معظم الناس ينفقون حياتهم فى أشياء متشابهة دون التوقف ثم السؤال عن معنى هذه الحياة أو الهدف مما يجرون وراءه. هذه الأشياء منها الظاهر - وإن انكره البعض - مثل البحث الدائم عن الاستقرار المالى والاجتماعي،ومنها الخفى مثل الطمع فى السلطة والنفوذ والتميز، لكن البديهى أن الشخص الذى يبحث خارج نفسه عن التميز لا يشعر أصلاً بالتميز داخل نفسه، والذى يبحث خارج نفسه عن القوة لا يمكن أن يكون لديه شعور بالقوة الداخلية، كما أن الباحث باستمرار عن الاستقرار المالى حتى وإن وصل إلى الحد المعقول, وقد حرُم من السِلم مع النفس أولاً، فإن شيئًا لن يكفيه أبدًا. وكذلك من لا يشعر بالأمان النفسى فإنه لن يصل إليه مهما حصل على معطيات الأمان. حياة عائلة مان تحمل نفس الوجهين، فالوجه الظاهر فى حياة الروائى الألمانى توماس مان, الفائز بجائزة نوبل عام 1929,هو حصوله على كل الأشياء التى يجرى الناس وراءها ولا يصلون إليها بسهولة، لكن توماس مان وعائلته كانوامحظوظين لأنهم وصلوا إلى هذه الأموربكل بساطة، أمورمثل الشهرة والنجاح المالى المتمثل فى الرفاهية، هذه الرفاهية نسبية وحدودها مثل البحر الذى لا ينتهي. لكن النقاد والصحفيين فى أوروبا كادوا أن يجمعوا على أن مان هو مثال الأديب المحظوظ، لأنه وصل إلى هذه الشهرة فى ريعان شبابه وتربع على عرش الأدب الألماني. فمكانة توماس مان فى تاريخ الأدب الألمانى تشبه إلى حد كبير مكانة نجيب محفوظ فى الأدب العربي،إلا أنه قد حصل على شهرته ونجاحه فى أعوام مبكرة من القرن السابق، وتم تتويج هذه الشهرة بحصوله على جائزة نوبل فى الآداب عام 1929 عن رواية "عائلة بودن بروك". من يتأمل عائلة مان من الخارج يرى الشهرة والاستقرار المالى والنجاح والسعادة، فقد أنجبت كاتيا مان زوجة توماس ستة أولاد، جميعهم كانوا يكتبون ويعملون فى المجال الفني. كاتيا,التى نشأت فى بيت أسرةعريقة لأب كان أستاذًا فى الجامعة وأم كانت تعمل ممثلة,هى الملهمة الأولى لتوماس والمنظمة لكل شيء فى حياته المنزلية والعملية، فتوماس المنزلى قليل الكلام، وأيضا قليل الظهور حتى فى داخل أسرته، وكاتيا كانت تربى الأولاد وتنظم الأمور المالية لشهرته فى عالم الأدب وحياة الرفاهية، فأصبحت هى الأم والزوجة معاً، إلا أن توماس كان يميل إلى عالم الرجال فى الخفاء كما اتضح بعد مرور سنوات على وفاته من خلال أعماله الأدبية والحياتية ، لكنه عاش مع رغباته منزوياً وراء ستار أسرة كبيرة الحجم، حتى أتت النازية عام 1933 وحطمت كل شيء، وهربت أسرة مان فى نفس العام إلى سويسرا، ثم هاجرت نهائياً إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية مع ظهور أشباح الحرب العالمية الثانية، وتركت أسرة مان وراءها الشهرة والبيت الكبير وحياة الأولاد ونجاحا فى المجالات الفنية, خصوصاً كلاوس الابن الأكبر الذى كان مثلى الجنس، لكنه لم يخفى هذه الميول وكان كلاوس مان صاحب الرواية المشهورة "مفيستو" وأخته إيريكا قد حصلا على الكثير من النجاح فى المجال الفنى والتمثيل بجانب الكتابة، وهاجرت أسرة مان ومعهم العم الطيب هاينريش مان، الأخ الأكبر البوهيمى لتوماس والأكثر دفئاً وطيبة وإنسانية، وهويعد أيضاً من عظماء الكتابة فى ألمانيا، وبعد أن هاجروا جميعًا إلى الولاياتالمتحدة أعلن توماس عدم دعمه للسياسة الألمانية وخجله من كونه ألمانياً. أعلن ذلك فى خطبة بثتهاالإذاعة الأمريكية ثم حصل على الجنسية الأمريكية، والتحق كلاوس بالجيش الأمريكى أثناء الحرب كمراسل صحفى إلى ألمانيا ، ودعّمه القدر فى أن يكون من طلائع الجيش الأمريكى الذى دخل ألمانيا بعد هزيمتها، وله صورة مشهورة أمام بيت أسرته القديم فى الجنوب الألمانى مرتدياً الزى العسكرى الأمريكي. على الجانب الآخر من القارة الأوروبية وبالتحديد فى الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت حياة الأديب هاينريش الأخ الأكبر لتوماس تأخذ منحى صعبا مع زوجته الحسناء المتهورة "نيللي" والتى نشأت فى عائلة فقيرة تحت قسوة شديدة فى التربية، وكانت تصغره بأكثر من خمسة وعشرين عاماً، وأكتشف هاينريش من قبل علاقتها برجال آخرين، وفى أحد الأيام أثناء عودة الزوجة إلى البيت بعد إحدى السهرات اليومية وهى سكرى ارتكبت حادثا بالسيارة وقبضت عليها الشرطة، ولم تمر إلا أيام قليلة حتى انتحرت الزوجة. حزن هاينرش عليها ودخل فى مرحلة من المرض انتهت بوفاته عام 1950. وعادت عائلة مان إلى سويسرا مع قوات الحلفاء المنتصرة بعد أن خرجت هاربة كالمجرمين بين جبال الألب للفرار بجلدها، وعاد توماس إلى سويسراوألمانيا أكثر انطوائية وعزلة بعد وفاة هاينريش،وزاد الطين بلة انتحار الابن الأكبر كلاوس عام 1949 ، وأصيب توماس بالسرطان ودخل فى مراحل ما بين المرض والشفاء حتى وافته المنية بعد ستة سنوات من وفاة كلاوس وهاينريش عام 1955. ظل الناس بعد وفاة توماس مان يفكون ويحللون خبايا كثيرة لعائلة مان فى هرم العظمة والنجاح والسعادة، حتى انكشفت تفاصيل كثيرة لمأساة هذه العائلة،والتى حينما تم تجريدها مما هو خارجى وظاهر، اتضحت اضطرابات مدمرة نرجعها دائماً إلى فقدان السِلم والمحبة الداخلية التى أشرنا إليها. سيشهد العام القادم مرور الذكرى السبعين لوفاة توماس مان،والناس مازالت تفك طلاسم هرم هذه العائلة، وتتعلم أن للتجريد فوائد جلية فى فهم حياتنا الإنسانية.