مضى الحكم بعدم ادانة الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى قضية القرن ولم تمض آثاره. ولم يزل الشعب متطرفا فى انقسامه، بين دموع الفرح لرد الاعتبار ل «الرئيس»، ونحيب الحزن على «ضياع الثورة»، ولا شئ فى المنتصف، ولا نظرة للأمام، فالدموع عادة تحجب الرؤية. وبأسلوب لغة الحوادث والقضايا أقول، اننى أيضا بعد الحكم فى القضية، ضبطت عينيّ متلبستين بتحجر الدمع داخلهما، وتم التحفظ على الدموع المضبوطة، لتحليلها ومعرفة مصدرها، وكشفت تحرياتى الأولية أنها لم تكن دموع فرح أو حزن، لكن تفاصيل التحقيقات ستكشف عنها السطور المقبلة. أبناء مبارك، الفرحون بما قدمت يداه، لم تصل الى مسامعهم أصلا كلمات القاضى الجليل محمود الرشيدي، التى حملت فى حد ذاتها ادانة حاسمة لعهد سياسي، تقاتل فيه على ثروات مصر زمرة من المنتفعين المتسلقين، وتهيأ فرع منهم للاستحواذ على مقاليد الحكم (أى التوريث)، مع تزييف الارادة الشعبية (أى تزوير الانتخابات)، واندثار التعليم واهدار الصحة وتجريف العقول. لم يستمع هؤلاء الى كل ذلك، وراحوا يبكون فرحا برد الاعتبار ل «الرئيس»، واعلان سقوط «نكسة يناير»، كما يرون. وفى المقابل، راح «السادة الثوار»، الثائرون دائما وأبدا، يجترون آلام «الهزيمة السياسية» بعد «الحكم الجنائي»، معتبرين أن كلمات القاضى بلا فائدة، وتستهدف «الضحك على الشعب»، طالما أن محصلة الحكم هى البراءة، وأن كل شئ فاسد، وأن الحكم قد أنهى «ثورة يناير» وأنه لا بديل عن العودة الى الميدان، وان سقط القتلى وان اندس أعداء الوطن وأعداؤهم أيضا وجاوروهم. وأعقل العقلاء منهم، دعاهم قائلا «عودوا الى بيوتكم»، والتوقف عن أى ثورة جديدة، ولكن موقنا فى الوقت ذاته بأن الثورة - بعد هذا الحكم - قد فشلت! ولا مجال لحديث كبير، عن الفصيل الثالث من الشعب، الاخوان، الذين اختاروا بإرادتهم أن يكونوا أول المدعوين فيما يرون أنه «همّ الوطن» للإثارة والتهييج، وأول المنسيين فيما لا يعترفون أصلا بأنه «فرح»، مكتفين بالهدم والتشكيك. ولكن.. أليس هناك من طريق رابع؟ هناك بالفعل طريق وتيار، هو تيار يؤمن بما فعله الصادقون فقط، فى يناير ويونيو معا، لا المتآمرين فى الأولى أو الفاسدين فى الثانية، تيار يؤمن بالثورة والدولة معا، يرفض الماضى السياسى الفاسد، لكنه لا يتوقف عند حدوده، ولا يبنى الرؤى السياسية للمستقبل على أساس رفض حكم قضائي. تيار يرفض أن يعود أحد الى بيته، بل لابد أن يبقى الجميع، لتحقيق الأمل، عبر العمل، والمحاسبة والنقد والرقابة، ان كان صادقا فيما خرج اليه من قبل. هو تيار موجود، لكنه تيار لا يزال يتحسس طريقه، فأصوات العقلاء تضيع دوما وسط الضجيج، وان سمعها أحد فان أصحابها عادة يلعنهم اللاعنون من مختلف التيارات. والآن، فقد كشفت تحقيقاتى الخاصة أن دموعى بعد الحكم لم تكن فرحا أو حزنا لمصير مبارك، فقد نسيته، لكنها لحظة شجن حول ماض لا يزال القتلة فيه مجهولين بموجب الحكم، وقلق بشأن مستقبل شعب، علا صوته بالضجيج كثيرا. لمزيد من مقالات محمد شعير