مواعيد صرف معاش تكافل وكرامة بالزيادة الجديدة لشهر مايو 2024    أوستن: لا مؤشرات على نية حماس مهاجمة القوات الأمريكية في غزة    جنازة مهيبة لطالب لقى مصرعه غرقًا بالمنوفية (صور)    أوستن: لا مؤشرات على نية حماس مهاجمة القوات الأمريكية في غزة    انتهاء أزمة الشيبي والشحات؟ رئيس اتحاد الكرة يرد    أهداف برشلونة في الميركاتو الصيفي    نجم الأهلي يقترب من الرحيل عن الفريق | لهذا السبب    "الدفاع التايوانية" تعلن رصد 26 طائرة و5 سفن صينية في محيط الجزيرة    اليونسكو تمنح الصحفيين الفلسطينيين جائزة حرية الصحافة    رسالة جديدة من هاني الناظر إلى ابنه في المنام.. ما هي؟    20 لاعبًا بقائمة الاتحاد السكندري لمواجهة بلدية المحلة اليوم في الدوري    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلًا شمال رفح الفلسطينية إلى 6 شهداء    10 أيام في العناية.. وفاة عروس "حادث يوم الزفاف" بكفر الشيخ    تركيا تعلق جميع المعاملات التجارية مع إسرائيل    كاتبة: تعامل المصريين مع الوباء خالف الواقع.. ورواية "أولاد الناس" تنبأت به    "نلون البيض ونسمع الدنيا ربيع".. أبرز مظاهر احتفال شم النسيم 2024 في مصر    هل يجوز الظهور بدون حجاب أمام زوج الأخت كونه من المحارم؟    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالتزامن مع إجازة البنوك وبداية موسم الحج    بعد انفراد "فيتو"، التراجع عن قرار وقف صرف السكر الحر على البطاقات التموينية، والتموين تكشف السبب    بركات ينتقد تصرفات لاعب الإسماعيلي والبنك الأهلي    سر جملة مستفزة أشعلت الخلاف بين صلاح وكلوب.. 15 دقيقة غضب في مباراة ليفربول    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    أول تعليق من أسرة الشهيد عدنان البرش: «ودعنا خير الرجال ونعيش صدمة كبرى»    الإفتاء: لا يجوز تطبب غير الطبيب وتصدرِه لعلاج الناس    العثور على جثة سيدة مسنة بأرض زراعية في الفيوم    انخفاض جديد مفاجئ.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالبورصة والأسواق    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    برلماني: إطلاق اسم السيسي على أحد مدن سيناء رسالة تؤكد أهمية البقعة الغالية    أحكام بالسجن المشدد .. «الجنايات» تضع النهاية لتجار الأعضاء البشرية    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    السفير سامح أبو العينين مساعداً لوزير الخارجية للشؤون الأمريكية    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    شايفنى طيار ..محمد أحمد ماهر: أبويا كان شبه هيقاطعنى عشان الفن    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    بشير التابعي: من المستحيل انتقال إكرامي للزمالك.. وكولر لن يغامر أمام الترجي    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    هالة زايد مدافعة عن حسام موافي بعد مشهد تقبيل الأيادي: كفوا أيديكم عن الأستاذ الجليل    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من هوان لغة التعليم إلى وَهَن الثقافة

على الرغم مما قد يوحى به العنوان، من علاقة" خطية" بين لغة التعليم والثقافة، فى اتجاه واحد، لكن واقع الحال ، غالبا ما لا يكون كذلك، بحيث تكون لغة التعليم هى الفاعل، وثقافة المجتمع هى المفعول به، وإنما هى علاقة دائرية تفاعلية، بحيث يؤثر كل منهما فى الآخر، ويتأثر به، فضلا عما تشكله الثقافة من قسمات عامة كلية، وطرائق تفكير وأساليب عمل تشكل فى جملتها هوية كل مجتمع.
ودون الدخول فى تفاصيل، امتلأت بها مئات الكتب، وآلاف المقالات والأبحاث والدراسات حول الهوية، ودون السعى إلى إثارة نقاط يدور حولها جدل ونقاش، لا يكاد ينتهى، نحدد للقارئ رؤيتنا الخاصة، للهوية على وجه العموم بأنها هى ما يجمع بين أبناء الوطن من روابط مشتركة، فى الموروث التاريخى، واللغة الوطنية، والعقيدة الدينية، ومصالح الحاضر القومية، وأحلام المستقبل.
والهوية بهذا المعنى هى أمر يكاد يترادف مع القسمات الكلية العامة للثقافة الوطنية بمعناها العام التى تعنى كل ما أنتجه مواطنو هذا البلد بأيديهم ، وعقولهم، وقلوبهم.
ولو سلمنا بهذا، نجد العروة وثقى بين هذه المتغيرات الثلاثة : الهوية، والثقافة، واللغة، بل نكاد فى بعض الأحيان نلمس تشابكا بينها وتداخلا ، وقد يكون هناك ترادف أحيانا أخرى.
ونحن لا نناقش هنا الحال الثقافى والوضع اللغوى على وجه العموم، وإنما بالقدر الذى يتصل اتصالا مباشرا أو غير مباشر بالتعليم، من حيث لغته.


لماذا تأخر معنى الهوية عن القاموس العربى؟
كان المحور الشاغل للعرب بالنسبة للتعرف على فرد أو جماعة ، منذ عشرات القرون، هو تحديد " نَسَبه " العِرقى، فإلى أى قبيلة ينتسب؟ وكان ذلك أمرا طبيعيا فرضته الشروط الموضوعية للجماعة العربية فى شبه الجزيرة بصفة خاصة، حيث لم تقم " دولة " بالمعنى المعروف، مثلما كان الأمر بالنسبة لمواطنى دول عربية أخرى عاشت حضارات كبرى مثل العراق، والشام، ومصر، ففى هذه الحضارات ، حدد الإطار السياسى نسب كل فرد من أفرادها، وما يرتبط به من ثقافة، لكن الحدود لم تكن ثابتة بين الكيانات السياسية ، فأصبح من الجائز تحرك البعض من هذا الكيان إلى ذاك ، ومن هنا عظُم علم انفردوا به يسمى " علم الأنساب"، خاصة وقد كان العرب يفتقدون حركة تدوين الأحداث التاريخية، التى تتصل بالفرد والتى تتصل بالجميع.
ولما جاء الإسلام، أصبح هو الذى يحدد كينونة كل فرد ينتسب إليه، مع التأكيد على تغييب الأصل العِرقى الذى كان حاكما قرونا طويلة، وكان ذلك تحت مبدأ " لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى ".
ولم يكن هذا التحول سهلا، فالوقائع تحفظ لنا كيف سلك صحابى كبير وهو " أبو ذر الغفارى" مسلكا، انتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له " إنك امرؤ به جاهلية" ، قاصدا استمرار بعض القيم والمفاهيم التى كانت حاكمة لمجتمع ما قبل الإسلام.
بل إن وقائع التاريخ تشير إلى ظهور النعرات العرقية بعد ذلك عندما تسرب الفرس إلى الدولة العباسية، وفى أواخرها بدأ تسرب العنصر التركى، وكان هؤلاء وأولئك يؤكدون النسبة العرقية، ومن خلالها يسربون الكثير من عناصر ثقافتهم إلى الثقافة العربية الإسلامية.
ولما كان كتاب الإسلام هو القرآن الكريم الذى نزل بلسان عربى مبين، بدأ الانضواء تحت لواء العربية قَسَمة أساسية تميز الذات الجديدة.
وأصبحت مسيرة الإسلام إلى الدول التى دخلها مرافقة للسان العربى، وزاد هذا دفعة أقوى عندما اتخذ عبد الملك بن مروان قراره بأن تكون العربية هى لغة الدواوين الحكومية، وهو ما حدث فى بلد مثل مصر، ليبدأ " تعريب" مصر لغويا، جنبا إلى جنب، لا مع الجنود العرب فحسب، بل مع آلاف من قبائل العرب جاءت مع الجنود ليستوطنوا مصر، وتتعرب مصر " سكانيا" ، كما تعربت إدارة وعسكريا.
وقامت حركة " تعريب " ضخمة لآثار علمية وفكرية من ثقافات وحضارات أخرى مغايرة، ونخص بالذكر هنا الثقافة الإغريقية، وكذلك الثقافتان الهندية والفارسية.
لكن كان هناك ملمح مهم ساد قرونا عدة، فإذا توارى الانتماء للأرض والوطن بعض الشىء، برز الانتماء المذهبى، بحيث يُعرف هذا وذاك بأنه حنفى أو حنبلى أو مالكى أو شافعى، وبصفة خاصة أعلام المفكرين وكبار العلماء، فلا يذكر اسم الواحد منهم إلا مقرونا بالانتماء المذهبى.
وعلى الرغم من تحكم فئات غير مصرية، بل وغير عربية العرق، من بلدان شتى عُرفوا بالمماليك، لكن استمرت الأبعاد الثلاثة هى الحاكمة: المصرية، والعربية، والدين( الإسلامى بالنسبة لمعتنقى الإسلام، والقبطية بالنسبة للمصريين وأعقابهم ممن ظلوا على ديانتهم).
وكان الغزو العثمانى عام 1517م إيذانا بتحول كبير، فلأول مرة تختفى العربية من إدارة الدولة، لا عِرقا فحسب، وإنما أهم من ذلك: لغة ولسانا، مما بذر بذور الشعور بتميز المصريين عن دولة الخلافة الجديدة، وهو ما لم يحدث من قبل.
وهنا يبرز دور الأزهر، وما ارتبط به من مؤسسات تعليم فى المساجد والمدارس ، والأهم: الكتاتيب التى كانت منتشرة بالآلاف فى كل ركن من أركان مصر، فى الحفاظ على اللسان العربى، وبالتالى الحبل السُّرى الذى يربط العقل المصرى بأصول الثقافة العربية الإسلامية.
وربما بدأت بذور التحول التدريجى نحو أن يكون " الوطن" أحد أبرز دوائر الانتماء، مع حركة التحديث وفقا للنمط الغربى على يد محمد على.
ويُذكر بالفضل لهذا الحاكم، أنه ورغم عثمانيته غير العربية، حرصه على تعريب أبرز إنجازات الغرب الحضارية، بدفع العلماء المصريين ، وجلهم من علماء الأزهر، بعد تعلمهم اللغة الأجنبية، فرنسية أو إنجليزية، إلى ترجمة عشرات الكتب الغربية، بل كان الدارس العائد من البعثات التى ابتعثها " يُحجز" لدى إدارة الدولة، ولا يُفرج عنه إلا بعد أن يترجم كتابا أجنبيا إلى اللغة العربية، وتوُج ذلك بإنشاء رفاعة الطهطاوى مؤسسة تعليمية للقيام بمهمة الترجمة، وهى مدرسة الألسن.
وظلت لغة التعليم فى مصر هى العربية، حتى جاء الاحتلال البريطانى سنة 1882، ليبدأ التراجع، فيحدث الانحسار التدريجى للغة العربية، لصالح اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وفق الحجة الشهيرة أن اللغة العربية تعجز عن استيعاب العلوم الحديثة، رغم تكذيب تجربة محمد على لهذا المنطق الخبيث.
ولم تقف مسئولية ذلك عند حد مهندس السياسة الاستعمارية " دانلوب"، بل جاراه فى ذلك، بكل الأسى وكل الأسف، زعماء متمصرون مثل " يعقوب أرتين"، ووطنيين مصريين كبار مثل " على مبارك" فى تقريره عن عام 1888، بل والزعيم الوطنى الكبير : "سعد زغلول"، عندما كان وزيرا للمعارف سنة 1906، وإن شاع عكس ذلك، نتيجة العودة التدريجية إلى التعليم بالعربية فى عهده سنة 1907، لكن، كان ذلك إجبارا من المجلس التشريعى الذى كان قائما.
ومن العجيب حقا أن يكتب أديب كبير مثل عبد الله النديم فى مجلته الفريدة ( الأستاذ) سنة 1892 مقالا يحمل عنوانا مضمونه هو المضمون نفسه الذى ندور حوله اليوم ، حيث كان عنوان النديم( إضاعة اللغة إضاعة للذات)!!
ذلك أنه بعد فترة امتدت قرونا على ثبات اتجاه القبلة الفكرية، حيث العروبة والإسلام، يجئ الاحتلال البريطانى، ويتسارع الاحتكاك بالثقافة الأوروبية، وما لا يقل عن ذلك أهمية، تزايد انجراف الدولة العثمانية نحو سياسة تمييزية ضد العرب، وخاصة فى بلاد الشام، مما دفع عددا غير قليل من المفكرين والأدباء والعلماء والفنانين والصحفيين إلى الهجرة إلى مصر ، والإقامة فيها، حيث لعبوا دورا متميزا فى الساحة الثقافية، تعميقا للاتجاه العروبى، وبذر بذرة " القومية" بين المصريين.
وتبدأ الاكتشافات الضخمة لآثار الحضارة الفرعونية تتوالى، فيدخل عامل جديد يجذب نفرا من المصريين نحو نظرة إقليمية محددة.
كذلك، تشهد المنطقة حدثا مدويا، لأول مرة منذ قرون عدة، وهو انتهاء المظلة الدينية الكبرى( دولة الخلافة )، فيستنفر هذا نفرا غير قليل يزيد حماسهم للتمسك بالهوية الدينية، يتبدى فى ظهور حركات وجمعيات وتنظيمات..
ومع تزايد أعداد الذين تعلموا وفقا لمناهج التفكير الغربى، وخاصة بعد ظهور الجامعة المصرية، يصطخب الميدان الثقافى بالتيارات والاتجاهات، يحاول كل منها جذب المصريين إلى هذه القبلة أو تلك.
ومع تسيد اللغة الإنجليزية معاهد التعليم، لكن استمرار ورود المتعلمين لنبع معين، ساعد على محافظة الذين تغرّبت ألسنتهم، على المحافظة فى الوقت نفسه على اللغة العربية، هذا النبع هو " الكتاتيب"، تلك المؤسسة البسيطة المتواضعة الفقيرة، لكن خطيرة التأثير، حيث كانت العادة قد دَرَجت عبر قرون على أن من يريد التعلم لابد أن يبدأ أولا بالكُتّاب، وفيه يجيد قراءة القرآن، ويحفظ بعض سوره، أو كله، مما وفر مهارة لغوية عربية لدى أجيال كثيرة من المتعلمين.
إن من يقرأ للأساتذة الأوائل فى مصر ، فى مختلف المجالات، أمثال: طه حسين، وهيكل، والمازنى، ومشرفة، وأحمد زكى، ومحمد كامل حسين، وزكى نجيب محمود، وعبد الحليم منتصر، وسليمان حزين، ومن سار على دربهم لا يخطئ رصد حرص هذا الجيل على المتابعة المستمرة للثقافة الغربية الحديثة بلغاتها، وفى الوقت نفسه إنقان استخدام مفاتيح اللغة العربية.
معطيات المشهد الثقافى
ومصداقا لما نقره بما بين الثقافة واللغة من عروة وثقى بحيث تعد كل منهما " حاضنة " للأخرى، حيث أن اللغة هى وسيلة الثقافة إنتاجا واستهلاكا، كما أن الثقافة تمد اللغة بما يستجد من قيم ومعارف ومهارات جديدة، أو متطورة تفرض تسمية بعينها، نكون بحاجة إلى إطلالة على المشهد الثقافى ، استطلاعا لعدد من مظاهر الوهن التى كان من شأنها أن أُصيبت اللغة بوهن مقابل،أكسبها " هوانا "، كان فعّالا فى الهبوط بمستوى التعليم.
الموقع الاقتصادى: فالثقافة التى يظللها اقتصاد تابع لابد أن تكون ثقافة مستقبِلة، بينما التى يظللها اقتصاد متقدم، تفرز ثقافة مُرسلة.
فعندما نجد مجتمعا يغلب عليه الاتجاه الاستهلاكى، فلابد أن يكون مجرد سوق لثقافة المنتجين، بما يتضمنه هذا من تحديد الأسماء وتعيين المصطلحات، وهو الأمر الذى غلب على ثقافتنا، خاصة منذ بداية ما عرف بسياسة الانفتاح، حيث تُرجم الانفتاح على أنه يتيح الفرصة لإقامة سوق اقتصادية تستقبل ما تنتجه القوى الأكبر اقتصاديا وسياسيا، ولذلك لاحظنا وقت ازدهار الحضارة الإسلامية غرسها عددا من الأسماء والمصطلحات العربية فى اللغات الأجنبية ، على عكس ما أصبح عليه الحال الآن، فمنتِج الحضارة هو أبوها الذى من حقه هو أن يسمى مواليده، وما على الآخرين إلا أن يُسموا بمثل ما رأى هو.
ولأن الاقتصادات الأجنبية أصبحت هى المُصَدرة، وهى المُنتجة، وهى التى تضع القواعد وتقترح التنظيمات، وتشير بوضع الآليات، يصبح على المستهلكين أن يسعوا بكل ما لديهم من طاقة أن يحسنوا لغة هذه القوى الاقتصادية الفاعلة المنتجة المتحكمة فى السياسات والأسواق.
وأصبح كل مواطن محاطا فى غدْوه ورَواحه بسيل من الأسماء الأجنبية لمعظم ما يرى ويسمع ويتذوق ويأكل، واختفت، على سبيل المثال، كلمة سوق لتحل محلها " سنتر" ، وكلمة: " وشركاه" لتحل محلها كلمة أجنبية، و" تسوق" لتحل محلها كلمة " شوبنج"... "إلى غير هذا وذاك مما أصبح يصعب حصره من كثرته،وتزايده فى كل يوم.
