نحن نقع فى خطأ مدمر حين نخلط بين العلم والدين، فنبتعد عن الدين بقدر ما نبتعد عن العلم. نبتعد عن العلم لأن العلم مناهج عقلية وحقائق موضوعية وقوانين نصل إليها بالبحث والكشف والتحليل والتعليل والتجارب التى نزيد بها ما نعرفه ونصحح ما نقع فيه من أخطاء. أما الدين فاعتقاد بالقلب وإيمان بالغيب وقيم أخلاقية نرعاها ونعمل بها. والذين يظنون أنهم سيفهمون نشأة الحياة من سفر التكوين أو سيحيطون بعلم الفلك من حديث القرآن عن الشمس والقمر يقعون فى خطأ فادح ويبتعدون عن العلم كما يبتعدون عن الدين. وأنا أبدأ حديث اليوم بهذه المقدمة لأعود إلى حديث الأربعاء الماضى الذى أدرته حول مشكلة نعانيها ونتجنب الحديث فيها، وهى المشكلة المتمثلة فى الموقف الذى تقفه النصوص الدينية من تاريخنا حين تختزله فى قصة موسى وما كان بينه هو وبنى إسرائيل وبين فرعون والمصريين من صراع عنيف انحازت فيه هذه النصوص لموسى ضدنا. ولأننا نحن المصريين نؤمن بهذه النصوص فنحن نجد أنفسنا فى موقف لا نحسد عليه. لأننا بحكم انتمائنا الدينى مطالبون بأن نكون مع موسى ومع بنى إسرائيل، وبحكم انتمائنا الوطنى مطالبون بأن نكون مع فرعون. ولأن عواطفنا الدينية قوية بالوراثة. ولأن الأمية منتشرة فينا. ولأن ثقافتنا التاريخية وثقافتنا الوطنية عامة ضعيفة متهافتة فنحن فى هذا الصراع نقف ضد فرعون، أى ضد أنفسنا ونلتحق بالغزاة الذين تقاطروا على بلادنا ونزحوا خيراتها واستعبدونا باسم الدين من أول الفرس فى القرن السادس قبل الميلاد إلى الأتراك العثمانيين فى هذا العصر الحديث. ولقد يبدو للسذج أن الدين يستفيد من الانحياز للإسرائيليين والطعن فى المصريين وتشويه تاريخهم. وهذا وهم، لأن الدين لم يعد المصدر الوحيد لمعرفة تاريخ المصريين، وإنما أصبح تاريخنا وتاريخ الإسرائيليين وغير الإسرائيليين معروفا يقرأه العالم ويتعلمه التلاميذ ويأخذه المؤرخون والباحثون من مصادره المباشرة المتمثلة فى هذه الآثار الباقية هنا وهناك فوق الأرض وتحتها. المعابد، والمقابر، والتماثيل والصور، والألواح المكتوبة التى تكشف لنا عن الماضى كأننا نعيش فيه كما نرى فى الجيزة والأقصر، وتل العمارنة، ودندرة. وكما نرى فى بقايا المدن القديمة فى العراق وسوريا وفلسطين. بابل، ونينوي، ولاخيش، وأورشليم وفيما كشف عنه من أوراق وألواح توفر العلماء على قراءتها ومقارنة ما جاء فيها بما جاء فى التوراة عن بداية الخليقة، وعن قصة الطوفان التى جاء ذكرها فى ملحمة جلجاش البابلية قبل أن يظهر اليهود وقبل أن تدون التوراة بألفى عام، وعن عقيدة التوحيد وغيرها من العقائد الدينية والقيم الأخلاقية الرفيعة التى سبق إليها المصريون وعبر عنها حكماؤهم أخناتون، وأمينموبي، وبتاح حتب، ونقلها عنهم العبرانيون فى سفر التكوين، وسفر الأمثال، وسفر الملوك، والمزامير التوراتية. القصة الوحيدة التى لم ينقلها اليهود عن غيرهم هى قصة خروجهم من مصر عبر البحر الذى انفتح لهم وتركهم يعبرون سالمين ثم انطبق على فرعون والمصريين وأغرقهم عن آخرهم، ذلك لأن هذه القصة لا وجود لها فى أى مصدر من مصادر التاريخ القديم، لا عند المصريين، ولا عند البابليين، ولا عند اليونانيين. وهو أمر يدعو للتساؤل ويفرض علينا أن نميز بين التاريخ فى النص الدينى والتاريخ فى مظانه ومصادره. التاريخ فى النص الدينى وسيلة تستخدم لضرب المثل واستخلاص العبرة لأن العاطفة الدينية أو القيمة الأخلاقية هى الغاية المقصودة فى النص الدينى الذى يأخذ من التاريخ ويضيف إليه ويفسره بما يخدم الغاية الأخلاقية وإن لم يتفق تماما مع الحقيقة العلمية التى نلتمسها فيما تركه لنا القدماء وما بحث عنه وأثبته المؤرخون، ومنهم الباحث الألمانى فلها وزن فى دراسته المعمقة التى تناول فيها تاريخ اليهود ونصوص التوراة وانتهى إلى أن اليهود «لم يتواجدوا فى مصر، ولم يقفوا على جبل سيناء، بل قدموا عبر الأردن وتوغلوا فى كنعان أى فلسطين». ومن الباحثين الأوروبيين من رأى «أن كل روايات العهد القديم ليست سوى نسخ مختلفة ومتغيرة لأساطير الملحمة البابلية ملحمة جلجاش وأن كل أبطال التاريخ العبرى القديم لم يوجدوا ولم يخلقوا، بل هم نتاج الميثولوجيا وهم أبطالها بأساليب مختلفة». وباستطاعة القارئ العزيز أن يعود للمصدر الذى نقلت عنه هذه الاستشهادات وهو «تاريخ نقد العهد القديم» الذى حرره زالمان شازار، وترجمه إلى العربية أحمد محمد هويدي، وصدر عام 2000 فى المشروع القومى للترجمة. وباستطاعة القارئ العزيز أن يعود بعد ذلك أو قبل ذلك لما قدمه طه حسين فى هذه المسألة، مسألة التمييز بين العلم والدين، التى عالجها فى كتابه «فى الشعر الجاهلي». فى هذا الكتاب الذى صدر منذ ثمانية وثمانين عاما، وأثار ضجة واسعة ميز عميد الأدب العربى بين ما جاء فى النصوص الدينية عن العرب وعن أصلهم وعن لغتهم وشعرهم مما سلم به القدماء وبين ما أسفرت عنه المناهج والدراسات الحديثة التى تبناها طه حسين وطبقها على الشعر الجاهلى، فوجد أن هذا الشعر أو معظمه ليس فيه من حياة الجاهليين أو من لغتهم أو من ديانتهم شيء، وإذن فهو منحول لم يقله الجاهليون، وإنما صنعه الرواة بعد الإسلام ونسبوه للجاهليين ليثبتوا أن اللغة التى نظم بها هذا الشعر قديمة، وأنها كانت لغة العدنانيين ابناء إسماعيل الذى تعلمها هو وابناؤه من القحطانيين. يقول الأستاذ العميد «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل. وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا. ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لاثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن اثبات هذه القصة التى تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة فى اثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى، وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذى أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبثون فيه المستعمرات. فنحن نعلم أن حروبا عنيفة نشبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون فى هذه البلاد وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة ونوع من المحالفة والمهادنة، فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذى استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التى تجعل العرب واليهود ابناء أعمام، لاسيما وقد رأى أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئا من التشابه غير قليل، فأولئك وهؤلاء ساميون». هكذا علمنا الأستاذ العميد أن نميز بين الدين والعلم، كما علمنا غيره أن نميز بين السياسة والدين. لكن ريمة تنسى ما تتعلمه وترجع لعاداتها القديمة! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي