«استيقظت وأنا يتملكنى هاجس بأن شيئًا خطيرًا سوف يحدث فى قريتنا». كانت تلك إجابة الأم عن سؤال ابنيها، عندما لاحظا على وجهها القلق والانزعاج، وهى تقدم لهما وجبة الإفطار. ترى ما هى مرجعية هذا الهاجس ؟ تراه وليد كابوس أو حلم مفزع، رأته الأم ليلاً فى أثناء نومها، تحت تأثير أسباب شخصية خاصة بها ، سواء كانت أسبابا فسيولوجية أو نفسية، ثم سكنها الهاجس بتأثيره فى ممارستها لوجودها وتعاملها مع واقعها؟ هل هذا الهاجس بخصوصيته الصادر عنها، ثم اقترانه بالشأن العام والزمن الجماعى لمجتمعها، يعد قابلاً للتداول العام، أم أن تداوله قد ينفى الواقع الراهن لمجتمعها ويعرقله، ويفضى به إلى الارباكات، بدلاً من الاشتغال الإيجابى على معطيات الواقع وحقائقه، بفك رموزه وتحليل مشكلاته؟ إن ما طرحته الأم على ولديها، لم تطرحه للنقاش، بقدر ما فرضته حسمًا قبليًا، يعلن استباق سهم الزمن بالكشف عما سيحدث فيما بعد، وإن كان الابنان قد ضحكا من أمهما، وقللا من أهمية ما قالته؛ بل اعتبرا الأمر محض هواجس خاصة. لاشك أنهما استندا فى رفضهما لما طرحته الأم إلى « الوعى الأولي» اليقظ، الذى مهمته الإدراك العقلاني، حيث لا يعقل الإنسان شيئًا إلا وفقًا لأصول العقل، لكن بعض دراسات علم النفس ترى أن الإنسان عندما يستغرق فى النوم، فيصبح غير واع حيث يغيب «وعيه الأولي»، عندئذ تصبح أحلامه هى شكلا من الوعي، لحظتها يمتلك الإنسان بذلك «وعيًا ثانويًا» عن وعيه الخاص، لكن ليس ثمة علاقة ارتباطية أو سببية بين «الوعى الأولي» و «الوعى الثانوي»، وفى ضوء ذلك يمكن القول إن ما عرضته الأم على ابنيها هو«وعيها الثانوي»، الذى تشكل خلال نومها بهواجسها وقلقها، وفقًا لخصوصيتها. غادر الفتى «داماسيو» بعد حديثه مع الأم، متجهًا إلى ممارسة لعبة البليارد، وفى اللحظة التى كان يستعد فيها أمام زملائه لبدء اللعبة، برز أمامه تحد حاسم، تجلى فى استباق سهم الزمن تنبؤًا بما سيحدث فيما بعد، حيث أخبره لاعب من زملائه، بأنه لن يربح اللعبة؛ بل راهنه على حتمية خسارته، فقبل «داماسيو» الرهان، لكنه بالفعل لم يفلح فى تسديد الكرة وأخطأ الهدف، فانسحب وسدد لزميله الرهان المتفق عليه. انفجرت أسئلة زملائه عن سبب إخفاقه، رغم سهولة الهدف، أقر «داماسيو» أن فوزه كان سهلاً؛ لكنه برر خسارته بأنه قد استبطنته مقولة أمه عن المجهول القاهر، الذى سوف يدهم قريتهم، فاستقطبته إزعاجات تلك المقولة؛ إذ حصرت- لا شك- تفكيره إكراهًا فيما سيحدث لقريته، وشكلت استفرادًا قسريًا لحصر انتباهه فيما سيحدث، فتلبس الفتى عجز ذاتي، غيب إدراكه، ونفى عنه واقعه المعاش بمعطياته وتحدياته, عندئذ طفت كل مشاعر تلك الحالة الجوانية على ملامح وجهه وإشارات جسده، فتبدى «داماسيو» بمتغيراته مفارقًا لخصوصيته المعروفة؛ لذا فإن نبوءة زميله له بحتمية خسارته، لم تكن وليدة «وعى ثانوي» لحلم؛ بل كانت نتيجة «وعى أولي» مدرك، راقب ورصد وقارن وأمعن، واستنتج أن ثمة خللا، عندئذ أدرك خسارة «داماسيو». عاد الفائز بالرهان مزهوًا إلى منزله، حيث تقطن أمه وإحدى قريباته، فقص عليهن كيف أنه ربح من «داماسيو» الرهان، دون عناء يذكر بسبب بلاهته، إذ سدد الضربة الخطأ بفورية فالتة، نتيجة انجرافه فى الانشغال بما تكهنت به أمه عن مصيبة ستحل بالقرية. ولأن المرجعيات الجمعية للمجتمع بأفكارها وقيمها المتراكمة عبر التاريخ، والتى تشكل سلوك أفراده، لم تتحرر بعد من الأفكار المغلوطة، وفرض التصورات الشخصية على الناس بوصفها الصواب العام؛ لذا جاء تعليق الأم لابنها، بأن عليه ألا يستهزئ بتكهنات العجائز، فأحيانا ما تصدق تخميناتهن. بعد أن استمعت قريبته إلى ما دار بينه وبين أمه، اتجهت إلى الجزار، وطلبت إليه مضاعفة كمية اللحم التى اعتادت شراءها، متكئة على ما سمعته، ثم نقلته بدورها إلى الجزار، من أن ثمة شائعة يتداولونها عن حدث خطير سيحدث للقرية، ولابد من اقتناء ما يكفى من المؤن، وما إن تعاقبت راغبات شراء اللحم من ربات البيوت، حتى أصبح خطاب الجزار يكرر لهن حكاية الشائعة، ناصحًا بمضاعفة كمية شرائهن، والمسكوت عنه فى خطابه استصفاء أكبر عائد من الربح، وذلك بالفعل ما حققه، واستمر تناسل الشائعة. شلت حركة القرية، عندما احتشد سكانها ينتظرون حدوث شيء مريب، فراح كل فرد يتلمس بدء الحدث الخطير، فصاح أحدهم معلنًا أن ارتفاع درجة الحرارة أمر غير عادي، فإذ بخطاب من آخر يؤكد أن ارتفاع الحرارة من مسلمات طبيعة طقس القرية، بينما عاود ثالث يقرر أن القرية لم تشهد طقسًا حارًا مثل اليوم، فى حين أعلن رابع أنه بمضاهاة التوقيت، تبين توافقه مع ما تصل فيه الحرارة لذروتها عادة بالقرية، وفجأة حط طائر فى ساحة القرية، فأعلن أحدهم مروجًا هبوط الطائر، فتكاثف اهتمام الجميع لرؤيته، صاح أحدهم إنه ليس بغريب هبوط طائر، فعارضه آخر بأن توقيت هبوطه غير مناسب. أفاض أهل القرية فى توليد القرائن الوهمية، حتى تبدت لهم المعطيات العادية للحياة تحمل دلالات الحدث المنتظر، وعلى الحقيقة فإن ممارساتهم شكلت دلالة قاطعة على غرقهم فى تهويمات مزعومة، لهاجس تحول إلى شائعة خادعة مضللة، تزعزع علاقتهم بأرضهم، واستطاعت بتناسلها أن تفرض وجودها الوهمى عليهم، وبدلاً من أن يخضعوا الشائعة للفحص والمساءلة، فإذ بهم يستتبعونها دون فهم وتدبر، فأصبح استتباعهم لها هو نفسه نقيض وجودهم، بل التهديد الحقيقى الذى يواجههم، لأنه نفى انخراطهم فى الاشتغال على معطيات وجودهم الحقيقى الواقعي، تفكيرًا وتحليلاً وكشفًا وعملاً. لقد تجلت ذروة محنتهم فى فشل كل محاولاتهم هدرًا فى التعرف على قرائن ودلالات الحدث الموهوم، فأصابهم الإحباط، ولم يستطيعوا أن يخرجوا من عجزهم ويجددوا ذواتهم، بل استوطنهم التوتر فقوض لديهم مصادر المنعة والمراجعة، وغشاهم عماء اليأس فخامرتهم فكرة الرحيل، فصاح أحدهم معلنًا رحيله، فلم يستوقفه أحد؛ بل حتى لم تشغله علاقة عقله بواقعه بشأن صواب قراره؛ إذ على الفور حشر أبناءه ودوابه وأثاثه فى عربة وانطلق، ومن بعده تبعه الجميع فيما فعل، غير أن أحدهم أضرم النار فى منزله، فحذا الجميع حذوه، وأحرقوا منازلهم، فاشتعلت القرية كلها، والعجوز صاحبة الهاجس تردد، ألم أقل إن شيئًا خطيرًا سيحدث فى هذه القرية؟ أنهى الكاتب جابرييل جارسيا ماركيز 1927 2014 «قصته» شيء خطير سيحدث فى هذه القرية، بواقعة صارخة بدلالاتها؛ إذ ليس ثمة دين أو مذهب أو معتقد، يحض على ما فعله هؤلاء المواطنون بحرق وطنهم، خاصة أنهم بزيف وعيهم، وانغلاقه قد تحولوا إلى دمي، جميعهم نسخة واحدة فى سلوكهم، استسلموا لهاجس زائف، فكانت الكارثة. ترى هل كوارث الأوطان لا تولد؛ بل إنها تصنع صنعًا؟ ترى أى مأثم حقيقى أفظع من حرق الوطن؟ لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى