«هذه الحكايات تحب» أن تحدث فى مدن ساحلية، حيث تتواجد بناية آيلة للسقوط على طرف الميناء بجوار اللسان وأرصفة بيع السمك. يرتكن نصفها على اليابسة والنصف الآخر معلق فوق البحر يطل على المراكب الصغيرة وتتوافد عليه النوارس انتظارا لشيء ما. هكذا تبدأ مجموعة القصص الحية المتدفقة التى قدمتها للقاريء الأدبية المهندسة السكندرية الشابة «إيناس حليم» (سلسلة كتابات جديدة هيئة الكتاب 2013) 17 عشر قصة قصيرة ملضومة فى عقد كهرمان من: 1 حبات تشبه اللوز داخل بذور المشمش، (2) لكنها ليست لوزا (3) فلا تأكلها (4) لا تأكلها (5) فهى سامة. يرد هذا التقسيم التحذيرى صورها وإيقاعها: فى ايقاع كوبى مرح حزين. فى هذه المدن التى تحب أن تعيش فيها وتصدر منها هذه الحكايات التى لا تخلو أبدا من الدهشة والاثارة: فى هذه المدن: التى هى الإسكندرية .. تنتظر فى هذه المدن الفتيات المراهقات على كراسى الكورنيش، يختلسن القبلات ولمسات أخرى مع الأحبة ويتجاهلن نظرات بائعى الورد والمناديل والمشروبات الغازية: مع ذلك تظل الفتاة متيقظة لما قد يحدث حولها فى أى وقت.. ولأن «الانتظار هبة من الله، الانتظار يوفر الجهد، الانتظار يؤخر الألم. لن يفهموا ذلك أبدا» البوم لا يحفر جحوره، ولا يبنى أعشاشه بنفسه، يظل يراقب الطيور حتى تغار أعشاشها ويحل محلها، أو يسكن الجحور التى تحفرها الكلاب البرية وتهجرها». هكذا تكتب الفنانة الشابة الحرة: إيناس حليم قصصها (مواليد الإسكندرية 1983 خريجة كلية الهندسة. لها مجموعة مشتركة مع ليلى غانم بعنوان: حبنى أكثر لتعرفني، ومجموعة بالعامية بعنوان «تحت السرير» فى هذه المجموعة تستطيع أن تقول أن لنا فى الإسكندرية كاتبة قصصية مهمة. أحكمت بناء القصة القصيرة، الأحكام فى القصة القصيرة تقريبا، أهم شيء. قصة «يحدث صباحا» عن العانس الوحيدة «نادية» التى تمضغ لبان سمارة، وتصنع قهوتها على «السبرتاية» وتغازل الشباب من الشرفة، وتشتمهم ، وتحيى البواب، ولا يرد، وتغني: يا أبوالشريط الأحمر ياللى ظلمتني... ارحم ذلي» وهى تغسل وتنشر الغسيل وتصبغ شعرها بحنة دقيقة التحضير عديمة النتيجة. فى أقل من صفحة ونصف خلقت المهندسة الفنانة: عالما وشخصية ومكانا لها روح ورائحة، وصباحا خريفيا سكندريا وحيدا. قدمت نموذجا جديدا خاصا بها، للقصة القصيرة. وهنا أحب أن أقف قليلا. فى هذه الصفحة الجديدة لا أسمح لنفسى باطلاق الأحكام النقدية، ولكننى أتعلم من الكتاب الشباب الجدد الذين يسعدنى الحظ بالعثور على إنتاجهم أتعلم منهم ومعهم، البحث عن «الصوت الخاص» الصوت الجديد، الذى لا يقلد أحدا، ولا يستورد ذوقا. الصوت الذى يعرف أن الكتابة عمل صعب نبيل. وأنه ليس وسيلة للادعاء و التظاهر أو التظاهر أو الاستعراض. أن فرح الإنسان باكتشاف صوته الخاص على الورق فى شكل فني، فرح لا يعادله أى فرح آخر، لا جائزة، ولا انتشار. الكتابة ليست سلعة ولن تكون، مهما حاولوا خداعنا «بالبست سيلر» والفرقعة، والمكاسب المادية الضرورية.. ولكنها ضرورة الحياة، ولن تكون لها قيمة لو خسر الكاتب صوته أو نفسه. أطلت فى الوعظ والارشاد ولكن الذى اثار هذه الموجة هو بعض الصفحات فى هذه المجموعة التى فرحت بها فرحا حقيقيا، ولكننى عدت لكى أتعثر فى بعض عناصر مقحمة دون داع: عناصر من الغرائبين والواقعية السحرية «التى تشم فيها رائحة المستورد» فكانت تقف وكأنها «عضمة فى الزور» استعملت الكتابة ببراعة واقتدار، عناصر الحلم والأسطورة، وشاعرية الرؤيا المتغيرة، والمنظور السريالي، وكل هذا كان يدخل فى جسد سردها السهل الواضح الشاعر والحي، ماعدا تلك الطموحات التى كانت تدخل كرياح غريبة. كانت تعود لكى تمتلك قدرتها الخاصة على موضوعها فتقول فى قصة « لأنك تصل متأخرا»: ستطأ قدماك وجه مدينة عجيبة لا يسير فى شوارعها ولا يجلس فى مقاهيها سوى رجال ذوى لحى محناة، وجلابيب بياضها أزهى من المعتاد، كلهم واجمون لا يتكلمون. النساء لا تتواجدن إلا فى الشرفات. ستكتشف أنك تتجول فى مساء دائرى مغلق تسيجه أشجار خروب عالية ومورقة حتى الباب الذى دخلت منه قبل قليل لن تجده. أرجو أن لا أكون قد أفسدت عليك متعة اكتشاف كاتبة جميلة حرة قدمت مجموعة كرغيف خبز صبوح باغت ناسكا جائعا عند باب دير حزين. حقا إنها مجموعة مفرحة، جاءت من الإسكندرية بعد أن صلت للبحر وقالت: أيها البحر الكبير أيها البحر القديم ليست لدى قرابين لك لكنى أسألك الحقيقة والعدل احملنا بسلام إلى أرض الخير ولكن لا تنس أن تطرد الأرواح الشريرة عن بلادنا.