هذه العبارة جاءت على لسان الموسيقار محمد عبد الوهاب عندما كان رئيسًا للجنة الموسيقى والغناء باتحاد الإذاعة والتليفزيون - منذ قرابة أربعين عامًا - حينما حاول بعض أعضاء اللجنة من الملحنين والموسيقيين اتخاذ قرار بإغلاق الأبواب فى وجه شباب ذلك الوقت من المبدعين بحجة إفسادهم للفن ولذائقة الجماهير، بما يقدمونه من خروج على المألوف من القواعد والتقاليد المرعية، ومغامرات عبثية - غير محسوبة - فى طريق الإبداع. وكانت المفاجأة التى ألجمت الجميع حين علا صوت الموسيقار محمد عبد الوهاب مُحذِّرًا: «لا تخاصموا المستقبل، إياكم أن تفكروا فى مثل هذا القرار، الذى يفضحنا ويفضح إخلاصنا للفن، ويكشف عدم تجردنا فى خدمته، وفى خدمة الوطن. أحذركم من أن تقفوا هذا الموقف من أى شيء يختلف عن أذواقكم وينزع إلى التغيير والمخالفة لما هو قائم. لأن الفن لا يحيا إلا بالخروج على المألوف، والمغامرة المستمرة، ولقد كنت فى شبابى عرضة لمثل هذه المواقف من المتحجرين والمحافظين، ولو أنى رضخت لهجماتهم وأحكامهم لما كنت محمد عبد الوهاب الذى تعرفونه الآن». هذا الموقف الذى يكشف عن عبقرية محمد عبد الوهاب الفكرية، إلى جانب عبقريته الفنية، أهديه إلى من يتأملون فى كل ما يحدث من حولنا من فن وإبداع، ويرون فيه علامة الخراب والإفلاس والتخلف، لمجرد أنه مخالف لما اعتادوه وما ارتبطت به أذواقهم وتجمدت رؤاهم، ناسين أن لكل عصر لغته وحساسيته وأساليبه وطرائقه، ولكل زمان مذاقه وجرأته واندفاعه إلى ما نسميه المستقبل. وهذا المستقبل هو - فى النهاية - حصيلة كل ما يبدعه شباب المبدعين اليوم على غير مثال، وكل ما يسبب لهم الرفض والإعراض عنهم وعدم الالتفات إلى جوهر ما يقدمونه، فى صيغة هى وعاء الحاضر والمستقبل، ومن أجل هدف نبيل هو استشراف المستقبل، واللحاق به قبل أن يفوت ويمرّ ويصبح بدوره ماضيًا. ومخاصمة المستقبل لا تقتصر على الفن والإبداع: على الموسيقى والغناء والشعر والقصة والرواية والمسرحية، على المسرح والسينما، على الدراما الإذاعية والتليفزيونية، على الصحافة الورقية والإلكترونية، لكنها تتجاوز هذا كله إلى ما يسمى ببناء وطن جديد، وطن مختلف ومغاير، وطن يتحرر من القيود التى كبّلته وعاقت مسيرته وعطلت تقدمه واندفاعه، ووضعته فى ثلاجة - كما كان يقول البعض - وحكمت عليه بالتخلف والتراجع والماضوية وانعدام الرؤية المستقبلية. بناء الوطن الجديد، يتطلب أول ما يتطلب اعتقادًا يقينيًّا بالعلم وأهميته، ونفيًا للخرافة والشعوذة والدجل الشائع فى حياتنا، والمستقر فى عقول ووجدانات كثيرة، يعوقهم عن الحركة، ويفسد عليهم رؤيتهم للأشياء، وتفسيرهم لكل ما يقع، ويجعلهم يلجأون إلى كل ما هو بعيد عن العقل السليم، والتفكير العلمي، والنظرة المثقفة والمتحضرة للحياة. وبناء وطن جديد، يتطلب بداية جديدة، وميلادًا جديدًا، لكثير من القوى السياسية التى تتحرك الآن وتمارس أدوارها فى صيغة أحزاب ومؤسسات وجمعيات وتجمعات. هذا النشاط الورقى الذى يفتقد إلى التعامل الحى والفاعل والحقيقى مع الشارع، أى مع المواطن، هو فى حقيقته زوبعة فى فنجان. وهذه الأخبار اليومية عن تحالفات وائتلافات وخروج على التحالفات والائتلافات ثم العودة إلى تحالفات وائتلافات، هو الدليل الأكيد على أن المانشيتات التى تُكتب بها هذه المواقف والتصرفات هى حبر بلا ثمن، وإلهاء للناس عن الخواء الذى يحكم حركة هؤلاء، ويحول دون ظهورهم فى حجمهم الحقيقي، مهما بلغ ارتفاع أصواتهم، وصخب عجيجهم، وضجة تصريحاتهم وخطبهم - عبر الصحافة والفضائيات -. فالناس - لو كان هؤلاء يدرون - بحاجة إلى وجوه غير الوجوه، وعقول غير العقول، وإلى أن يمارسوا «التطهير» الذى أشار إليه أرسطو وهو يتكلم عن التراجيديا الإغريقية التى تؤدى وظيفتها فى التطهير، أى الخلاص من كل ما يملأ الصدور من أحقاد وكآبات وتخلف، ومن أحزان ومآسٍ، ومن انهزام وعبودية، وهم يشاهدون المسرح الإغريقى بكل المآسى والكوميديات التى تعرض عليه، فينفعلون ويتطهرون، ويعودون إلى بيوتهم وقد هدأت النفوس، واستردت سماحتها وصفاءها وإقبالها على الحياة. هذا التطهير المطلوب لنفوس كثير ممن يمارسون العمل السياسي، هو خطوة أساسية وضرورية، قبل اقتحامنا للمستقبل، حتى لا نكون فى خصومة معه، ثاراتها من نتاج الماضى القريب والبعيد، وركامها من صنع الأيام والليالى السوداء التى عاشها هذا الوطن، قبل أن تشرق شمسه وتصفو سماؤه وتنجاب غاشيته وينتهى كابوسه، ويستعيد عافيته وإرادته، وقدرته على هزيمة الإرهاب، ودحر الفساد، وإطلاق المدى للتحديات. والسعى لإنهاء الخصومة مع المستقبل، يجعلنا نضع الأمل فى التعليم، ونعلقه عليه، فلا نهضة لأمة بتعليم كسيح أو متخلف أو مدمّر للعقل والفكر الحر. ووجيعة مصر الآن كامنة فى تعليمها الذى لم نحسم أمرنا بشأنه حتى اليوم، فهو تعليم ينتج تخلفًا وبعدًا عن التفكير العلمى وسطحية فى النظر إلى الأشياء، وقطيعة مع كل ما هو ثقافة وانفتاح على المعرفة، والمسئولون عنه ما يزالون منشغلين بالشكل عن المحتوي، وبالأعداد والأرقام عن المضمون والقيمة. إنه تعليم يهتم بحشو الرءوس بالمعلومات المعلّبة، وهى معلومات لا تصنع عقلاً ولا تبنى فكرًا، ويهتم بمجرد الحفظ وتقوية الذاكرة على حساب التفكير والتساؤل. نريد تعليمًا يتبنى ثقافة السؤال أكثر من اهتمامه بالإجابات المحفوظة، ويتبنى ثقافة الحوار بدلاً من إعلاء شأن الصوت الواحد والرأى الواحد والفكر الواحد، تعليمًا يصنع الشخصية ويحقق ما كنا نطلق عليه فى القديم التربية قبل التعليم. تعليمًا يفسح الطريق للمواهب الجديدة بالكشف عنها ورعايتها وإطلاقها فى سماء هذا الوطن، تبنى وتخترع وتغنى وتنشئ وتُعلى من شأنه. مواهب لا تخاصم المستقبل -بالجمود والرجعية والتحجر- ولكنها تنطلق فى فضاء الإبداع والمغامرة والاكتشاف، دون أن يعوقها مجهول أو توجس أو حسابات خاطئة. تعليمًا يقدم معرفة بلا خوف، حرة بغير ضفاف، محلقة بلا انتهاء، تُثبّت الأرجل قوية فى الأرض، وترفع الرءوس شامخة إلى عنان السماء. نعم. علينا جميعًا أن نتنبه إلى جريمة مخاصمة المستقبل. فنفقد حاضرنا، ومعنى وجودنا ونعود للسقوط فى شرك الماضى وهُوّته: نجترّه، ونستعيده، ونلوكه، فى كل يوم وفى كل موقف. وكأن هذا الماضى أصبح حَكَمًا على المستقبل، يملك أن يحاربه وأن يخنقه وأن يتآمر عليه، ونحن لاهون ومنشغلون بفتنة الكلام الأجوف وصراع الديكة فى الفضائيات. وأصبح قيدًا على انطلاقة بلا حدود فى كل موقع وكل مجال، يُكبّل حركتها ويعوق مسيرتها ويشتت تركيزها، ويواجهها بالشائعات والأقاويل والفتن الصغيرة، يأسًا وعجزًا، وتنفيرًا واستخذاءً، وانتحارًا فى ختام الأمر. أعيدوا النظر فى صورة هذا الماضى وسطوته، واستخلصوا منه روحكم الوطنية الهادرة، ووعيكم الحضارى المتجدد، وحكمتكم الرصينة فى مواجهة كل ما هو زائف ولبلابى ومتسلق، واثبتوا للخونة من خوارج هذا العصر، الذين يلفظهم الدين والوطن والتاريخ. ولتكن نهايتهم المحتومة-طالت أم قصرت- فألاً رائعًا بمستقبل حتمى قادم، لا نعاديه أبدًا ولا نخاصمه. لمزيد من مقالات فاروق شوشة