= الخطاب السياسى: ففى مجتمع ظل التصور فيه للقيادة السياسية العليا عقودا عدة ماضية، باعتبارها الأب والكفيل والموجه الأول، تنفتح الآذان والعقول لما تقول، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، كان من الطبيعى أن تكون لغة الخطاب السياسى مُشَكّلة لكثير من المفاهيم، والقيم والاتجاهات.
ولظروف متعددة ، كان قد تصدر المشهد السياسى فى مصر زعماء يُعرفون بقدرات خطابية متميزة، كما رأينا لدى مصطفى كامل، وسعد زغلول، والبارودى، ثم مصطفى النحاس، ومكرم عبيد، كانت صناعة الكلام وقتها تتطلب مهارات لغوية ومعرفة أدبية، وقدرة على إكساب ما يقال قدرا من البلاغة وحشد المعانى والدلالات.
ومما له دلالة أن يكون من المتصدرين للخطاب السياسى زعيم متفرد مثل مكرم عبيد، الذى حرص على حفظ القرآن واستخدام آياته فى خطابه، مفسرا هذا بأنه مسلم ثقافة، وقبطى ديانة.
ثم إذا بالخطاب السياسى منذ عام 1952 يجنح بسرعة وبقوة نحو العامية المتخمة بعبارات التعبئة والحشد والتجييش.
ولأن الحضور كان مكثفا لزعامة فى هذه الفترة امتلكت مكانة شعبية طاغية، تغذت بفيضان من الولاء والحب، حرصت جماهير غير عادية على الاستماع والاستبعاب، مع تسليم وتبن لكل ما يقال، حبا وانبهارا.
= الخطاب الإعلامى: وكان من أبرز مصادر إنتاجه، الصحف، فإذا بكتاب هذه الصحف عدة عقود منذ أواخر القرن التاسع عشر، حتى أواسط خسمينيات القرن العشرين، هم أعلام الفكر والأدب، مثل العقاد وطه حسين ومحمد عبده وأحمد لطفى السيد وعبد العزيز جاويش وسلامة موسى وتوفيق الحكيم، وأحمد أمين...وهكذا، ثم توارت هذه الظاهرة إلى وراء، إلا من رحم ربى.
وعندما وفدت " الإذاعة " إلى عالم الإعلام، كان هناك تدقيق مذهل فى الاختيار من قبل عمداء اللغة فى مصر، عربية وأجنبية، وحرص على استخدام الفصحى السليمة ومعاقبة من يَلْحن فى القول والحوار.
وكانت كل من الصحف والإذاعة تقوم بوظائف التثقيف والتعليم والإخبار.
وفرضت ظروف الخمسينيات والستينيات أن تطغى وظيفة جديدة هى وظيفة التعبئة والحشد والتجييش، حيث سادت أساليب تقوم على محورية أفعل التفضيل، مثل أعظم ، أكبر، أقوى..إلخ، وبدلا من انتهاج أساليب كتابة تعبر عن التحوط فى الحكم ، مثل : وربما، ومن المحتمل، وقد، ونظن، غلبت أساليب القطع فى الأحكام، من قبيل: ولابد، ومن الضرورى، نعتقد، من المسلم به..إلخ.
ووراء كل هذه الأساليب: نهر يهدر بشلال من العواطف الجياشة التى كثيرا ما تجاوزت الإمكانات المتاحة، والقدرات الفعلية، مما كان يؤدى إلى صدمات على المستوى القومى، احتاجت سنوات حتى يمكن البُرْء منها، وأشهر ما يشار إليه هنا، ما كان مذيع صوت العرب ( أحمد سعيد ) يقول به، والتصريح الشهير بأننا كنا نملك أكبر قوة ضاربة فى الشرق الأوسط!
وفى العقود الأخيرة تقدم التلفاز ليصبح سيد الجميع، وفى ظل سُعار السرعة وكثافة الإنتاج، والعمل يوميا طوال أربع وعشرين ساعة، واقتحام رأس المال الخاص الساحة، ليعبر عن وضع جديد، فإذا كانت ثورة يوليو قد حرصت على ضرب سيطرة رأس المال على الحكم، فإن رأس المال، الذى خرج من الباب ، عاد ليدخل من شباك الإعلام، ويصبح قوة مسيطرة تتحكم فى التوجيه والتنشئة وصناعة العقول والأذواق.
وهنا لم نعد نجد ضرورة لتصدر المكانات الثقافية والمواقع الفكرية، والمهارات اللغوية، والحديث يطول لو حاولنا أن نسوق ولو بعض الأمثلة للتدنى اللغوى والتسطيح الفكرى، والضحالة الثقافية، إلا من رحم ربى.
تأثير عميق للغناء
الأغانى : وقد يدهش البعض، نتيجة تصور أن تناول مثل هذا الموضوع، فيه إقحام لما ليس هذا موقعه، لكننا نؤكد أهمية تناول الموضوع وفقا لمعيار مهم، ألا وهو قدرة المتغير، موضوع الحديث على التأثير فى جماهير عريضة، وهو ما يتوافر فى الأغانى بعمق وبقدرة ، ربما تتفوق على كثير من مؤسسات التعليم المباشر.
بل إن المصريين، ربما أكثر من غيرهم من الشعوب عُرفوا منذ زمن بعيد بمصاحبة الغناء لما يقومون به من عمل، وخاصة اليدوى، وهو الغالب على الجمهرة الكبرى من الناس طوال قرون، وكأن هذه الجماهير ، ضعيفة الشأن الاجتماعى، كانت تستعين بالغناء لتلطيف ما يحيط بهم من أجواء القهر والفقر وحياة الانكسار والمذلة.
وهنا ، مع اعترافنا بوجود أنواع مغايرة، فقد امتلأت الساحة مدة عقود خلت بغناء مفردات لغوية رفيعة المستوى، لا لأنها قصائد شعرية لكبار الشعراء، مثل شوقى، وحافظ، ورامى، وإيليا أبو ماضى وكامل الشناوى وغيرهم، بل كانت هناك أغان بالعامية مهذبة اللفظ، عميقة المعنى، كثيفة التخييل.
وقوة تأثير الأغانى تتأتى من كونها " منغمة"، وتصدر من صوت ساحر، مثل عبد الوهاب وأم كلثوم، على سبيل المثال، فتدلف إلى خلايا الوجدان، ومجامع القلوب، بحيث لا تؤثر وجدانيا فقط، بل تتجاوزهذا أيضا بتشريب المستمع بعض المعارف، والقيم، وكل ذلك من خلال مفردات لغوية عميقة المعنى، دقيقة الدلالة، ولعل إشارات موجوزة مختصرة تؤكد لنا هذا:
- فعبد الوهاب عندما يغنى فى : مضناك جفاه مرقده، لأحمد شوقى قوله: الحُسن حلفت بيوسفه، والصورة أنك مفرده، وتمنت كل مقطعة يدها، لو تبعث تشهده، ففضلا عن المفردات اللغوية الرفيعة، فهى تحمل معلومات عن النبى يوسف عليه السلام، وما حدث بينه وبين امرأة العزيز..
- وأم كلثوم عندما تغنى لشوقى أيضا: الدين يسر ، والخلافة بيعة، والأمر شورى، والحقوق قضاء، فبالإضافة إلى الثروة اللغوية، فهى تُعلم السامع عددا من المبادئ الأساسية من : ضرورة اتسام التدين باليسر، وقيام الحكم على الاختيار، وضروة التشاور، وحتمية مراعاة حقوق الناس.
- وكذلك فى المجال العاطفى، عندما يغنى عبد الوهاب لعلى محمود طه فى " الجندول": ذهبى الشعر ، شرقى السمات، مرح الأعطاف، حلو اللفتات، كلما قلت له خذ، قال :هات يا حبيب الروح يا أنس الخيال.
- وتساهم الأغانى فى الوعى السياسى، فعندما تدك مدافع الفرنسيين مواقع فى سوريا، يغنى عبد الوهاب: سلام من صدى بردى، ودمع لا يكفكف يا دمشق ، ويشدو ب: أخى جاوز الطالمون المدى، عند نشوب حرب فلسطين، عام 1948. . وهكذا يضيق المجال عن الإشارة إلى عشرات الأمثلة..
- حتى بعض الأغانى التى نُظمت بالعامية، كانت عاميتها رقيقة، مهذبة، كثيفة المعنى، كما نرى فى غناء أم كلثوم لأحمد رامى:" والموجة تجرى ورا الموجة عايزة تطولها"، ولبيرم التونسى عن أهل الهوى : فيهم كسير القلب والمتألم واللى كتم شكواه ولم يتكلم، واللى قعد بعد الحبايب وحده ، وبات حزين يشكى هيامه ووجده.
فإذا ما وصلنا إلى مرحلة متأخرة وجدت من يغنى: كوز المحبة اتخرم ، إديله بنطة لحام، أو من يغنى : أنا مش خرونج، أنا كينج كونج.
وحتى نقف على خطورة هذه النوعية، فلنتذكر مئات "الميكروبوسات"، وخاصة على الخطوط الطويلة بين الأقاليم، وهى تنقل آلافا من أناس يفرض عليهم سماع العشرات من هذه النوعية، فتتلوث أسماعهم، وتفسد أذواقهم، ويمتلئ قاموسهم اللغوى بكثير مما هبط من الألفاظ، وما خشن من المعانى.
التراجع العروبى
فبعد أن ازدحمت الساحة الثقافية فى مصر بمهاجرين عرب، على المستوى الثقافى العالى ، ممن أنشأوا الأهرام، ودار الهلال، ودار المعارف، والمقتطف... وغيرها، وتمأسست العروبة فى ظهور جامعة الدول العربية، وارتفع المد العروبى بعد عدوان 1956، وثورات عربية فى عدة مواقع فى سنوات قليلة تلت، وتشخص الاتجاه العروبى فى دولة الوحدة بين مصر وسوريا، بدأ التراجع، بانفصام الوحدة، ثم بانكسار مشئوم فى 1967.
وكان من شأن الانتصار المذهل عام 1973، أن يعيد اللُّحمة العربية، لكن الإدارة السياسية للحرب، أدت إلى بداية انفصام عروبى خطير، كانت بدايته فى كامب ديفد، وأصبح المشهد الآن غاية فى الأسف.
إن تدهور هذا المسرح الثقافى، وتخلخل هذه البيئة الحاضنة، كان لابد أن يُدَنى من كل ما هو عربى، وفى المقدمة منه اللغة العربية عامة، وكلغة تعليم خاصة، فقومها لم يعودوا أهل فخر، وتراجعوا أن يكونوا من منتجى الحضارة. وهجرت دول عربية اللغة العربية كلية كلغة تعليم على كافة المستويات.
عالم الفضاء الإلكترونى: ولا يجرؤ أحد أن يقلل مما يصعب حصره من مزايا وفوائد وإضافات لم يحلم بها الإنسان من قبل، من جراء سيطرة هذا العالم الافتراضى الذى لا حدود له مما جعل المعرفة فى حالة سيولة دائمة، متاحة لكل من يطلب.
لكن، مثلما هو الأمر فى الأدوية من حيث وجود آثار سلبية جانبية، فقد أصبح هذا العالم ساحة واسعة لتبادل ما لا نستطيع أن نسوق له أمثلة من فحش القول، وبذاءة التعليق، وتدنى الحوار، وتحكم اللهجة العامية فى الكم الغالب من المتواصلين اجتماعيا، وحتى فى هذه الساحة، كثيرا ما يشيع الخطأ اللغوى العامى نفسه.
واقترن بهذا أيضا هجر قراءة الكتب، وصور ضعف وخلل فى البحث العلمى، نتيجة سهولة القص واللصق بضغطة مفتاح، دون جهد فى التفكير والاستنباط، والتحليل والتعليل، فيصاب الفكر بداء التقليد، ويتعود صاحبه ندرة بذل الجهد، ومعاناة الكفاح على طريق البحث.
