسنوات العجاف واغتصاب الأجانب لثروة الوطن، فيقول: أنصت يا قلبى وانعَ تلك الأرض التى فيها نشأت.. لقد أصبحت هذه البلاد خراباً، فلا من يهتم بها، ولا من يتكلم عنها، ولا من يذرف الدمع.. لقد أصبح نيل مصر جافاً؛ فيمكن للإنسان أن يخوضه بالقدم!! وصارت الحبوب شحيحة، وفى حين صار المكيال كبيراً وتكال الحبوب (للضرائب) حتى يطفح الكيل!! وقد نقصت الأرض وتضاعف حكامها، وظهر الأعداء فى مصر.. وصارت أملاك الرجل تغتصب منه وتعطى للأجنبي.. وصار المالك فى حاجة والأجنبى فى غني!! وكانت فى ذهن الحكيم نِفرر شخصية الملك المنتظر، الذى سيخلص مصر مما حاق بها، وسيكون فاتحة العصر الجديد المرتقب، لأنه لم يتردد فى ذكر اسمه: إذ يقول: سيأتى ملك من الجنوب اسمه أميني، وهو ابن امرأة نوبية الأصل، وقد ولد فى الوجه القبلي، وسيتسلم التاج الأبيض، ويلبس التاج الأحمر، فيوحد التاج المزدوج، سينشر السلام فى الأرضين (مصر) على النحو الذى يحبه أهلها.. وستعود العدالة (ماعت) إلى مكانها، ويُنفَى الظلم من الأرض.. وسيَفرح أهلُ زمانه، وسيجعل أبن الإنسان اسمه باقياً أبد الآبدين. وأما الذين تآمروا على الشر ودبروا الفتنة فقد أطبقوا أفواههم خوفاً منه، والآسيويون سيقتلون بسيفه، والليبيون سيحرقون بلهيبه، والثوار سيستسلمون لنصائحه، والعصاة سيخضعون لبطشه.. واسم أميني، الذى استعمله نفرر اختصار للاسم الكامل أمنمحات، المؤسس العظيم للأسرة الثانية عشرة، والمصلح الذى أعاد توطيد سلطان مصر فى الدولة الوسطى حوالى سنة 2000 ق. م، وقد ذكر عنه فى نقش تاريخى بعد عصره بأجيال: أنه قد محا الظلم لأنه أحب العدل كثيراً!! وأما إعلان نفرر فيشمل قيام أمينى بعملين للشعب البائس فى مصر؛ وهما: أولاً، القضاء على المغيرين وأخذ العدة لدفع الغارات المقبلة، وثانياً، إصلاح النظام الداخلي. وقد كان أمنمحات بالفعل من كبار الإداريين فى العالم القديم، وكان نجاحه فى إعادة توحيد البلاد وإرجاع مجدها متوقعاً فى ضوء نجاحه حاكما لمقاطعة فى مصر العليا. وقد استطاع أمنمحات بفطنة عظيمة أن يعيد نظام ماعت القديم بقدر ما سمحت له الأحوال، حيث حتمت الظروف عليه أن يتخذ أعوانه وموظفيه فى إدارة شئون الأمة من الرجال الذين ترعرعوا وشبوا فى عهد الانحطاط والفوضى والفساد، اللذين هوى إلى حضيضهما الشعب المصرى خلال أجيال بل قرون. وقد كانت آمال الذين ينتظرون ظهور المخلص مؤسسة على ظهور ملك عادل، فى حين أن آخرين، ممن امتازوا بالآراء العملية، وكانوا يريدون تغيير نظام المجتمع، أدركوا وبحق أن الملك العادل، قد يعجز عن أداء رسالته بدون مساعدة جيل جديد من الموظفين يتسمون بالكفاية والأمانة، تقوم على أكتافهم عملية بناء عصر جديد؛ تسوده العدالة الاجتماعية، وكان هذا هو المغزى العميق لقصة أو صيحة الفلاح الفصيح. وفى خطاب يرجع الى الدولة الحديثة بعد قرون، نجد الدليل على أن روح العدالة الاجتماعية قد وصلت الى العرش ثم الحكومة، فنجد الملك يقول لوزيره: تبصر فى وظيفة الوزير الأعظم.. إنها الركن الركين لكل البلاد.. واعلم أن الوزارة ليست حُلوة المذاق، بل إنها مُرّة.. وليس الغرض منها أن يتخذ الوزير لنفسه عبيداً من الشعب.. واعلم أنك ستحقق الغرض من منصبك إذا جعلت العدل رائدك فى عملك.. فلا تتوانَ قط فى إقامة العدل.. وعليك أن تطمئن إلى أن كل شيء يجرى وفق القانون.. واعلم أنه جدير بالملك ألا يميل إلى المستكبِر أكثر من المستضعَف، وأن الخوف من الأمير يأتى من إقامته العدل!! وأختم باستنتاج بريستد العظيم: لقد صار الضمير قوة اجتماعية ذات تأثير عظيم فى الحياة الاجتماعية لأول مرة فى التاريخ البشري، وجاء عصر الضمير الاجتماعي، الذى بحلوله بزغ عصر الأخلاق. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم