«أكاديمية الشرطة» تنظم ورشة تدريبية عن «الدور الحكومي في مواجهة مخططات إسقاط الدولة»    رئيس جهاز العبور يتابع سير العمل بمشروعات الطرق والمحاور    مخاوف من توقف محطة المياه عن العمل في غزة    فاينانشيال تايمز: إسرائيل مصرة على تحدي العالم بعد أسبوع من الضربات الدبلوماسية    «الداخلية»: ضبط مخدرات مع شخصين بالقاهرة بقصد الإتجار    ارتفاع درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف حالة طقس الغد    حبس سفاح التجمع لاتهامه بقتل 3 سيدات ورمي جثثهم على الطريق الصحراوي    داعية: الصلاة النارية تزيد البركة والرزق    هل من حق الشاب منع خطيبته من الذهاب للكوافير يوم الزفاف؟ أمين الفتوى يرد    وزير الري: مشروع الممر الملاحي بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط يخدم الدول الإفريقية    د. مصطفى يوسف اللداوي يكتب // إسبانيا تستل سيفاً أندلسياً صدئَ أصله في بلاده    يوم الحسم في 3 قارات.. 7 نهائيات في اليوم العالمي لكرة القدم    منافسة قوية بين الأهلي والترجي لتعزيز رقم تاريخي.. «غير اللقب»    الصحة: إصدار 290 ألف قرار علاج على نفقة الدولة بتكلفة تجاوزت مليارا و713 مليون جنيه    السيسي للمصريين: نخفف الأحمال ولا نضاعف فاتورة الكهرباء 3 مرات؟    توقيع 3 مذكرات في الري والثقافة والتجارة.. 22 مسؤولًا من أذربيجان يزورون مصر    متروكة ومتهالكة في الشوارع.. رفع 32 سيارة ودراجة نارية بالقاهرة والجيزة    تعرف على المحطة الخامسة لمعرض "رمسيس وذهب الفراعنة" في أوروبا    أحمد العوضي: أصيبت باختناق بسبب مشهد الحريق في «حق عرب»    لأول مرة.. وزير المالية: إطلاق مشروع تطوير وميكنة منظومة الضرائب العقارية    سفير اليونان من جامعة الإسكندرية: حريصون على التعاون العلمي والبحثي مع مصر- صور    المفتي: لا يجب إثارة البلبلة في أمورٍ دينيةٍ ثبتت صحتها بالقرآن والسنة والإجماع    محمد علي يوضح سنة مهجورة بعد الوتر    وفد لجنة الإدارة المحلية بالنواب يتوجه فى زيارة ميدانية لمحافظة البحر الأحمر    12 حدثًا يلخصون أنشطة التعليم العالي خلال أسبوع    وزير الدفاع الأمريكي يستأنف عمله بعد خضوعه لإجراء طبي    "المقاومة الإسلامية بالعراق" تعلن قصف "هدف حيوي" بإيلات    الأهلى ضد الترجى.. بطل تونس يعلن جاهزية بن حميدة لمواجهة الليلة    أستاذ زراعة: اهتمام غير مسبوق بالنشاط الزراعي في الجمهورية الجديدة وطفرة في الصادرات    منى زكي تدعم فيلم رفعت عيني للسما بعد فوزه بجائزة العين الذهبية في مهرجان كان    4 صور جديدة تظهر رشاقة شيماء سيف بعد خسارة 50 كيلوجراما من وزنها    وزير الخارجية يقوم بزيارة الي بيت مصر بالمدينة الجامعية في باريس    للذكور والإناث.. بدء اختبارات القبول للدفعة العاشرة من معاوني الأمن (التفاصيل والشروط)    عاجل.. صدمة مدوية للشناوي بسبب نجم الزمالك    "كولر بيحب الجمهور".. مدرب المنتخب السابق يكشف أسلوب لعب الترجي أمام الأهلي    إنبي يكشف حقيقة انتقال أمين أوفا للزمالك    جامعة المنيا تنظم قافلة طبية لقرية دلجا    برنامج تدريبى حول إدارة تكنولوجيا المعلومات بمستشفى المقطم    كل ما تُريد معرفته عن مادة "البرازين" البديلة للسكر وأهم فوائدها    أسعار الذهب صباح اليوم السبت 25 مايو 2024    حبس سائق دهس شخصين في النزهة    صباحك أوروبي.. عهد جديد لصلاح.. صفقات "فليك" لبرشلونة.. وغموض موقف مبابي    الصين تعلن انتهاء مناوراتها العسكرية حول تايوان    إصابة 25 شخصا فى حادث انقلاب سيارة ربع نقل على طريق بنى سويف الفيوم    إحالة عاطلين للجنايات في حيازة أسلحة نارية بالزاوية الحمراء    نصائح الدكتور شريف مختار للوقاية من أمراض القلب في مصر    متصلة: أنا متزوجة وعملت ذنب كبير.. رد مفاجئ من أمين الفتوى    Genesis Neolun| الكهربائية الفاخرة.. مفهوم يعبر عن الرفاهية    ليست الفضيحة الأولى.. «الشاباك» الإسرائيلي أخطأ مرتين في نشر صورة إعلامي مصري    عيد الأضحى 2024 الأحد أم الاثنين؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    إطلاق مئات الآلاف من البعوض المعدل وراثيا في الهواء    حظك اليوم| برج القوس 25 مايو.. تأثير في الحياة العاطفية والاجتماعية    استعلم الآن.. رابط نتيجة الصف الخامس الابتدائي 2024 الترم الثاني بالاسم والرقم القومي    "كان يرتعش قبل دخوله المسرح".. محمد الصاوي يكشف شخصية فؤاد المهندس    وزيرة الثقافة تهنئ فريق عمل رفعت عينى للسماء ببعد فوزه بالعين الذهبية فى مهرجان كان    المدارس المصرية اليابانية تعلن بدء التواصل مع أولياء الأمور لتحديد موعد المقابلات الشخصية    مواعيد مباريات اليوم السبت والقنوات الناقلة، أبرزها مواجهة الأهلي والترجي في النهائي الإفريقي    عمرو أديب عن نهائي دوري أبطال إفريقيا: عاوزين الأهلي يكمل دستة الجاتوه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض من ذكرياتى
رشدى سعيد النيل.. وتوشكى.. وطرابيش العساكر
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 12 - 2014

«إحنا بنحب الراجل العجوز اللي بتستضيفه يا دكتور» هكذا زقزق وشقشق حولي عشرات البنات والأولاد الذين كانوا جزءاً من حضور برنامجي التليفزيوني (حالة حوار)، وكنت قد لاحظت محبتهم لأسطورة الجيولوجيا الدكتور رشدي سعيد واقبالهم علي التقاط الصور معه عبر الهواتف المحمولة في نهاية كل حلقة أستضيفه فيها،ولكنني لم أتصور أن تكون كل معرفتهم بهذا العملاق هي أنه:(رجل عجوز) !!
كانت تلك المسألة نقطة إشارية دالة علي انحطاط المستوي الثقافي لجيل يمتلئ بالنوايا الطيبة،وبالرغبة في الترقي ولكن أحداً لم يمد اليد ليصنع منه شيئاً أو يلقي في عقله ووجدانه بعض إجابات علي أسئلة كبري يصطخب بها فضاء الوطن العظيم الذي يعيش أولئك الأولاد والبنات في إطاره ولا يعرفون عنه شيئاً، فمضوا يتخبطون مثل كتل طافية تدفعها مياه نهر صاخب مندفع، واعترتهم حيرة ربما أعرف- أكثر من غيري- مداها.
وأحد جوانب تلك الأزمة هي مطالباتهم التي عج بها البلد وغص منذ قبل يناير 2011 وفي أعقابه، بضرورة تمكينهم من المواقع القيادية في الدولة .. هكذا .. من دون أن يدفعوا فواتير تلك الكراسي أو المناصب التي يريدونها من علم يتحصلوه أو ثقافة يمسكون بتلابيبها أو إبداع يعبد طريقاً إلي تحقيق حلمهم الإنساني وآمال الوطن الذي يحيون علي أرضه، يعني يريدون سلطة بلا مسئولية وكراسي بلا معايير ومكانة بلا مجهود.
وقد شهد ذلك الملف أحقر عملية استغلال لأولئك الشباب من جانب بعض الفصائل السياسية التي تحاول- هذه الأيام- الضغط علي الدولة بكل ما تملك من أدوات، أو بكل ما تقدر علي تصنيعه واختراعه من روافع، فصار نفر من المنافقين يلقون في روع أولئك الشباب أنهم مظلومون، اضطهدتهم الدولة ولم تسمح لهم باحتلال مكانات تليق بهم تحت الشمس أو تحصل ما يستحقون من رفعة، بينما هم يقبضون علي رخصة العبور إلي المجد لأنهم (شباب) .. فقط لأنهم (شباب) .
في كل محك يتم فيه اختبار قدرات الكتلة الأوسع من ذلك الجيل نكتشف حجم الأمية المعرفية التي خيمت عليه، التي دفعت بعضه أن يحب د. رشدي سعيد لأنه «رجل عجوز طيب» فحسب!
لم تقرر مدارسنا وجامعاتنا الخربة كتاب (النيل) الذي سطره ذلك المفكر الظاهرة علي أبنائنا وبناتنا حتي يعرفوا شيئاً عن السبب الرئيسي الذي يبقي وطنهم حياً، وحتي يهندسوا من وجداناتهم علي نحو يربطهم بذلك النهر، ويدركوا قيمته وأهمية الحفاظ علي مصالحنا فيه وتعظيمها إن تيسر.
اكتفينا- فقط- ببعض أنشطة (الهلس الثقافي) حين تعاقدت وزارة الري مع وزارة الثقافة علي نشر الثقافة المائية في البلاد، فيما لم تفلح وزارة الثقافة أو وزيرها في نشر أي شىء بكفاءة وفعالية وعلمية .. أكرر (علمية)، وكانت النتيجة هي إنصرام الأيام من بين أصابع يد الوطن كالرمال فيما تزداد خطورة المواجهات التي يمر بها البلد، ووزير الثقافة يتكلم ويتكلم، ثم يوقع البرتوكولات، ويحول الحالة الثقافية في مصر إلي (ظاهرة صوتية).
إن أيا من خبراء وزارة الري العريقة في مصر قادر علي مخاطبة الناس بطريقة أكثر فعالية عن الثقافة المائية، ومن خلال وزارة الإعلام التي يحاول جابر عصفور أن يتمدد مهيمناً علي دورها وقد صارت بلا صاحب، وربما أتذكر – هنا – سطر الإهداء في كتاب (نهر النيل) لرشدي سعيد، إذ كان لشقيقه نجيب فهمي سعيد الذي أمضي عمره – كله – في خدمة الري.
لدينا خبراء يستطيعون إفشاء الوعي المائي وإذاعته وإشاعته في العقل الجماعي للشعب ولشبابه، بدلاًمن ذلك الرغي الذي يمارسه وزير الثقافة فيبقينا – جميعاً – أسري دوائر عدم الجدوي، وعدم الإمكان.
وحين أذكر كتاب (نهر النيل) لا أستطيع منع نفسي من تحية الأستاذ مكرم محمد أحمد الكاتب العتيد الذي حمل مشروعه المهني علي ذراعه منذ بواكير الصبا وحتي اشتعل الرأس شيباً (وقد إكتسي رأسه البياض مبكراً جداً علي أيه حال) ولم تسنده دولة أو جوقة من رجال الأعمال أو دولة أجنبية، وإنما عمله المهني وقدرته اللانهائية علي الإبداع.
نشر الأستاذ مكرم كتاب (النيل) عن دار الهلال عام 1993، لأنه فهم الدور الرسالي لمؤسسته الصحفية والذي لا يكترث – كثيراً – بالربح التجاري، وهو مالا تضمنه تلك النوعية من الكتب..
فهم الأستاذ مكرم ضفيرة الدور الثقافي والدور الوطني والدور المهني للصحافة، فجعل من دار الهلال الفقيرة منارة حقيقية علمت الناس ونورتهم، ولو احتل ذلك الرجل مكانه الطبيعي في مشهد الصحافة المصرية ومسيرتها لاختلف واقعها الحالي، وربما لتحولت إلي قاطرة تشد المجتمع كله إلي حيث كان يجب أن يكون.
استبقت معرفتي بكتاب رشدي سعيد لقائي الأول معه في مكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل عام 2000 (قبل أن تتسع رقعة خلافي معه لتبلغ – هذه الأيام – درجة حرجة)، وفي تلك الجلسة التي تناولنا فيها أقداح قهوة البن الغامق المحوج، قدمني الأستاذ هيكل إلي رشدي سعيد طالباً منه بأن أكون في رعايته حين أصل واشنطن التي كنت علي سفر وشيك إليها لأزاول مهام سيتصل بي فور وصولي عن طريق د. فايز صليب المسئول الإداري والمحاسبي لمكتب الأهرام.
وبالفعل كانت أول مهاتفة تلقيتها حين وصولي إلي العاصمة الأمريكية هي من الدكتور رشدي سعيد، الذي بات التهاتف معه أو رؤيته روتيناً يومياً طوال سنوات وجودي في أمريكا، وأسعدتني الأقدار بتلك العلاقة المعلمة الرائعة التي امتدت ساحاتها لتشمل التعدين والبترول والفن والموسيقي والصحافة علي نحو أكد – من جديد – لي فرضية تكاملية معرفة وثقافة الجيل القديم الذي لم يعزل نفسه في معتقل تخصصه، وإنما راح يبني هرم ثقافته الشاهق بأحجار اقتطعها من محاجر متباينة الطبيعة والألوان.
وعلي الرغم من اكتظاظ تفكيري بأسئلة كثيرة عن الولايات المتحدة، التي كنت – في ساعات وجودي الأولي بها – أحاول تحديد نقطة البدء للدخول إلي حالتها السياسية والثقافية والمزاجية، فإن (النيل) كان واحداً من أول الموضوعات التي تحدثت فيها مع الدكتور رشدي سعيد، وأنصت إليه يتحدث عنه بلغة رصينة سلسلة، وتابعت بعض محاضراته في مركز (الحوار) الذي يرأسه صبحي غندور في أمريكا يلقي نصوصاً مكتوبة عنه أكثر رصانة وسلاسة (أحتفظ بأحدها – حتي الآن – بخط الدكتور رشدي).
عرفني الجيولوجي العملاق بشلته الصغيرة التي ضمت الدكتور فوزي هيكل – رحمه الله – وهو شقيق الأستاذ محمد حسنين هيكل، وأعاد الوصل بيني وبين الأستاذ محمد حقي زميلنا القديم جداً في الأهرام، والرئيس الأسبق للهيئة المصرية العامة للاستعلامات، والذي – في سياق آخر – عرفني بفرانك وزنر سفير الولايات المتحدة الأسبق في القاهرة، وهو من كاد أن يلعب دوراً مؤثراً وخطيراً وسط أحداث يناير2011 لولا غلبة جناح ذي طبيعة سياسية معينة علي قرار إدارة أوباما بإزاء تلك الأحداث.
وكثيراً إلتقيت أعضاء تلك الزمرة الفريدة في محل إسمه (كوستا) في واشنطن، وكنا نلتهم عنده بعض قطع الكنافة اليونانية الرائعة، ثم نشعر – جميعاً – بالندم جراء الآثار الصحية المتوقعة جراء استسلامنا لأوامر الشراهة وإلزامات النهم.
كان (النيل) حاضراً في علاقتي بالدكتور رشدي كفقرة ربط ووصل بين كل مفردات حوارنا، وفي تبادلية مدهشة كنا نتنقل بين النيل (نهراً) والنيل (كتاباً)، فمرة نتحدث عن النهر الفريد الذي حمل جزءا من مياه افريقيا الإستوائية إلي البحر المتوسط، ومرة يحكي الرجل لي عن كتابه الذي وضعه أساساً باللغة الإنجليزية، ثم نشرت دار الهلال ترجمته العربية باتفاق مع دار برماجون للنشر – أكسفورد إنجلترا، وهو واحد من عشرين ألف كتاب ودراسة عن النيل في التراث الإنساني.
لم يتخل الدكتور رشدي – البتة – عن روح الخوجة، وكان يتدفق في حديثه كمثل مياه النهر الحمراء التي كانت تمر ببلدته في أسيوط صيفاً، والتي حملته للمرة الأولي في رحلة خارج الصعيد استكشف فيها أفقاً جديداً وتطلع إلي حوار متجدد مع الصخور والرمال والمعادن والمياه في جوف أرض لم تفصح – بعد – عن كل أسرارها.
وعلي مرحه وخفة دمه، فقد كانت ملامح وجهه تكتسي – أحياناً – بعض مرارة ونصف سخرية حين يتذكر قراراً تعساً للرئيس أنور السادات أراد فيه القبض عليه ضمن قوائم اعتقالات سبتمبر 1981، وهو ما نجح في الإفلات منه باعجوبة ليقضي العقود الباقية من عمره في ولاية فيرجينيا بالولايات المتحدة.
وعلي أي حال فإنه كان لا يلبث يرتد بسرعة إلي طبيعته المفعمة بالحيوية ليعاود حديثه عن تاريخ النهر واستخدامات مياه النيل، ومشروعات التخزين المستمر في أعالي النيل، وعن مشروع السد العالي، ومستقبل استخدامات نهر النيل، ثم يعود فيستدعي مفردات تاريخية عن شكل الدلتا والوادي قبل أن يسويهما الإنسان حقولاً منبسطة تجري فيها الترع المتشابكة.
وقد حدثني الدكتور رشدي حول دراسة مشتركة عن النيل أجراها في جامعة هارفارد مع عالم البيئة الألماني الشهير فريد وندورف، وبحيث تكاملت رؤية العالمين (البيئية) و(الجيولوجية) في دراسة النهر القديم والعجيب.
وربما ظلت أفكار تلك الدراسة – كما حكي لي عنها د. رشدي – تحتل دماغي حتي أعددت حلقة بعد ست سنوات من برنامجي التليفزيوني جمعت فيها عملاقين لم يجتمعا اعلامياً أبداً، لا بل ولم يظهر أحدهما منفرداً إلا معي، وهما الدكتور رشدي سعيد، والدكتور محمد عبد الفتاح القصاص، وغطي حواري مع الرجلين (لمدة ثلاث ساعات) كل ما يتعلق بشخصية مصر (جيولوجياً) علي لسان د.رشدي و(بيئياً) من خلال كلام الدكتور القصاص.. يعني قمت بتكرار نموذج (فريدوندورف / رشدي سعيد) في هارفارد من خلال برنامج تليفزيوني مصري حل فيه القصاص (الأكثر معرفة بمصر وبفرضيات رشدي سعيد في دراستها) مكان العالم الألماني.
وضمن ما طرحت علي الرجلين في ذلك التوقيت – ما عُرف باسم (ممر التنمية) والذي يعاود الدكتور فاروق الباز طرحه مع كل رئاسة جديدة لمصر، واستضفت د. الباز علي القمر الصناعي من هيوستون ليحاوره العالمان الكبيران حول مشروعه، ويقدمان إعتراضاتهما الكاسحة ضد ذلك المشروع، وهو ما لم يناقشه أحد في عصر الرئيس مبارك، وفي كل عصر تلاه، إذ – دائماً – يطرح علينا ذلك المشروع وكأنه حتمية تاريخية واجبة التنفيذ من ساعته وتاريخه من دون حوار علمي أو مجتمعي عام.
لا بل لم أسمع أن أحداً في التليفزيون الرسمي (الذي يملك حقوق حلقات حالة حوار) قام باعادة بث تلك الحلقة التاريخية الفريدة التي لم يتكرر لها شبيه، ليسهم في تنوير مصر الجديدة حول المشروع الذي توشك علي التورط فيه.
وأزيدكم – هنا – من الشعر بيتاً فأقول إن رشدي سعيد وعبدالفتاح القصاص اتفقنا في تلك الحلقة علي ضرورة المناداة بوقف تصدير الغاز المصري إلي (إسرائيل أو غيرها) والاحتفاظ بتلك الثروة لمصلحة الأجيال القادمة، وقد اتفق مع الأستاذين عدد من خبراء البترول والصحراء والبيئة دعوتهم كضيوف مساعدين في تلك الحلقة.
ملأ الدكتور رشدي سعيد دنياي في الولايات المتحدة، وكنت أتنسم أخبار سفر السيدة الجليلة قرينته د. وداد فرحات أستاذ علم الاجتماع لموسم محاضرات في نيويورك أو غيرها من الولايات، حتي أنعم بمزيد من صحبته طيلة أيام غيابها، لا بل كنت أسرع إلي إمتطاء صهوة سيارتي لأذهب إلي بيت المفكر الأسطورة حتي لو كان ارتفاع الثلوج نصف متر، لأدخل مهرولاً إلي المنزل وأخلع القفازات والمعطف والكوفية وطاقية الثلج (آيس كاب)، وأهرع إلي الثلاجة لأخرج حلة شوربة العدس التي أعدتها وداد لزوجها قبيل مغادرتها، وأشرع في تسخينها ونبدأ أنا والدكتور رشدي في إحتسائها، وكثيراً ما كنت أهاتفها بعد الفروغ من جريمتي لأطالبها بزيادة كمية شوربة العدس في المرات القادمة، وضرورة التحسب إزاء إغاراتي علي الثلاجة، والتي إستمتعت فيها بكل قطرة من شوربة العدس التي تجهزها تلك المرأة الصعيدية، حتي خلت أن ما ربط بينها والدكتور رشدي لم يك نهر النيل الذي يفصل بين بلديتهما في أسيوط، ولكنه كان – قطعاً – نهراً من شوربة العدس!
كثيراً اصطحبني د. رشدي سعيد إلي عروض فنية كبري في قاعة كينيدي الشهيرة في واشنطن، أو في بعض المراكز العربية التي تحضن عروض أبناء الجاليات وبالذات من اليساريين، وأحدهما كان معرضاً بديعاً للفن التشكيلي أطلقته فنانة مثقفة مصرية هي مني البيومي، وأذكر أن الدكتور رشدي كان في قمة سعادته وهو يراقب د. فوزي هيكل يخبط بحذائه علي الأرض في مرافقة أنغام وإيقاعات موسيقي مارسيل خليفة التي عزفتها في ساحة معرض اللوحات فرقة من زوج وأبناء مني البيومي، لا بل أنخرطنا – جميعاً –معه نشدو بكلمات تلك الأغنية الإثارية اللاهبة.
ولقد عمدت إلي تسجيل وتدوين أجزاء كثيرة من حواراتي من د.رشدي سعيد في الولايات المتحدة، ولما عدت إلي القاهرة عقب عملية قلب مفتوح أجريتها في مركز واشنطن، وبعدما بات من المتعذر بذلي نفس المجهود الذي تعودته في عملي كمدير مكتب، أصبحت صاحب حق في جزء من برنامج زيارة الدكتور رشدي سعيد والدكتورة وداد فرحات السنوية إلي مصر في عيد 7 يناير وما حوله، فكنت – عادة – أدعو إلي عشاء يضم بعضاً من أصدقاء ومحبي الدكتور رشدي ومنهم د. جلال أمين ومنير فخري عبد النور، ونبيل زكي ود. محمد كمال (الذي كان تلميذاً لصيقاً بالدكتور رشدي وقت دراسته في أمريكا) وكذلك بعض تلاميذه في كلية العلوم، وهيئة المساحة المصرية التي كان رئيسها لفترة .. كما كنت أقتطع بعضاً من زمن الزيارة السنوية للدكتور رشدي كي أسجل معه حلقة من برنامجي التليفزيوني،وقد تعددت مواضيع تلك الحوارات بين شخصية مصر) و(تجربة حياته) و(الأقباط) وهو الموضوع الذي قدم لي فيه رؤية فريدة حكي فيها قصة تعرضه لذلك الملف من خلال عضويته في لجنة الدكتور جمال العطيفي لدراسة الوضع الطائفي في مطلع السبعينيات.
واقطتفت – هنا- بعضاًمن نصوص أحاديثي مع الدكتور رشدي سعيد التي كانت – بالنسبة لي – لوحات عشق لمصر، (الأرض أولاً) طبقة وراء طبقة، و(النهر ثانياً)نقطة إلي جوار نقطة، و(البشر ثالثاً) قلب إلي جوار قلب وعقل إلي جوار عقل.
كان الدكتور رشدي متصالحاً مع نفسه ينظر إلي تقدم البلد الذي ينبغي أن يكون مثل النيل .. قاطرة عملاقة حملت مياه وسط أفريقيا إلي المتوسط، ولم يفعلها نهر آخر، وربما لم أجده غاضباً علي شخص، قدر كاتب يدعي زغلول النجار كان ينشر مقالاً أسبوعياً في الأهرام، ولما سألته عن سر غضبه الدائم علي ذلك الشخص، أجابني أنه كان زميله في كلية العلوم – جامعة القاهرة – وفي الوقت الذي كان د. رشدي يقود تلامذته إلي التنوير والتفكير الإبداعي الحر، فإن زغلول النجار قاد تلامذته إلي التطرف الديني، وأسلمهم إلي قبول الأرتباط بجماعات الإسلام السياسي .. وكان د. رشدي لا يفتأ يحدثني متسائلاً عن السبب الذي من أجله استكتبت «الأهرام» زغلول النجار، والحقيقة أنني لم أجد – أبداً- إجابة.
الظاهرة الوجدانية التي ربطتني وشقيقي بنهر النيل، هي الإلتصاق بأرض مصر، وربما أكون دخلت مهنة الجيولوجيا لهذا الغرض، وأعتقد أنها من المهن الجميلة جداً التي تدفعك للإقتراب من الأرض ومن الطبيعة .. أما شقيقي فقد دخل إلي النيل من بوابة هندسة الري، فقد كان مهندساً مدنياً، ثم مهندساً للري، وهو محب عاشق للنيل يعرف النهر – ربما– أكثر مني !.. وحين أتحدث عن النيل تعبر بذهني أخيله وأطياف عن شكل هذا النهر في الصعيد، حيث بلدنا (القوصية)، وبلدة زوجتي (أبنوب) .. عند مدخل محافظة أسيوط يتسع مجري النهر وواديه، ويصبح وكأنه يفضي إلي عالم رحب كبير، وتترامق البلدتان، واحدة علي هذه الضفة، والأخري علي تلك .. كنت أعاود الصعيد مع والدي الذي عمل بالسكك الحديدية، فأجد القطار يخترق البيوت والعشش والأخصاص مثل نهر النيل بالضبط !!
وقلت له مرة:» في شخصية مصر يري جمال حمدان أن مصر من أعلي حوض عند جبل السلسلة في أسوان إلي أدني حقل في (الجزيرة الخضراء) عند المصب، هي سلسلة متصلة الحلقات متكاملة هيدرولوجياً ووظيفياً، يتفاعل الماء بين أجزائها المختلفة، كما لو في أوان مستطرقة، فلا يمكن أن تخطط لمشاكل الماء فيها تخطيطاً محلياً بل لابد أن تعالج كوحدة هيدرولوجية واحد، وإلا إختل فيها ذلك التوازن الإيكولوجي الحرج الدقيق، وبالتالي إختلت فيها عناصر الحياة، بمعني آخر أنها غير قابلة للتجزئة، ولا يمكن أن تدار أو تحكم كعدة وحدات مستقلة ..
وفي كتابك – يا دكتور رشدي – (نهر النيل) تشير إلي أن إتصال النهر مع افريقيا أصبح ضعيفاً ومتقطعاً في الأربعمائة ألف سنة الأخيرة .. هل تعتقد أن لهذا علاقة بضعف البعد الافريقي في الشخصية المصرية،وبعدم ميل المصريين لأن يمدوا أواصر ارتباط حضاري وإنساني حقيقي إلي الجنوب .. بعبارة أخري هل باتت تلك الوحدة المركزية التي يخلقها النيل في مصر عوضاً عن الوحدة التي يمكن أن يخلقها النيل في دول الحوض؟»
وأجابني د. رشدي علي سؤالي الطويل بقوله:
«كانوا خائفين منا .. وكنا خائفين منهم أكثر».
ولكن الدنيا تغيرت .. وميكانيزمات العالم تغيرت ولا تستطيع القول إن ما حدث في العالم يمكن تكراره .. الجنادل التي تكلم عنها جمال حمدان هي مثل جبل السلسلة/ وهو مضيق صغير يضيق النيل فيه جداً، ولكن بعد ذلك يتسع النهر وتصبح الحركة فيه سهلة رائحة غادية باستخدام الشراع .. الجنادل جعلت الحركة والإتصال في درجة كبيرة من الصعوبة مع أفريقيا، وقد كان هذا العائق موجوداً في الماضي، أما الآن فهناك سيارات وطائرات وقطارات .. لقد كسر محمد علي ذلك الحاجز بين مصر والسودان، أما التعويق الجغرافي فقد ظل قائماً حتي كسرته وسائل النقل الحديث، ففي مذكرات تشرشل قال أنهم حين أرادوا أن يتغلبوا علي حركة المهدي، كان من أصعب ما يكون أن يذهبوا إلي السودان عبر النيل، ولذلك أنشئت شركة سكك حديد حلفا / أبو حمد لهذا الغرض ولتفادي جنادل النيل .. النوبة كانت منطقة جرداء لعبت دوراً مهماً في حياة مصر، إذ حققت حمايتها من كل أمراض أفريقيا الاستوائية، لأنها كانت حاجزاً أو بمثابة منطقة عازلة تعقم أجواء وبيئة مصر من التسي - تسي والملاريا، وقد تكون عزلت – ضمن ما عزلت – المؤثر الأفريقي في الشخصية الوطنية، ولكن ربما كان ذلك تاريخاً وانقضي، فالحركة الآن سهلة جداً .. قديماً في هذه المنطقة أو في الدولة الوسطي، كانت هناك منطقة إسمها (سمنا) – بكسر السين- وقد كتبت عنها في كتاب (نهر النيل)، وهذه المنطقة كانت أول منطقة في التاريخ تشهد إستخدام باسبور وفيزا أو تأشيرة دخول، فلم يكن هناك من يستطيع دخول مصر جنوباً إلا بتأشيرة دخول يبرزها علي بوابة (سمنا)، وهي عبارة عن قلعتين في مواجهة بعضهما البعض، واحدة ناحية الشرق، والأخري ناحية الغرب، يعني شديدة الشبه ببوابات وحواجز الحدود الحالية في كل مكان،وقد إختار المصريون القدماء إقامة تلك البوابة في أضيق منطقة من النيل وكان هناك سدا طبيعي فيها يمنع التسلل .. وهذا يقول أنه – باستمرار – كان هناك خوف من أفريقيا، أما الذي ساعد علي الاقتراب والتمازج فهو – كما ذكرت – وسائل الإنتقال الحديثة «».
وفي جلسة أخري جمعتنا في « واشنطن هاربر» عن لي أن أسأل الدكتور رشدي سعيد عن مشروع توشكي الذي كان ضجيج كبير يدور حوله في بداية القرن، ومازال ذلك الضجيج يتواصل، فقلت له:»رؤيتك لتوشكي المعارضة لذلك المشروع صارت مبثوثة علي كل الأقنية في مصر .. هل حاولت – يوماً – تأمل وجهة النظر الأخري ؟»
وأجابني الرجل المهيب الذي يبدو وجهه نحتاً من الجرانيت أو من حجر البازلت :
«لم أهتم بوجهة النظر المؤيدة للمشروع، ولكنني ذهبت – بنفسي – لأري ما يحدث هناك .. قليل من الناس يعرفون تلك المنطقة، ولذلك فقد آثار المشروع خيال الأغلبية التي لا تعرف .. وحتي – إقليمياً- فإن هذه منطقة معزولة، ولو نجحت فيها فسيكون نجاحك – فقط – في خلق واحة خضراء صغيرة في الصحراء ممتدة من شاطئ المحيط الأطلنطي حتي البحر الأحمر .. من الصعب تصور عمل إنجاز حضاري هناك، ولقد غضب مني الأديب جمال الغيطاني وقال لي :( كيف هذا .. إن توشكي هي أملنا) لمجرد أنني طرحت رأي .. أنا لا أفهم وجهة النظر القائلة بفتح آفاق جديدة، ولكنني كنت أري ما أوضحته له بشأن هذا المشروع، وهو ما بدأت بعض الدوائر الرسمية تكتشفه حول ذلك المشروع.
لقد ذهبت إلي توشكي زمان – في شبابي – وهي أرض (بلقع) لقدكانت المكان الذي دارت فيه معركة عظمي بين المهدي والقائد البريطاني جرينفيل، وعندما وصلت إليها في أواخر الخمسينيات وجدت بقيا متناثرة وطرابيس عسكر في كل مكان .. بيني وتلك المنطقة تاريخ شخصي فقد كنا نحفر، ووجدنا فيها بقايا مستعمرة قديمة فيما قبل التاريخ، وقد لفت ذلك انتباهنا، وبدأنا ندرسها، فوجدنا إرتفاعها منخفضاً عما كان مقرراً أن يكون عليه خزان السد العالي (بحيرة ناصر)، فإنزعجت أشد الإنزعاج، فقد كان معني أن تكون توشكي أكثر إنخفاضاً عن المكان الذي سنخزن فيه الماء أن تتبدد المياه في الصحراء إذا زادت، وذهبت إلي أسوان كي أري الخرائط فلم أجد أحد سوي بعض صغار الموظفين، وكان زكريا محيىالدين رئيساً للوزراء وقتها (1964)، فذهبت إلي بيته وشرحت له الموضوع، فاتصل بصدقي سليمان وزير السد العالي، وقال له : نحن – فعلاً – ليس لدينا خرائط، ولكننا سنطلب من اليوغسلاف أن يضعوها لنا، ورسمت الخرائط فعلاً، وثبت أن تلك المنطقة منخفضة عن خزان السد العالي، فقللوا طاقتها علي التخزين من 181 إلي 178 متراً)»
وعاجلت الدكتور رشدي بالتساؤل: «حدثني عن البدائل.. قل لي – إذن – ما هي البدائل التي تطرحها بعدما وصل المشروع إلي هذه المرحلة؟» .. فأجابني من فوره :»إزرع تلك المنطقة بالآبار فهناك مياه جوفية في توشكي أرخص بكثير .. الناس عندما يكونون مشغولين بمشاكل الحياة اليومية لا يرون إلا الصف الأول من أشجار الغابة، فالمهندسون الموجودون هناك مشغولون بالمشاكل الصغيرة التي أمامهم مثل حل أزمة الترعة التي تخترق الصخور، وكيف يتم تبطينها، علي حين لم يفكر أحدهم أن ذلك كله يمكن حله بالآبار.»
وخطر لي أن أهزل في موطن الجد ففاجأت الرجل بقولي:» د. رشدي .. للنيل أغان كثيرة (النيل نجاشي – يا نيل يا أسمراني – شمس الأصيل يا نيل) أيها الأقرب إلي قلبك أم أنك تحب الغناء للآبار؟» وضحك الرجل مجيباً.. « النيل نجاشي – يا سيدي – ولن أغني للآبار»!!
...........................
وحين جاء مرة لزيارتي في مكتبي في واشنطن ببناية الصحافة الوطنية المواجهة لفندق (ويلارد) أفاض في شرح ما تعنيه أزهار أشجار الشيري فيما يعرف باسم (شيري بلوسوم) والتي تعد رمزاً دالاً علي واشنطن، فقلت له إن ما تتحدث عنه ملئ بإيحاءات فلسفية بما يدفعني إلي سؤالك :»ما هي حدود رؤيتك لساحة (حوار اًلمثقف مع السلطة) و(ساحة حوار المثقف مع الآخر)».
وقال د. رشدي سعيد:» لا أعتقد أن هناك جسوراً قوية أو حتي موجودة بين المثقف والسلطة في كثير من بقاع العالم العربي .. السلطة تخاف من المثقف .. السلطة في العالم العربي – أيضاً – لا تعرف قيمة المثقف، وتنظر إليه بوصفه (غير مطيع) و(غلباوي)، ثم إن السلطة في معظم أجزاء منطقتنا ليس لديها الأفق الواسع الذي يسمح بالنظر إلي قدام لمعرفة ما سوف يحدث بعد 10 – 15 عاماً ، فهي – فقط – مشغولة بحل المشاكل الجارية أو الحالية، وعندما يتحدث المثقفون عن المستقبل تنظر إليهم تلك السلطة بوصفهم حالمين غارقين حتي آذانهم في الخيال .. وأذكر أنني قابلت الرئيس عبد الناصر مرة، فمازحني قائلاً: «كل ما نجيبلك وزير تعمل مشاكل معاه، فقلت له : يا ريس ليس لدي مانع أن أعمل مع أي وزير شريطة أن يكون أحسن مني كما أستطيع أن أتعلم منه شيئاً)، وأكمل الرجل الذي كان عضواً في اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الإشتراكي العربي في عهد الرئيس ناصر: «علي أية حال فإن، بلادنا مليئة بالمشاكل اليومية الصغيرة جداً التي لا تسمح للناس أو لصانع القرارات بالحديث عن رؤية مستقبلية، فالجميع مستهلكون في المشاكل اليومية الصغيرة التي تسد الأفق، وتمنع الوصول إلي الرؤية الواسعة الشاملة الكبيرة، وأمام هذه الخلفية وفوق هذه الأرضية تقل أهمية المثقف وتتضاؤل حدود دوره المفترض إلي حد كبير»
ويضيف د. رشدي :»جزءاً مما جري في العالم العربي إبتعاد المثقفين وانجرافهم بعيداً عن السلطة التي لا تريدهم جعلهم ينصرفون إلي مشاجراتهم البينية المتوحشة، هذا إن كنت تسألني عن حوار المثقف مع الآخر .. عزلة المثقف – هذه – أدت إلي فقدانه قدرة التعبير عن نفسه، وعدم قدرته علي إطلاق طاقاته .. جزء مهم جداً في تقدم أية أمة أن نطلق طاقاتها، حتي لو أخطأ أفرادها، لأنها إن لم تُطلق فسوف يعيش المثقف في حالة مونولوج وليس ديالوج .. وضع (كل واحد في حاله) سيؤدي إلي أن تسير الخيوط كلها بالتوالي، وليس بالتقاطع، بمعني آخر سنجد أنفسنا أمام (فتل) وليس نسيجا»!!
وقلت له :»ألم يلفت نظرك – يا دكتور رشدي – طوال العقد الماضي (كان ذلك الحوار عام 2000) أي نوع من الحوار بين المثقفين؟» فأجاب :»أبداً كل هؤلاء المثقفين يسيرون وراء شعارات» فلما سألته :«هل تقصد الجمود الفكري؟» عاود الإجابة :»ليس الفكري فحسب ولكن – حتي – الجمود السياسي أو الحركي، فخذ عندك – مثلاً – قضية التطبيع التي إنشغل بها الذهن الثقافي والسياسي في مصر والعالم العربي طوال العقد الماضي، ستجد أنهم ركزوا علي من ذهب إلي إسرائيل ومن لم يذهب، وهي قضية لا أهمية لها علي الإطلاق، فهي مسألة شخصية (واحد يريد أن يذهب إلي الآخر لا يريد أن يذهب) .. بينما أري أن قضية التطبيع إذا أردنا إثارتها فيجب أن تكون قي موضوعات مثل (بيع الغاز من عدمه) أو (نقل الطاقة إلي إسرائيل أو عدم نقلها) أو (بيع أنجوتس الألومنيوم إلي إسرائيل أو عدم نقله لتبيعه بعد ذلك سلعاً مصنه أم لا) .. هذه هي القضايا الأساسية، أما مسألة أن يسافر واحد أو لا يسافر فهذا هراء .. المثقفون لم يناقشوا الجانب الحقيقي في القضية لأنهم يريدون التقرب إلي دوائر معينة لهم فيها منافع»
وقلت للرجل :»يا دكتور رشدي المنافع – الآن – تتحقق في خارج السلطة وليس في مربعها» فقال :»غير ممكن»، فقلت :»لا .. يمكن، فهي تتحقق الآن عبر رجال أعمال، والمثقفون المصريون والعرب إستبدلوا السلطة بمعناها السياسي الكلاسيكي المعنوي الذي كنا نعرفه بسلطة المال أو سلطة رجال الأعمال» فقال :» السلطة – أيضاً مهمة يا دكتور عمرو، بل مهمة جداً، وعليك أن تبحث وسط تجمعات المثقفين عن تلك الأهمية وتلك المنافع» وساعتها ضحك من أعماق القلب، قائلاً :» ما تيجي أعزمك علي واحد كنافة عند كوستا»!!
وسألت د. رشدي مرة حين زرته في منزله بالمعادي أثناء إجازة سنوية، لأتفرج علي مجموعته ومقتنياته من لوحات الفن التشكيلي :»كيف تري إشكالية الهوية وانت –بحكم الهجرة- في اشتباك يومي معها، ثم كيف تري نفس الإشكالية في ظل قيم العولمة وانت بحكم الهجرة إلي أمريكا –بالذات- شديد الاقتراب من تأثيراتها؟» فأجابني:» ليس عندي مشكلة هوية .. طول عمري اؤمن بوحدة الحضارة، كنت أحضر مؤتمراً أقيم في جامعة القاهرة بعنوان : مؤتمر جيولوجيا العالم العربي، وطلبوا مني –علي غير ترتيب- أن أترأس الجلسة الأولي الإستهلالية، فجلست علي المنصة، وقدمت أحد زملائي القدامي، وإذا به يلقي محاضرة طويلة عن إهتمامات (إخوان الصفا) في علم الجيولوجيا، وكنت كتبت ورقة علمية في هذا الموضوع عام 1950 (أي صدرت منذ نصف قرن) وقد كان الرجل أميناً وأشار إلي ورقتي، ولكن عندما تكلم أثار في نفسي ذكريات قديمة، حين كنت طالباً في جامعة هارفارد استمع إلي محاضرات بروفيسور مهم جداً في علم الجغرافيا اسمه (كير كبراين) وكلها كانت في معني كيف تشكلت ظواهر الأرض، وكانت محاضراته جميلة جداً،وقد أنشأوا جائزة باسم هذا الشخص في الجمعية الجيولوجية الأمريكية،وفي إحدى الجلسات التي دعانا إليها كير كبراين في منزله لنتناقش ونتبادل الآراء،قلت له :اسمع كل ما تقوله سبقك إليه أناس من القرن العاشر،فلما تساءل بإلحاح،قمت بترجمة أربع صفحات من كتاب (إخوان الصفا) وقدمت لهم، وأعطيت الدراسة للأستاذ، فسر سروراً عظيماً، ونشرها في واحدة من كبريات المحلات العلمية الكبرى، والتي لم يك من الممكن أن ينشر فيها طالب مثلي وقتها .. وقد وصلت –عبر تلك الحادثة- إلي أن كير كبراين هو الوارث الحقيقي لحضارة العرب والمسلمين، أما نحن فلم نرث شيئاً .. بالعكس لقد اضطهدنا إخوان الصفا، ومن تبقي منهم رحل إلي أوروبا التي أخذت منهم علمهم، وانطلقت بهم وانطلقوا بهم .. ولذلك أنا أعتقد في وحدة الحضارة وأنه من الخطأ تسمية الحضارة الغربية (غربية) .. هذه حضارة بشرية، وجميع الناس شاركوا فيها بما فيهم أنا، ولذلك ليس عندي شعور بالنقص إزاءها، وعلي العكس فإن الغربيين سرقوها، فكانوا أذكياء لأنهم أخذوا ومضوا بها، وكنا خائبين لأننا تركناها.»
وسألته :»من أين –إذن- تأتي كل هذه المقاومة في العالم العربي للحضارة الغربية؟» فأجابني:»لقد تأملت –طويلاً- ما كتبه كمال أبو المجد في دافوس بإحدى المجلات الثقافية حين لم يجد شيئاً يكتبه عن الحضارة الإسلامية سوي علماء القرن العاشر وإخوان الصفا .. ماله ومالهم ؟! .. لم يعد لنا علاقة بهم، لقد رميناهم وطاردناهم .. وكسرناهم .. وذبحنا نصفهم .. وكان الغرب هو الذي استضافهم، وهو الذي من حقه أن يتكلم عنهم وليس نحن ..
جزء من مقاومة العرب للثقافة الغربية يأتي من إنكار حقائق تاريخية أو الجهل بها .. والجزء الآخر هو إحساس بالضعف أو الخوف أو الشعور الدائم بضرورة الدفاع عن النفس –حتى- إزاء مالا يستوجب الدفاع»

.............................
وأتوقف –مرغما- عن مواصلة التقليب في صفحات سيرتي مع رشدي سعيد الذي يستحق منا أن نضع نصوصه أمام جيل من الشباب أما نعلمه خزعبلات كأنها دينية، وإما يتورم بالغرور متصوراً استحقاقه لقيادة الأمة بمؤهلات علي رأسها أمية المعرفة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.