القطيعة مع الموروث الثقافى: فقد أصبحت اللغة العربية، وكأنها غريبة بين أهلها، وكان أخطر ما ترتب على ذلك أن أجيالا كاملة أصبحت مقطوعة الصلة بموروثها الثقافى، لا نقول الموروث عبر قرون سلفت على يد الجاحظ ، وأبو حيان التوحيدى، وابن سينا، والغزالى، وابن الهيثم، وغيرهم، وإنما الموروث الثقافى القريب، من القرنين التاسع عشر والعشرين، كما تمثل فى كتابات الطهطاوى، وعلى مبارك، ومحمد عبده، والأفغانى، ، والرافعى، وطه حسين، والعقاد، وزكى نجيب محمود، والدكتور هيكل، والمازنى، وأحمد أمين،، وغيرهم.
..............
..............
وكل هذه العوامل والمتغيرات، أصابت الثقافة فى بلداننا بالوَهن، مما كان من المنطقى بعد ذلك أن تُصاب اللغة العربية بقدر غير قليل من الهوان وتواضع الحال ، لا تكون مصدر فخر لمن يتحدث ويكتب بها...مما كان لابد أن يتفاعل بدوره مع متغيرات أخرى من داخل النظام التعليمى، لا باعتباره مسئولا وفاعلا، وإنما فى أحيان كثيرة باعتباره مفعولا به. وإن شئنا الدقة، فنحن لسنا أمام حالة بسيطة يمكن أن تخضع للمنهجية الموروثة من عالم نيوتن الميكانيكى، المتمثلة فى علاقة بين متغير مستقل ومتغير تابع، فبعض ما أشرنا إليه من متغيرات، هو فاعل أحيانا، ومفعول به أحيانا أخرى. قد يكون سببا فى بعض المواقع، ونتيجة فى مواقع وأحوال أخرى...إنها النظرة المنهجية المعاصرة التى تبصر الواقع كلا معقدا مركبا من العديد من المتغيرات المتفاعلة، المؤثر بعضها فى بعض، وبالتبعية، المتأثر بعضه من بعض.
تداعيات هوان لغة التعليم
باعتبار لغة القوم هى " لسانهم"، المعبر عما فى عقولهم ، وما فى قلوبهم، تصبح موضع تقدير وإجلال فى كل رجا من أرجاء الوطن، وفى كل مناسبة يحتاج فيها أبناؤه إلى التعبير عما فى نفوسهم، سواء مع أنفسهم، أو مع شركاء الوطن، أو مع المغايرين من أبناء الأمم الأخرى، تكون لها المكانة نفسها فى مؤسسات التعليم ومعاهده.
لكن ذلك لم يحدث فى مصر منذ عدة عقود، مما تكشف عنه عملية استقراء سريعة لبعض المظاهر، مثل :
- فمنذ أواخر الخمسينيات، عندما تم تأميم المدارس الأجنبية، تجمعت تلك المدارس تحت مظلة واحدة عرفت باسم المعاهد القومية، لكنها – بحكم الواقع السياسى القائم- ذخرت بكثير مما يعزز التوجه العروبى عامة والوطنى المصرى خاصة، مع استمرار تميز تعليم اللغة الأجنبية والتعليم بها.
- وإذا كان مفهوما أن يواكب الانفتاح الذى بدأ عقب حرب أكتوبر 1973، بالمعنى الذى عبر عنه الراحل أحمد بهاء الدين" سداح مداح"، كناية عن حالة " التسيب"، قيام بعض تجار التعليم بملاحقة احتياجات الكيانات الاقتصادية التابعة لمراكز الاقتصاد العالمى بمن يتقن لغتها، فلم يكن مفهوما أن تبادر الدولة نفسها إلى الدخول فى المعترك نفسه، بدلا من أن تفكر فى نهج منافس مغاير، فإذا بها تقتطع من الملكية العامة الخاصة بجموع المصريين، مدارس أسمتها بالتجريبية، وهى تخلو تماما من أى تجريب، وإنما كانت حيلة للالتفاف حول مجانية التعليم، وهى مدارس تعلم باللغة الإنجليزية، والتى بدأت فترة غير قصيرة على مستوى التعليم الابتدائى، ثم استشرت لتضم كل مراحل التعليم.
- ومن الركائز الأساسية للفكر الجامعى، مقولة قيادة الجامعة لمسيرة النهوض العام، وفى مقدمته النهوض العلمى والقومى، لكن الوباء العام استطاع أن يتسلل إلى أروقة الجامعات وكلياتها، أيضا باقتطاع جزء من الملكية العامة فى الجامعات الحكومية، ليكون تعليما جامعيا خاصة بلغة غير عربية، أيضا وفقا لنفس الحجج والمبررات، والتى ترجع أصولها- كما بينا – إلى بدايات الاحتلال البريطانى، الذى كان مفهوما أن يسعى إلى ذلك، أما أن تمر عقود كفاح فى سبيل الاستقلال، وتسيل أنهر من الدماء الوطنية، ثم يتسرب هذا المنطق فى التفكير إلى فكر القيادات الجامعية الوطنية، فذلك يعد مصداقا لمقولة ابن خلدون أن المغلوب مولع بتقليد الغالب، وليست الغلبة هنا وسط قعقعة سلاح واحتلال أرض، بل غلبة فكرية وعقلية.
- وإذا كنا قد فزعنا فى فترة مبكرة من ظهور ما عرف بالكتاب المقرر فى الجامعة الذى يُقولب عقل الطالب وتفكيره فى صندوق بعينه، فقد سارع المنحى بالهبوط أكثر بتسيد ما عرف باسم " المذكرات الجامعية" التى تحتاج إلى حديث طويل باعتبارها أحد المهابط للفكر الجامعى، لكن يكفينا هنا ونحن بصدد قضية لغة التعليم، القول أن الكتاب الذى كان يُنشر بمعرفة ناشرين كبار، إذ يتوزع عادة فى طول البلاد وعرضها، ويخرج إلى ما وراء الحدود، يكون معرضا للنقد والمراجعة والفحص العام، وهو ما يضعه المؤلف منذ البداية نصب عينيه، لكن المذكرة الجامعية، زبائنها الوحيدون هم الطلاب، هو أدنى زبائن المعرفة على هذا المستوى، وعليهم أن يتقبلوا كل ما فيه ، حتى ولو كانت به بعض الأخطاء التى قد تجئ عفوا، نتيجة ضعف مراجعة، أو استعجال طباعة، ولا احتمال لعيون أخرى من خارج تفحص وتقارن وتحلل وتنقد، فيجئ مستوى عدد غير قليل منها متواضع المستوى اللغوى، وربما المستوى العلمى والمكانة الفكرية.
- ولم يكن بمُكنة أحد أن يجادل فى السعى للتأكيد على ضرورة امتلاك الباحثين فى مرحلتى الماجستير والدكتوراه مهارة الرجوع إلى مصادر العلم المتقدم فى الغرب عامة ، واللغة الإنجليزية خاصة، فتم اشتراط ما عرف بامتحانات " التويفل" .
وإذا كان الفزع من ضعف الباحثين فى اللغات الأجنبية مبررا ويمكن فهمه وتقديره، إلا أن ما لا يمكن فهمه ولا تبريره، التراجع المخيف والمحزن لقدرات الباحثين فى معرفة أبسط أصول لغة قومهم ووطنهم، لا من حيث قواعد الصرف والنحو فحسب، بل فى التراكيب التعبيرية، وفى البناء اللفظى، المتمثل فى أخطاء إملائية تدخل فى باب الفضيحة، كان لا يقع فيها تلاميذ الابتدائى منذ عدة عقود!!
- ولقد ظللنا قرونا نردد مقولة أن الأزهر هو حصن العربية والمحافظ عليها نحوا وصرفا وإملاء وتعبيرا وكتابة، ثم إذا بنا نراه قد بدأ يلهث وراء تقليد الذين أصيبوا بحمى التعليم بلغة أجنبية، ومما يثير السخرية حقا أنه يسمى معاهده التى يتم فيها هذا " بالنموذجية"، وكأن مثاله الأعلى أصبح أن يجرى وراء الآخرين مسلما بعجز لغته القرآنية عن أن تثرى بالتعامل مع العلوم الحديثة!!
- نقول كل هذا الذى سبق، وبين أيدينا كتاب أحدث ضجة كبرى عدة سنوات، فى مجالى التعليم والثقافة للدكتور طه حسين، عندما صدر عام 1938، حيث يفاجَأ القارئ بأن هذا المفكر الذى اشتهر بأنه من دعاة التغريب، يسخر من التعليم بلغة أجنبية فى هذا الوقت المبكر، ويلح على أن تكون لغة التعليم هى العربية ،ورد على حجة قصور العربية فى مجاراة حركة العلوم الحديثة، بضرورة أن تنهض حركة ترجمة ضخمة إلى العربية، وبالتالى فقد " شهد شاهد من أهلها" !
- ومن المعروف أن من قواعد الترجمة الأساسية، إتقان اللغة المنقول منها ، وكذلك اللغة المنقول إليها، ونظرا لما أشرنا إليه من تراجع مخيف لتعليم اللغة العربية والتعليم بها، برزت نوعية مؤسفة من المترجمين، ممن يتقنون اللغة الأجنبية، لكنهم لا يتقنون اللغة العربية، فإذا بما يترجمون: غامض غير مفهوم، يفشل فى تأدية وظيفة الترجمة، حيث يلجأ المترجم ضعيف اللغة العربية إلى الترجمة القاموسية وحدها، فيخطئ ويغمُض، حيث من المعروف أن لكل لغة " منطقا" ، ونهج تفكير، وعقلية صاغتها قرون طويلة من خبرات متراكمة، لابد من فهمها حتى تحسن الترجمة.
ومما يؤكد أن كثرة الترجمة الواعية السليمة، تثرى اللغة القومية بالعديد من المستجدات العلمية أن الذين قاموا بمهمة الترجمة زمن محمد على للكتب المتخصصة فى العلوم الطبيعية والرياضية والطبية، من الشيوخ المحررين والمترجمين والمراجعين لهذه الكتب اكتسبوا لأنفسيم معارف جديدة واسعة كان لابد أن يتردد صداها فى تفكيرهم وكتاباتهم، لكثرة ما نحتوا واقتبسوا من ألفاظ ومصطلحات جديدة، وخير مثال لذلك ما كتبه الشيخ محمد عمر التونسى فى مقدمة لكتاب ( الجواهر السنية فى الأعمال الكيماوية) للدكتور " براون " يقول، وهو فى موقف دعاء إلى الله، فإذا بالدعاء ينضح بالمصطلحات الكيماوية، حيث قال: " ..يا من تتصاعد إليه الأرواح وتتسامى، وتذوب الأجسام من هيبة جلاله، على باب عقده تترامى، تنزهت ذاتك العلية عن التحليل والتركيب...إلخ"!!
وماذا بعد؟
ولعلنا بعد هذه الإطلالة ، نستطيع أن نشير إلى شموع إنارة فى آخر النفق المظلم، مثل:
· قابلية اللغة العربية للتجاوب مع التطور العلمى والتقنى: إننا إذ نشدد على ضرورة أن تتسيد اللغة العربية تعليمنا، فإننا بهذا لا يحركنا منطق ( إما.. أو )، إنما إيماننا بضرورة إتقان لغة أجنبية على الأقل، وكذلك أن تكون لغتنا هى التعليم ، فضلا عن إمكانات هذه اللغة:
- فهى ثرية بالمترادفات، وكثرة المترادفات تتيح الفرصة للقارئ أو السامع أن يختار اللفظ الأكثر ملاءمة، مع تغير الأنساق المعرفية، وتبدل الأحوال الثقافية.
- وهى تملك خاصية فلسفية نادرة، تتيح لها ألا تتحدث فى الكتابات الفكرية والعلمية، إلا عما هو موجود، ففى الإنجليزية مثلا نقول: The girl is beautiful = البنت " تكون" جميلة، لكننا فى العربية لا نحتاج فعل الكينونة، لأنك إذا تتحدث عن شخص فمفروض أن يكون موجودا.
