هل يمكن القول بأن القرن الحادى والعشرين هو قرن الحوارات المستحدثة؟ دار فى ذهنى هذا السؤال إثر دعوتى للمشاركة فى ندوة عقدتها منظمة اليونسكو بباريس فى نوفمبر 2004 تحت عنوان «حوارات فلسفية بين آسيا والعالم العربي». إلا أن هذا السؤال يسبقه سؤال بالضرورة وهو على النحو الآتي: ما الغاية من أى حوار؟ ليس انتصاراً لحجة لأن أى حجة تزعم قنص الحقيقة، والحقيقة وَهْم، إذ هى تنطوى على تناقض لأن الحقيقة لا تدوم لأنها يمكن أن تكون بعد ذلك لا حقيقة بحكم أن الانسان يتحرك فى واقع متغير. وإذا كان ذلك كذلك فمعنى ذلك أن الحوار لا علاقة له بالبحث عن الحقيقة، بل علاقته بتغيير الواقع. ومن هنا يلزم أن يكون المتحاورون على وعى بأنهم شركاء فى مشروع وليسوا أعداء فى مشروعات متناقضة وذلك لأنهم منخرطون فى تغيير الوضع القائم من أجل استدعاء وضع قادم مشترك. ومن هنا أيضاً يلزم أن يكون المتحاورين على وعى بأنهم على علاقة بالمستقبل وليس بالماضي. وهذا اللزوم يواكب ظاهرة .. الكوكبية، التى هى منفتحة على ابداع حضارة واحدة مناقضة لعادات ذهنية ورثناها منذ زمن مضى تتمحور حول الانفصال دون الاتصال بسبب تعدد الايديولوجيات المنغلقة. وبناءً عليه أظن أن بداية ذلك الحوار الإقليمى بين آسيا والعالم العربى مردود إلى أحداث 11/9 ، وما ترتب عليها من شيوع مصطلحين وهما الارهاب والأصولية. وفى حينها أثير السؤال الآتي: ماذا عن ذهنية الذين ارتكبوا تلك الأحداث؟ إنهم من أتباع بن لادن الذين أعلنوا عن قصدهم بالتخطيط لتلك الأحداث استناداً إلى ما يمكن تسميته ب «الارهاب المقدس» وبالتالى يلزم دراسة هذه الذهنية التى ابتدعت ذلك المصطلح. ومع ذلك فهذه الدراسة تستلزم أن تكون فلسفية لأن ذهنية الأصولى الإرهابى إنما هى محكومة بمطلق معين. وحيث إن المطلق، بحكم طبيعته، واحد بالضرورة فهو ملتزم بأن يقصى أى مطلق آخر، بل ملتزم بأن يقصى كل ما من شأنه أن يكون تعبيراً عنه بحيث لا يبقى إلا كل ما هو متعلق بذلك المطلق الواحد. وإذا فُرض بعد ذلك وبزغت مطلقات فإقصاؤها يتم بالضربة القاضية، وهذا ما أسميه «القتل الدينى»، وهو نتيجة حتمية من صراع المطلقات. والعداوة، فى هذه الحالة، هى أيضاً نتيجة حتمية من منطق هذا الصراع. هذه فى ايجاز ذهنية الأصولى الإرهابي. وإذا أردنا تغييرها فيلزم تحريرها من وهم امتلاكها للحقيقة المطلقة، وهو تحرير لن يتم إلا بغرس ذهنية علمانية التى هى بحسب تعريفى «التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق» إلا أن هذا الغرس ليس ممكناً إلا بتدخل الفلاسفة، أو بالأدق ليس ممكناً إلا بالحوار الفلسفي. والسؤال إذن: ما الاشكاليات أو التناقضات التى من الممكن أن يواجهها ذلك الحوار الفلسفي؟ أستعين فى الجواب عن هذا السؤال بما حدث فى مؤسستين فلسفيتين كنت قد أنشأتهما وهما: الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية فى عام 1978 والجمعية الدولية لابن رشد والتنوير فى عام 1994. نشأت الأولى بسبب بحث ألقيته فى المؤتمر الفلسفى السابع عشر بلاهور بباكستان فى عام 1975 وكان عنوانه «الأصالة والتحديث فى العالم الثالث». الأصالة مصطلح شائع فى بلدان العالم الثالث وبالذات أفريقيا وآسيا، وهو يعنى رفض الامبريالية لأنها السبب فى تدمير هوية شعوب هذه البلدان مع عزلتهم عن الثقافة الغربية لمدة ثلاثة قرون. ولهذا كانت سياسة حركات التحرر الوطنى ترفع شعار «لا للاستعمار» كما كانت فى الوقت ذاته ترفع شعار «لا للتغريب». أما النخبة الوطنية فقد درست فى مؤسسات الغرب التعليمية وانقسمت إلى فريقين: فريق اكتشف أن التحديث قد جعله مغترباً عن تراثه الثقافى دون أن يمنحه البديل فانكفأ على تراثه. وهذه هى إشكالية الأصالة عندما تنفصل عن الحداثة. وإذا كانت الحداثة هى ثمرة التنوير، والأصالة مرادفة للتراث فالإشكالية تقوم اذن بين التراث والتنوير. وفريق آخر انبهر بالثقافة الغربية، وفى الوقت ذاته كان على وعى بالتغيرات السريعة فى أوطانهم إلى الحد الذى فيه أحدثت هذه التغيرات تأثيرها على التراث، الأمر الذى كان من شأنه أن هذا الفريق لم يكن معزولاً عن التيار العلمانى الذى كان سائداً فى البلدان الرأسمالية والاشتراكية. وهنا برزت الاشكالية الثانية التى قامت بين العلمانية والأصولية الدينية. أما عن الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير فقد كان سبب تأسيسها حواراً دار بينى وبين فلاسفة أوروبيين وأمريكان فى مؤتمر فلسفى ببروكسل فى 2 أغسطس 1990، أى مع بداية حرب الخليج الأولى، حول الفجوة القائمة بين الغرب والعالم الإسلامى والتى تكمن فى إشكالية خفية بين التنوير فى الأول وغيابه فى الثاني. وكذلك الحال فى البلدان الآسيوية حيث العلمانية محاصرة والأصوليات الدينية مهيمنة مع تلوثها بالإرهاب. وكان رأيى فى حينها أن تعلم الفلسفة كفيل بتحويل الذهنية الأصولية إلى ذهنية علمانية. يبقى بعد ذلك سؤال: ما المشروع العملى الذى يمكن أن تتبناه منظمة اليونسكو لتحقيق الغاية من هذا الحوار المستحدث بين آسيا والعالم العربي؟ هو تغيير الذهنية الأصولية بالعلمانية. وأظن أن فلاسفة الهند فى إمكانهم أن تكون لهم القيادة فى تنفيذ هذا المشروع بسبب تأثرهم بالعلمانية ولكن بشرط الاستعانة بالقنوات الفضائية التى هى على علاقة عضوية برجل الشارع، إذ هو الأساس المعاصر لأى تغيير، وبدونه لا تغيير بحكم أن الثورة العلمية والتكنولوجية قد أفرزت ظاهرة الجماهيرية ومنها صُكت مصطلحات الثقافة الجماهيرية ووسائل الاتصال الجماهيرية ووسائل الاعلام الجماهيرية والمجتمع الجماهيرى والانسان الجماهيرى الذى هو رجل الشارع. لمزيد من مقالات مراد وهبة