ربما لا يعرف كثيرون أن القرية كانت نقطة انطلاق مهمة وحيوية للطفرة الاقتصادية المبهرة لكوريا الجنوبية، وأنها كانت جسرًا عبرت عليه فوق فجوات يُنذر استمرارها بحدوث اختلالات رهيبة فى البنيان الاجتماعى والاقتصادى للشطر الجنوبى لشبه الجزيرة الكورية وما سيترتب عليها من أزمات ومشكلات مستقبلية. فالفقر والكسل وعدم المبادرة كانت العناوين العريضة المرتبطة بالريف فى كوريا الجنوبية حتى أواخر الستينيات من القرن الماضي، وكان الفلاحون الكوريون يكتفون بوضع أيديهم على خدهم فى انتظار ما ستفعله الحكومة لتحسين أوضاعهم الصعبة على كل الأصعدة، إلى أن صارحتهم الحكومة بالحقيقة مع بدايات النهوض الاقتصادى ومفادها أنه لا يمكن للحكومة مساعدتهم، إلا إذا كانوا على استعداد لمساعدة أنفسهم أولا، وبمعنى آخر أن يبادروا ببذل جهد يؤكد رغبتهم فى التغيير الصادق وبعدها يأتى دور الدعم الحكومي، ومن هنا بدأت فكرة “ قرية جديدة”. واعتمدت الفكرة فى جوهرها على أن يكون المواطن شريكا للحكومة يده بيدها فى كل خطوة يتم اتخاذها للتطوير، ووجهت دعوات لسكان 35 ألف قرية فى كوريا الجنوبية للقيام بجهود ذاتية لاقامة كباري، وتمهيد طرق، ومد خطوط الكهرباء، والمياه، والتليفون، وغيرها من الخدمات الضرورية اللازمة لتوفير حياة كريمة تحترم ادمية البشر، وتشعر الناس بعدم التمييز بين الحضر والريف. الاعتماد على الذات كان فى حدود بسيطة لأن متوسط دخل الفلاح الكورى كان ضعيفًا وبالكاد يكفيه، لكن ايمانه وثقته فى مسئوليه جعلاه يضحى من أجل حياة أفضل له وللأجيال القادمة، من ناحيتها تابعت الحكومة ما يجرى وما أن تتأكد من جدية مواطنيها فى الريف تقوم على الفور بتقديم ما يلزم من الدعم المالى واللوجستى لاستكمال المشروعات، ولم تقتصر الجهود على الشق الزراعى فقط، لكنها امتدت للجانب الصناعى عبر بناء مصانع وخطوط انتاج تستفيد من المنتجات الزراعية، بالاضافة للثروات الطبيعية الموجودة بالمناطق الريفية، فماذا كانت النتيجة؟ زاد دخل المزارعين من 835 دولارا فى 1970 إلى 1804 دولارات نهاية السبعينيات من القرن العشرين، والمثير أنه فى بعض الحالات كان أزيد مما يحصل عليه أهل الحضر متوسط دخل الكورى الجنوبى حاليا 33 ألف دولار سنويا ، وفى غضون عشر سنوات تم انشاء 44 ألف كلم من الطرق الجديدة، وتوسيع 40 ألف كلم من شوارع القري، وساعد ذلك على امكان الوصول ال 35 ألف قرية بالسيارات، وتحسنت المواصلات الداخلية بشكل كبير مع توسيع خطوط الاتوبيسات ومترو الانفاق .. الخ، وتحديث نظام امدادات المياه بعد أن كانوا يعتمدون على مياه الآبار غير الصحية وهو ما أدى إلى الحد من انتشار الأمراض والاوبئة، علاوة على تزويد منازل الفلاحين بالكهرباء بعد أن كان 20 % فقط منها مزودة بالكهرباء نهاية الستينيات. عدوى القرية الجديدة انتقلت من الريف للحضر وتضمنت المحافظة على النظافة، والنظام العام، وتعزيز التواصل بين الجيران، واحترام الكبار، والمحافظة على الطبيعة، فالمواطن اقتطع من قوت يومه للمشاركة فى تشييد هذا الطريق وهذا المستشفي، ومحطة المياه والكهرباء، ومن ثم حرص المحافظ عليها بكل جوارحه ولا يسمح لاحد بالمساس بها وتخريبها فهى ملك للشعب فعلا لا قولا، قارن ذلك بتصرفات مجموعات المخربين والإرهابيين الذين لا هم لهم سوى الاضرار بشبكات الكهرباء، والمياه، وخطوط السكك الحديدية فى بلادنا. مما سبق نخلص لعدد من الدروس المفيدة، أولا: ضرورة احياء روح المبادرة فى نفوس المواطنين واشعارهم بأنهم شركاء وليسوا مجرد أدوات توظف وتوجه تبعا لأهواء ورغبات القائمين على السلطة، وبالتبعية يظل الحس الوطنى والارتباط بالوطن فى قمة سلم اهتمامات الصغير والكبير فى هذا البلد. ثانيا: ازالة الأسباب المؤدية لتزايد حجم الهجرة الداخلية من الريف للمدن بحثا عن فرصة عمل مناسبة، وعن رعاية صحية محترمة، وطرق تصلح للاستخدام الآدمي، وكوب ماء نظيف، وكهرباء لا تنقطع، وتعليم جيد، ومعلوم أننا نشكو مر الشكوى من استنزاف طاقاتنا البشرية بمحاولات الهروب المستمرة للخارج بطرق غير مشروعة، بحثا عن طاقة نور وأمل تمحنهم حياة أحسن. فما يتوافر للفلاح الكورى الجنوبى من خدمات وتسهيلات يضاهى ما يتمتع به القاطن فى العاصمة وفى المدن الكبري، فلماذا يفكر فى النزوح للمدينة؟ والأهم أنه تم تضييق الفجوة بين الحضر والريف، ومن ثم المحافظة على السلم والأمن الاجتماعي، فلا ضغائن أو أحقاد بين مَن يسكن فى قرية نائية ومَن يعيش فى مدينة مرتبة منظمة بها كل ما يحلم به المرء ويزيد، ومن أين ستتولد الضغائن والأحقاد والمواطن لا يحس بافتقاده لاى شئ مما فى المدينة بما فى ذلك وسائل الترفيه والحدائق الغناء. ثالثا: إن القرية كانت الضلع المكمل لحركة التصنيع بما فيه الثقيل، فالنظرة لها تخطت حدود الزراعة لتصبح جزءا من منظومة أشمل وأكبر للنهوض بالوطن. رابعا: إن التجربة ساعدت على تعزيز صلاحيات الحكم المحلى والنظام اللامركزي، فلا احد ينتظر ما ستقرره الحكومة فى العاصمة، ونعلم جميعا أننا نتكلم عن اللامركزية وتدعيم الحكم المحلى من عقود مضت دون أن يتبدل الحال للأحسن أو أن نتقدم ولو سنيتمترا واحدا للأمام، نحن أمام تجربة ثرية تستحق منا دراستها واختيار المناسب منها لتطبيقه فالوقت يداهمنا. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي