بابا... أكتب لك هذه الرسالة، وهي الرسالة الثانية المنشورة فى هذا المكان، لكنها ربما تكون الرسالة الثانية بعد الألف التي أقولها لك بعد تغيبك. لا أعلم هل سأكتب لك باللغة العامية التي تحبها – هو كان مسميها لغة – أم باللغة العربية الفصحى؟ على أي حال، سأترك الأمر يسير كيفما اتفق. بابا.. مر عام بأكمله، كل يوم أنتظر عودتك، كل يوم أتحدث معك، كل يوم أطلب منك العودة، كل يوم أتشاجر معك، كل يوم أقول لك بعض رسائل الحب، بعض رسائل الغضب، أذكرك بأشياء جميلة بيننا، عل قلبك يرق لحالي وتعود، ثم أعود وأذكرك بحركات نص كم فعلتها معي، عسى أن تشعر بالذنب، وتقرر أن تصحح خطأك وتعود... لكنك لم تأت بعد، وأنا لا أرى أنك محق فيما تفعله، أنت مخطئ يا بابا... يا بابا أنت مخطئ، خالص بقى، ويجب عليك إعادة النظر في موقفك هذا. حقيقة، فكر في الأمر، دي حركات محترمة يعني؟ يعني أنت كده بقيت جدع مثلا؟ خلاص، علمت أن الناس تحبك، علمت أن الجميع حزين عليك، علمت أن هناك ناسا أولاد حلال، وآخرين أولاد..... حلال برضه، وأظن أن هذه التجربة هي الوحيدة التي كانت تنقصك، وآديك جربتها، مش خلاص كده؟ بابا.. أنت عملت فيا مقلب وحش قوي يا بابا، وورطتني توريطة زي الطين، يا بابا أنت كنت ماشي تلم عاهات مستديمة حواليك، وأنا الآن ملزمة بتحمل هذه العاهات المستديمة، لا طاقتي بحجم طاقتك، ولا قدرتي مثل قدرتك، ولا نفسي بطول نفسك.... ارحمني بقى، ثم إنه لست أنا من جلبت هذه العاهات المستديمة حتى أتحملها، شيل جلبتك. بابا.. أنا اتدبست. لقد حكيت لك عن أشياء كثر حدثت في غيابك، أشياء جميلة كنت أرغب في مقاسمتك إياها، وأشياء سخيفة، سخيفة، سخيفة، وأحيانا حزينة، كنت أرغب في أن تخففها عني، ثم إنك عادة ما تتفاءل بلا أي مبررات واضحة، وعادة لا أنصت إليك، طيب أنا مستعدة أنصت الآن يا بابا، الآن يمكن أن أسكت وأنصت وأنت تتكلم بدون أن أقاطعك بحماس ونزق وأقول لك: لأ... ماليش دعوة... الآن سأسمعك. حين تعود، سأتركك تتحدث وقتا طويلا جدا، بدون توقف، وبدون أن أقاطعك إطلاقا... والله يا بابا، وعارف؟ وحاسمع كلامك كمان... شوفت أنا تطورت إزاي في السنة دي؟ بابا... أنا كبرت.. كبرت يعني كبرت، شخت، أصبحت أقول كلام المسنين، وأتصرف تصرفات المسنين، وأفكر مثل المسنين. بابا... عم أحمد سيف الإسلام عمل نفس عملتك دي اللي مش عارفة أقول عليها إيه؟ هو ذهب لمكان ما، في توقيت غير مناسب بالمرة، وبصراحة رازى في سناء وعلاء وأنا ما رضتش أتكلم ساعتها عشان ما أشيلهمش منه. هل قابلته؟ لو إنك قابلته فمعنى ذلك إن كلام الناس صحيح، وأنكما ذهبتما إلى مكان لا يعود الناس منه. حتى الدكتورة رضوى اللي باقول عليها عاقلة عملت نفس العملة. وكلنا شخنا يا بابا، وكلنا هرمنا. لم أقابل سناء لأنها في السجن، لكنني قابلت علاء أثناء الفترة القصيرة التي خرج فيها من السجن قبل أن يعود إليه مرة أخرى، كنا في النادي السويسري، عقب أن فعل والده نفس فعلتك، وكنت أجلس أنا وهو ونتحدث وكأننا اثنان من المسنين يتجاذبان أطراف الحديث على قهوة المعاشات، حتى تميم، قابلته في عزاء الدكتورة رضوى، وكان يبدو مسنا: هالات سوداء حول عينيه، جبهة مغضنة، نظرة عجوز. هناك شعور آخر بخلاف الفقد... لا أعلم يا بابا، ربما شعور بالغضب... أو يمكن الغل، شعور بالتورط في أشياء لم أكن مؤهلة لها... أنا ماليش أب دلوقت، يعني أنا ما بقتش صغيرة، ما بقاش ينفع أقول: يا بابا اعمل كذا... ما بقاش ينفع أقول: حابقى أقول لبابا.. في ذات مرة، تشاجرت مع زوجي، عادي يعني، مثل أي زوجين، في منتصف المشاجرة قال لي: كده مش حينفع.. هاتيلي حد أكلمه. تردد برهة، ثم قلت: ماليش حد. أطال الله في عمر أمي وأدامها علي نعمة وحفظ حنانها علي من الزوال... وأرجو منها ألا تفعل معي أي دقة نقص، المفروض إنها جدعة يعني، لكن أنت تعلم ما أقصد، يعني لما يحب يتكلم. فاطمة الزهراء حضرت، وكان لابد أن ترحب بها كما يليق. فاطمة بها كثير منك، ربما ابتسامتك، أو ربما عنادك. لا أعلم، لكنها تذكرني بك دوما. بابا... مبارك طلع براءة يا بابا.. أنت وسيف ورضوى رحتوا المكان ده، ومبارك قاعد، وواخد براءة، وغالبا مبارك ده من «المُنظرين»، يعني نفخة الصور الأولى حتبقى وهو قاعد في الدنيا. وللعلم، حتى لو حدثت المعجزة ومات مبارك، لن يصدق أحد، وربما طلبوا من السلطات عرض جثته على الملأ حتى يتأكد الجميع من وفاته، ده إذا توفى أصلا، خد براءة بأقولك. خد براءة يا بابا.. أنا مش عارفة لما ترجع وتعرف الموضوع ده حتعمل إيه؟ …. أم زينب حالتها صعب قوي يا بابا... قوي... أنا خايفة عليها، صحتها في النازل، وليس في وسعي فعل أي شيء بشأنها. عفاف دخلت العناية المركزة. زينب لسعت... لا... أكتر ماهي لاسعة أصلا، أنا كنت فاكرة إنها لما تلسع فوق لسعانها العداد حيصفر ويمكن تعقل... بس دي واصلة لمرحلة ما بعد الحداثة. أصحابك... لك أصحاب كثر لا ينسونك أبدا... وأصحاب متألمون دوما ويخفون ألمهم عني حتى لا يزيدوا ألمي. وأصحاب تشاجروا معك وكانوا يظنونك لا تموت ويمكنهم مصالحتك في أي وقت. وأصحاب يقولون عنك: عم أحمد الله يرحمه... وحين يقولون «الله يرحمه» لا أعلم عمن يتحدثون بالضبط؟ ولك أناس... اللي هم العاهات المستديمة دي... يا بابا أنا ما أقدرش أستحمل ناس تفترس مخي بالطريقة دي. فاكر لما كانوا يستلموك وينزلوا فيك رغي لحد ما تقع نايم؟ أنا ما استحملش... جهدي على قدي. صحيح يا بابا... أتعلم من فاز بجائزة أحمد فؤاد نجم لشعر العامية؟ مصطفى إبراهيم... مصطفى بتاع فلان الفلاني اللي كنت كل شوية تشتمه من فرط الإعجاب. آه والله... مش كده؟ أنا كنت متأكدة إنك حتفرح. على فكرة الواحد محرج قوي من نجيب ساويرس، الراجل ده عمل لك أكتر حاجة تفرحك، جائزة شعر العامية، ولدي أمل أن تصبح جائزة أحمد فؤاد نجم لشعر العامية هي الأكبر في العالم، وطلع مخلص بجد، ومش مستفيد منك بحاجة، وأنت معرفتك تشبه يا بابا ما تفيدش، وأنا الصراحة كنت زمان نزلت عليه حتتك بتتك... الواحد مش عارف كده، ساعات كده تاخده الحمية، هو أنا عملت معاه كده ليه؟ يعني لازم كنت أطلع عليه كراسات لينين اللي باسل رمسيس سلفها لي أقراها؟ يالا بقى أهو نصيبه... بس أنا شكرته بقى... والله. بالنسبة لمصر... إيه بقى؟ إيه التدبيسة دي؟ باقولك إيه.. مافيش أمل على فكرة.. وأوعى أسمعك تقولي: ما تخافيش على مصر يا نوارة... أنا شوفتك في المنام وأنت بتقولي: يا مصر أنت اللي باقية وأنت أصل الأماني. لكن لا تقل لي: ما تخافيش على مصر... ولا أخاف ولا أنيل... هي حرة بقى، يعني أنا حاخاف عليها أكتر ما هي حتخاف على نفسها، خليها على هواها. لكنني تورطت، بشدة. وآن لك أن تعود لتحمل عني تبعات هذه الورطة. بابا... كان يجب عليك أن تفكر مليا قبل أن تقدم على خطوة كهذه. الأمر لا يحتمل المزاح، ولا يقف عند كونه «طق في مخك» فقررت أن تنفذه.. كان واجب عليك أن تراجع من حولك على الأقل، وعلى فكرة، مايكل عادل قال لي عما قلته أنت، ولو كان قال لي وقتها لكنت اتخذت معك إجراء شديد اللهجة، لكنه للأسف أخبرني بعد أن نفذت ما عنّ لك... قال لي إنك قلت له: أنا لو مت دلوقت مش حازعل.. فأجابك: بعد الشر يا عم أحمد احنا اللي حنزعل.. فقلت له: ما تزعلوا ولا تتفلقوا المهم أنا مش حابقى زعلان!!! كده؟ بقى هي كده؟ وبالطبع لم تجرؤ أن تتحدث بحديث لا مسئول كهذا أمامي، لكنك قلته لمايكل، وأنا عاتبة على مايكل لإنه لم يخبرني وقتها، ولو كان أخبرني لكنت تصرفت التصرف اللازم. يا بابا.. لقد تحملت فوق طاقتي في العام الماضي، ولا أظنني أستطيع استكمال الحياة بهذا الشكل، وأظن إنه حان الوقت كي تعود وتتحمل مسئولياتك.