تستدعى زيارة الرئيس السيسى الأخيرة إلى حاضرة الفاتيكان وقفة لقراءة دلالات وأهمية تلك الزيارة لأصغر دولة فى العالم من حيث المساحة الجغرافية ، وربما أكبر دولة فى العالم من حيث التأثير والنفوذ الروحى فى ست قارات . يصف المؤرخ الأمريكى الكبير «وول ديورانت» صاحب موسوعة قصة الحضارة «المؤسسة الكاثوليكية» ، بأنها أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ ، وعند نفر كثير من المراقبين أنها إمبراطورية بدون حدود ، وبلا سدود ودون مستعمرات إذ يمتد نفوذها إلى ما يفوق المليار ومائتين وخمسين مليون كاثوليكى حول العالم . والمعروف أن مصر هى أول دولة عربية تقيم علاقات مع دولة الفاتيكان فى نهايات أربعينيات القرن المنصرم ومنذ ذلك الوقت والعلاقات بين القاهرةوالفاتيكان حيوية ونابضة حتى ولو واجهتها بعض الكبوات الوقتية . ولعل الذين تابعوا عن قرب الزيارة الأخيرة للرئيس السيسي ولقاءه مع البابا فرانسيس أدركوا الأهمية التى تمثلها مصر بالنسبة للكرسى الرسولى كما أن حفاوة الترحيب بالضيف المصرى الكبير كان وراء تجاوز العديد من المشاهد البروتوكولية، والفاتيكان معروف بصرامته غير الاعتيادية فى هذا السياق .يتساءل البعض «وما الفائدة من زيارة البابا»؟ حتما إنه لا يملك فرقا عسكرية كما تندر عليه ذات مرة الزعيم السوفيتى» جوزيف ستالين كما انه من المرويات غير الصادقة انه يمتلك كنوزا من الأموال والذهب والفضة لكنه فى واقع الحال يمتلك مجالا روحيا أدبيا وأخلاقيا يجعل رؤساء العالم يسعون إليه ، ولعلنا لا ننسى أن البابا الفقير الذى جاء من بولندا فى نهايات سبعينيات القرن المنصرم «يوحنا بولس الثانى» كان المسمار الأول والأهم الذى دق فى نعش الشيوعية. هل هى مصادفة قدرية أم موضوعية أن يلتقى الرئيس السيسى الذى يحمل على كاهليه عبء الفقراء والكادحين فى بلده مع البابا فرانسيس الذى ضرب مثالا غير مسبوق داخل أروقة الفاتيكان للفقر والزهد من جهة والاهتمام بالإنسان وكرامته مهما كان لونه أو دينه أو اسمه أو رسمه ؟. طواحين السماء تطحن ببطء لكنها دائما وأبدا تطحن دقيقا ناعما فبعد ثمانى سنوات من زيارة الرئيس الأسبق حسنى مبارك للفاتيكان يلتقى الرئيس السيسى مع قائد روحى عالمى بل الأول عالميا يشد من أزره ويدعوه إلى تعزيز التعايش السلمى خلال المرحلة الانتقالية السياسية فى مصر عطفا على تشجيع البابا للرئيس المصرى للمضى قدما من أجل تسوية الأزمات الإقليمية . لقاء الرئيس السيسى مع البابا فرانسيس خطوة هامة للغاية فى طريق تعزيز مسار مصر الجديدة مصر الناهضة بعد ثلاثين يونيو التى تقبل الآخر وتتعاطى معه فى حوار حضارى إنساني. زيارة الرئيس للبابا يسمع صداها فى كل أرجاء أوروبا وفى بقية العوالم والعواصم الكاثوليكية الفاعلة وبخاصة فى أمريكا اللاتينية التى جاء منها البابا الفقير . ولا نذيع سرا إن قلنا إن للفاتيكان عطفا على جهازه الدبلوماسى فى قارات العالم بعض المؤسسات الفاعلة جدا على صعيد السياسات الدولية مثل » سانت ايجيدو » ، والتى لها دور كبير فى نشر السلام وإنهاء الخصام والصراعات حول العالم ، وقد لعبت دورا كبيرا فى وضع حد للحرب الأهلية التى اندلعت فى تسعينيات القرن الماضى فى الجزائر ، وكادت تصل إلى اتفاقية لولا عرقلة الأمريكيين . ومع ذلك فإن وزارة الخارجية الأمريكية تلجأ لهذه الجماعة ولمؤسسات كاثوليكية أخرى لمساعدتها عندما تعجز دبلوماسية الهيمنة والسيطرة والقوة المطلقة عن حل مشاكل البشرية . والثابت أن الحوار القائم بين الأزهر الشريف والمؤسسة الكاثوليكية اعتبر ولا يزال دعوة خلاقة للتلاقى والاتفاق عوضا عن التباعد والافتراق، ويبدو واضحا أن الطرفين قد تجاوزا إشكالية محاضرة البابا الفخرى بندكتوس السادس عشر ، ففى نهاية شهر رمضان الفضيل الأخير وجه الكاردينال الفرنسى الأصل « جان لوى توران » رئيس المجلس البابوى للحوار بين الأديان رسالة للعالم الإسلامى جاءت تحت عنوان « نحو أخوة أصيلة بين المسيحيين والمسلمين » حيا فيها المسلمين حول العالم واصفا إياهم « بأنكم إخوتنا» سائلا العالم الإسلامى المزيد من التضامن مع مسيحيى العالم من اجل مواجهة التحديات المعاصرة التى تتعلق بالإلحاد والبطالة والفقر والظلم الإنسانى والبيئة ومواجهة الإرهاب. لا تتصل زيارة الرئيس السيسى لبابا الفاتيكان بمصر فقط ، بل ربما يغيب عن البعض ما لها من استحقاقات ايجابية على القضية الفلسطينية الشغل الشاغل لمصر ، وللرئيس السيسى على نحو خاص . والفاتيكان يمثل ثقلا خاصا فى موازين تحديات القضية إذ يرفض تهويد القدس أو المساس بالمقدسات الدينية المسيحية والإسلامية على السواء، ولهذا فان المحاولات الإسرائيلية لاختراق الفاتيكان ورجالاته قائمة منذ أول زيارة لجولدا مائير ومدير موسادها حينئذ «زافى زامير» الذى راعه دخول مدير محطة CIA فى روما كل يوم جمعة ليعقد اجتماعا مع البابا بولس السادس، ما أثار حقده وحسده وهذه قضية أخرى. زيارة الرئيس السيسى للفاتيكان نقطة مفصلية تحتاج إلى دعم مستمر ومستقر للتلاقى والتنافح الفكرى والروحى والسياسى بين مصر المحروسة والفاتيكان قلب التاريخ النابض . الخلاصة : طوبى لصانعى السلام إنهم أبناء الله يدعون . لمزيد من مقالات إميل أمين