- وهى كثيفة المعانى، فانظر إلى كلمة مثل " أسقيناكموه"...كلمة واحدة ، لكنها تتضمن فعلا وفاعلا ومفعولا به،ومفعول لأجله.
- وقد استوعبت ، زمن انطلاق الحضارة الإسلامية، كثيرا من مفردات الحضارات التى سبقتها مثل الحضارةالهندية والفارسية والإغريقية، عندما قامت بترجمة الكثير من ثمرات هذه الحضارات.
- وفى مستهل القرن التاسع عشر، زمن محمد على، قامت – كما أشرنا – حركة ترجمة واستقدام معلمين أجانب بجوارهم من يترجمون، فاستطاعت العربية استيعاب من استجد عليها من منجزات علمية وتقنية.
- منذ عدة عقود هناك لجان علمية كثيرة متخصصة فى مجمع اللغة العربية بالقاهرة، توفرت على ترجمة ووضع آلاف من المصطلحات العربية للمصطلحات الأجنبية، واحتوتها قواميس متخصصة، بحاجة إلى من يمد يده إليها ليستخدمها.
· معلم اللغة العربية: فهناك تعدد فى المصادر التى يجئ منها معلم اللغة العربية إلى مدارسنا، مثل كليات اللغة العربية بجامعة الأزهر، وكلية دار العلوم، وأقسام اللغة العربية بكليات الآداب، وأقسام اللغة العربية بكليات التربية، مما يقتضى إنشاء مجلس أو لجنة للتخطيط وتطوير وتنسيق السياسات والقواعد والأسس الخاصة بإعداد معلم العربية.
ويؤسفنا أن نقرر هنا أن أضعف المصادر هو ما تخرجه كليات التربية، إلا من رحم ربى، نظرا لنظامها فى الإعداد التكاملى، الذى لا يتيح لطلاب اللغة العربية من الساعات والمقررات ما يتيح له فرصة التمكن من لغته، خلال سنوات أربع، يستهلك ربعها فى علوم التربية وعلم النفس، وهو الأمر المتعلق بمثل هذا النظام التكاملى الذى أصبح يتطلب مده كى يكون خمس سنوات.
· ضرورة المواجهة القانونية الرسمية للتسمية بأسماء أجنبية للسوق الاقتصادية، فهى تمثل " مناخا" يحاصر الجميع طوال الليل والنهار، وفى كافة الأرجاء والأمكنة، وليس هذا عسيرا فبلد مثل فرنسا، بها قانون يحظر استخدام اسماء غير فرنسية.
· مكتب تدقيق لغوى بالكليات: بحيث لا تناقش رسالة إلا بعد أن يدققها مكتب رسمى متخصص فى كل كلية، وخاصة كليات التربية، فما هو سائد من مراجعات لغوية، كثير منها مشكوك فيه، فلا ضمان له، والخبرة دلتنا على ما يصعب سوق أمثلة له من التدنى فى هذا الشأن. ولعل ما يؤلم حقا أن يتداول البعض وصف الأخطاء اللغوية بأنها من الأمور" الشكلية"، وهى ليست كذلك، فاللغة ليست مجرد وعاء للفكر ، بل هى الفكر نفسه، ومن ثم فمن اعوجت لغته اعوج فكره!!
· الترجمة: فهى مجال خصب لإثراء اللغة بالكثير من مصطلحات العلم الجديدة. صحيح أن لدينا مركزا للترجمة تابعا لوزارة الثقافة، لكن هناك جوانب مهمة لتفعيله، منها على سبيل المثال تغيير ما هو سائد باللجان العلمية للترقيات من حيث النظر المتواضع للغاية لقيمة المترجمات، مما صرف نظر مئات من أعضاء هيئات التدريس بالجامعات عن بذل الجهد فى هذا المجال.
كذلك فالقيمة المادية للترجمة متدنية، تصرف من يريد التعامل معها، مما يحتاج الأمر معه إلى تغيير هذا الوضع.
· تعليم القرآن الكريم: فلسنا بحاجة إلى استرجاع الشواهد التى شهدتها قرون طويلة من فاعلية تعلم القرآن فى رفع الكفاءة اللغوية للمتعلم، مما يشير إلى أهمية زيادة جرعة تعليمه فى المدارس فى كتب القراءة، على أن يكون مجالها هو المعاملات الأخلاقية، والمبادئ الإنسانية، مما لا يتصادم مع عقائد غير المسلمين.
· المسابقات اللغوية والثقافية: وهو الأمر الذى شهدناه فى الخمسينيات، على مستوى قومى عال، حيث كان يتم اختيار بعض المصادر الأدبية الكبرى لفحول الأدباء والمفكرين والشعراء، فى مسابقة، كان الفائزون فيها يمنحون مجانية التعليم الجامعى، وبما أن المجانية متوافرة الآن، فيمكن أن يكافأ الأوائل فى مثل هذه المسابقة بجائزة كبرى، أو درجات قليلة تضاف إلى المجموع العام.
· مدارسة هذا التمدد المخيف لمدارس اللغاتِ، بحيث نقر بأن أحد العوامل الأساسية التى تدفع الآباء والأمهات إلى إلحاق أبنائهم بها، هو التراجع المؤسف فى مستوى خدمة التعليم بمؤسسات التعليم بالعربية، ومن شأن النهوض بها أن يعيد الثقة فيها، ومن ثم الإقبال عليها، وليس هذا خيالا ، فنحن من جيل كانت فيه المدارس " الأميرية" هى تاج التعليم فى مصر، لا المدارس الخاصة، فهل نعجز عما فعله آباؤنا وأجدادنا ، لا القدماء، وإنما منذ أقل من قرن من الزمان؟
....وفى النهاية لابد لنا أن نكرر ما نعتقده ونؤمن به، أن كل هذا ،وهناك غيره مما يضيق به المقام، لا سبيل إلى فاعليته إلا بتطوير المنظومة المجتمعية والثقافية، التى هى – إذا صح التشبيه- بمثابة القط الذى يلتهم الفئران، فمن يعلق الجرس فى رقبة القط؟
لمزيد من مقالات سعيد اسماعيل على


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.