في هذا الزمن الذي يشهد بعض التراجع في تلقي الشعر تقوم الهيئة العامة لقصور الثقافة بإيقاف هذا التراجع مؤقتا - بإصدارها (الأعمال الشعرية الكاملة ) لواحد من أهم الشعراء في أجيال الحداثة عموما , وجيل الستينيات على وجه الخصوص , (محمد إبراهيم أبو سنة) وكم أتمنى أن تتبع الهيئة هذا الإصدار الشعري بإصدار آخر يضم أعماله النثرية لتكتمل الصورة الثقافية والإبداعية لهذا الشاعر الكبير , ومعرفتي بهذا الشاعر وعلاقته بالشعر تجعلني أتحفظ على كلمة : (الكاملة) , فالشعر بالنسبة له هو الحياة , وتدفق الشعر بالنسبة له حقيقة وجود , وهو ما تأكد في إضافته إلى الأعمال الكاملة أربع قصائد لم تتضمنها دواوينه السابقة التي بلغت ثلاثة عشر ديوانا ومسرحيتين شعريتين تمثل واحة ثقافية للحب والخير والجمال . ولا يتسع المجال للحديث عن القيمة الفنية والجمالية لهذا الثراء الشعري , والمتاح في هذا السياق ان نستحضر بعض الرؤى التي أطلت على شعرية هذا الشاعر، وفي مقدمتها إطلالة الدكتور عبد القادر القط، رحمه الله، التي تُلخص العالم الشعري لأبي سنة ورحلته الطويلة في مسالك الجمال والإبداع , وانفتاح وجدانه وفكره على واقعه المملوء بالمعاناة , وتحول كل ذلك إلى رؤى متجددة وفن مشبع بالجمال . وكان لي شرف كتابة ست دراسات مطولة عن شاعرية وشعرية هذا الشاعر حيث تابعته في مجمل مسيرته الشعرية التي تدفقت في دواوينه المتتابعة, حيث كان العذاب طريقا للمتعة , والمعاناة طريقا للجمال , وحيث كان انفتاح الشاعر على تراثه الثقافي عموما والشعري خصوصا وسيلة لبلوغه أفق الشعرية الحقة التي لا تذوب في ماضيها , ولا تتنكر له , بل تبني على ما سبق لتؤسس لنفسها خصوصيتها و خصوبتها وتفردها , وأخص خصوصيات أبي سنة أنه كان ينظر إلى نفسه بوصفه مسئولا عن عالمه , ينفر من الظلم , ويرفض القهر والعبودية , بل يصل إحساسه بالمسئولية إلى وعيه بمسئوليته عن مناطق الظلام في العالم كله وأن مهمته أن يشعل مصباح الجمال لإنارة هذا الظلام . وفي دراسات سابقة أطلقت على أبي سنة صفة (المغترب) ذلك أن مدونته الشعرية مملوءة بالفقد والغربة والاغتراب , هذا الاغتراب الذي بدأه مبكرا مع خروجه من قريته (الوِدْي) , وهو ما حول شعريته إلى سؤال دائم يكاد يسيطر على دواوينه الأولى , يقول في قصيدة (رسائل إلى حبيبة غائبة) من ديوانه الأول (قلبي وغازلة الثوب الأزرق) : حبيتي متى يحل محرم قضى مناسكه مضيع لا يعرف الطريق , لا , ولا مسالكه وهو ما حول دواوينه المتأخرة إلى سعي حثيث لتقديم الأجوبة على كل التساؤلات الوجودية والروحية والثقافية والجمالية التي شغلت مسيرته الإبداعية . ومن خصوصية شعرية أبي سنة أنها (شعرية التراكم) , فكل ديوان كان يستكمل سابقه , ويبشر بلاحقه حتى كأن أعماله الشعرية ديوان واحد جاءه منجما منذ قصيدته الأولى التي ألقاها في (رابطة الأدب الحديث) عام 1958 بعنوان : (بعض الوقت يا مستر دالاس) , أما النشر العام فكان مع قصيدته: (القارة الغاضبة) التي نشرت بالملحق الأدبي لجريدة المساء عام 1959 , وواضح من العنوانين أن البدايات كانت التحاما بالواقع المصري القاري في محاولة لإيقاظ الوعي إلى الأخطار القادمة من وراء البحار، ثم تتابعت الدواوين التي بلغت ثلاثة عشر ديوانا , أولها ديوان : (قلبي وغازلة الثوب الأزرق) 1965 الذي كان صدوره بشارة الميلاد لواحد من أهم الشعراء في مصر والعالم العربي , إذ كان هذا الديوان حالة شعرية للتأمل في عالم المدينة والقرية والإنسان , وكان آخرها ديوان : (تعالي إلى نزهة في الربيع) عام 2013 , وقد سبق الإشارة إلى أن الشاعر مازال يفيض بإبداعه بدليل هذه القصائد الأخيرة : (ملاك البشارة) 2009 , و (ترفق بنا يا قدر) 2009 , و (كأنما جاءوا من الخيال) 2011 , و (أبخرة المنافي) وهي قصائد لم تتضمنها دواوينه السابقة . إن محمد أبو سنة أحد شعراء الستينيات الذي اقتربوا زمنيا من منطقة الريادة في شعر الحداثة , واستطاع أن يجلس في المقدمة مع مجايليه الذين تخلصوا من بقايا الرومانسية , ليدخلوا بشعريتهم إلى عالم الأقنعة والرموز والإسقاط , ويقاربوا تجليات العرفانية في المواقف والأحوال والمقامات , يقول أبو سنة عن ذاته الشعرية : » لقد كانت تجربتي مع الشعر صراعا مع الوجود الحرللكلمات , ومحاولة لاصطياد هذه الفراشات الذهبية التي رغم هشاشتها وجمالها قادرة على مواجهة العواصف والأعاصير » لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب