كان ينبغى أن تحتفل الحركة الأدبية المصرية فى أغسطس الماضى بالذكرى الخامسة والعشرين بعد المائة لميلاد الأديب الكبير إبراهيم المازنى والخامسة والستين لرحيله، الذى ولد فى التاسع عشر من أغسطس عام 1889م بالقاهرة ورحل فى السادس من الشهر نفسه عام 1949م. عرف اليتم وعانى الفقر صغيرا، لكن أمه أصرت على تعليمه, فلم يخيب رجاءها وتخرج فى مدرسة المعلمين. أتقن الإنجليزية وكان مترجما بارعا، ترجم لأعلام الأدب الانجليزى وتأثر بهم مثلما تأثر بنوابغ الأدب العربى الذين قرأهم بعناية, ومنهم العقاد الذى قرأ له قبل أن يلقاه، وأعجب برؤاه الفكرية وثقافته الشمولية، فسعى إليه وعرّف إليه الشاعر عبد الرحمن شكرى، ووضع معهما أسس الاتجاه التجديدى الذهنى فى الشعر، وغدا الثلاثة رموز مدرسة «الديوان» إبداعا ونقدا. كان المازنى أديبا ساخرا، بل صاحب مدرسة فى السخرية ، يقول لقارئه فى مقدمة «حصاد الهشيم»: «أقسم إنك تشتري عصارة عقلي وإن كان فجّا، وثمرة اطلاعي وهو واسع، ومجهود أعصابي وهي سقيمة- بأبخس الأثمان... وستقرؤه بلا نصب، وتفهمه بلا عناء ثم يخيّل إليك من أجل ذلك أنك كنت تعرف هذا من قبل وأنك لم تزد به علما! فرجائي إليك أن توقن من الآن أن الأمر ليس كذلك وأن الحال على نقيض ذلك». وقد يتساءل قارئه لم اختار السخرية سبيلا؟ ألأنه عرف- من أحد أطبائه- أن ابتسامة أو ضحكة واحدة تستطيع أن تغير الحالة النفسية للإنسان كما لا يستطيع أى شيء آخر.وكان حاد الطبع سريع الغضب فصار كلما ابتسم يشعر بالسكينة ويزايله الغضب. أم لأنه كان يستصغر حياة الإنسان في جانب مصائر الأقدار كما علل العقاد؟ أم لأنه كما يقول:«بنيت لنفسي آمالا، غرست لنفسى أوهاما، عملت لنفسي جنات وفراديس، غرست فيها أحلاما من كل نوع ثمر.. وهذا كان نصيبي من كل تعبى.. قبض الريح»؟ وهو كاتب صافى الذهن عميق الفهم، بارع فى الوصف، يرسم بالكلمات ما تصنعه الريشة فى اللوحات، ما من فكرة تناولها إلا جلاها في أيسر عبارة، متفلسف خاصة فى «إبراهيم الثانى وسبيل الحياة» كل ما كتب صورة صادقة لمجتمعه.ولعل خير شواهد نظرته إلى الحياة عناوين كتبه «حصاد الهشيم، قبض الريح، خيوط العنكبوت». مع شكرى وقع تنافر شديد بين المازنى وشكرى الذى اتهمه بالسطو على أعمال بعض الأدباء الغربيين، عاتبا عليه ومستنكرا بحق الصداقة الوثيقة، فاشتط فى الرد عليه متهما إياه بالجنون، وأوسعه سخرية فى مقاله «صنم الألاعيب»، زاعما أن شكرى لم تحركه كل مفاتن الطبيعة وروائع الحياة ومعانيها لأن باطنه شاعت فيه لعنة السماء، وأنه مجرد مقلد لكل شاعر وكاتب، يقتا «هذا وذاك، ففشل فى ما عالجه من فنون الأدب، لأنه جامد الطبع ولد ميتا، لا يقوى على زهضم» أرقى ثمار الفكر...! على أن المازنى يعود بعد ذلك إلى التملص من دعواه قائلا «وما رمينا أحدا بالجنون بل قلنا إن ذهن شكرى متجه أبدا إلى هذا الخاطر... وما اتهمنا شكرى ولا تقولنا عليه ولكنه هو الذى يتهم نفسه بالجنون». وها هو يعترف بعد فى لحظة صفو حين هدأت النفس بحقيقة رأيه، يقول:«وأنا مع ذلك أقل الثلاثة- العقاد وشكرى- اطلاعاً وصبراً على التحصيل.وأدع للقارئ أن يتصور مبلغ شرههما العقلي، ولا خوف من المبالغة هنا، فإن كل ظني دون الحقيقة التي أعرفها عنهما.وأنا أجتر كالخروف، ولكنهما يقضمان قضم الأسود، ويهضمان كالنعامة، فليتني مثلهما» (سبيل الحياة-64)، ويقرّ له بالفضل وهو يتذكر دراسته بمدرسة المعلمين:«كان مرشدي فيها وأستاذي، زميلي وصديقي الأستاذ عبد الرحمن شكري، فقد كان شاعراً ناضجاً ذا مذهب في الأدب يدعو إليه، وكنت أنا مبتدئاً...ودلني على ما ينبغي أن أقرأ من الأدب الغربي». المازنى الناقد الأدب عند المازنى طليعة كل نهضة، يراه عملا خالصا لوجه الإنسانية قاطبة(حصاد الهشيم ص41)، عالميا فى آثاره إنسانيا فى بواعثه، ويرى سبيل الشاعر سبيل المصور، فكما أن الثاني يلزمه أن يتهدى إلى ضرب من التخير والتدبر في انتقاء الأصباغ وتأليف الألوان...وفي كيفية مزجه لها، وترتيبه إياها، كذلك يقتضى النظر شيئًا من الحذق والأستاذية وسعة الذرع حتى تستوفى المعاني حظها وتستكمل زينتهاس (شعر حافظ ص49)، والشاعر المطبوع من لا يعنت ذهنه ولا يكد خاطره في التنقيب على المعنى. ضد حافظ مثلما اتخذ العقاد من شوقى هدفا يوجه إليه سهام نقده ليهدم معبد القديم ويفسح للجديد, اتخذ المازنى من حافظ هدفا له. وعنده أن «حافظًا قد حذا في شعره حذو العرب وقلدهم في أغراضهم وفرط عنايتهم بصلاح اللفظ وإن فسد المعنى» بينما صدع شكري هذه القيود وفكها عن نفسه «لعلمه أن المقلد لا يبلغ شأو المبتكر...ولأنه وجد من سخاء خياله، وخصب قريحته، وسعة روحه خير معين له على افتراع طريقة بكر لم يبتذلها كثرة الطراق». ومن آثاره الأدبية: إبراهيم الثانى، إبراهيم الكاتب، أحاديث المازنى، أقاصيص (بالاشتراك مع آخرين)، حصاد الهشيم، خيوط العنكبوت.