تظل تجارب الشعوب والأمم حاضرة ومحط انظار وعقول المنقبين عن وصفات النهوض والارتقاء، إذا حرصت على أن تتسم بمرونة تمكنها من التغيير والتطور السريع بين الحين والآخر ، فالجمود يفقدها الجاذبية والبريق، ويؤخرها كثيرا عن مسايرة قافلة التقدم ومنافساتها الصعبة، وألَّا تكتفى بما تحقق، وتستهلك وقتها فى التشبث برصيد وصيت ما تم انجازه فى الماضى فقط. الشاهد على ذلك النموذج اليابانى الذى تربع لمدة طويلة على عرش النماذج المبهرة والملهمة للساعين للخروج من غياهب التخلف الاقتصادى والعلمى والتكنولوجي، ويستحيل انكار دوره المشهود فى آسيا، حيث طبقته دول النمور الآسيوية، وبواسطته احتلت مراكز متقدمة على لائحة عمالقة الاقتصاد، لكنه وقع فى المحظور ولم يتمكن فى التوقيت المناسب من ادخال تغيرات تجدد خلاياه ودورته الدموية المتجمدة، للتغلب على الأزمات الاقتصادية والمالية التى تكبله وتعوق حركته، منذ عقدين من الزمان، ولم تفلح محاولات وخطط انقاذ الحكومات المتلاحقة على القفز فوق عقبة الركود، مما دفع رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى للدعوة الأسبوع الماضى لاجراء انتخابات مبكرة، بسبب فشله فى تحسين الأوضاع الاقتصادية. قارن هذا الوضع المحرج لليابان التى تراجع ترتيبها إلى ثالث أكبر اقتصاد فى العالم، بما هى عليه الحال فى جارتها القريبة كوريا الجنوبية - اقتصادها فى المرتبة ال 13 عالميا - لتلاحظ الفروق الجوهرية بين البلدين وقدرتهما على صنع سياسات عملية محكمة لعلاج المشكلات. ففى توقيت اعلان استمرار معاناة اليابان من الركود الاقتصادى اصدرت مؤسسة موديز للتصنيف الائتمانى تقريرا بمنحها درجة ايه ايه 3 بما يعكس ثقة عالية فى قوة الاقتصاد الكورى - اجمالى الناتج المحلى أكثر من تريليون دولار -، ومؤسساته المسئولة المالية، وتوقع ان يحقق معدل نمو 7،3 % خلال العام الحالي، وتلك النسبة أعلى من المنتظر أن تسجله اقتصاديات الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان، الفارق واضح ويرجح كفة النموذج الكورى بفضل محافظته على التجديد والحيوية. ما يهمنا فى هذه المقارنة هو قدر استعدادنا فى مصر للاستفادة من النموذج الكورى الذى نظنه الأقرب إلينا الآن من عدة اوجه، والاستفادة ليست مرادفة لتطبيقه بحذافره، فكل دولة لها خصوصياتها وما يصلح فى بلد لا يعنى بالضرورة صلاحيته لدولة أخري، وانما ان نحدد بشكل دقيق الجوانب الملائمة لنا اقتصاديا وماليا مع سعينا لإنعاش اقتصادنا الوطنى ، والعبور به من حفرة التعثر وسوء الادارة الملازمة له منذ عهود سابقة. ومن النواحى الواجب علينا الالتفات إليها ودراستها جيدا فى التجربة الكورية ما يتعلق بقيام الدولة برعاية وتنمية المشروعات المتوسطة وصغيرة الحجم التى كانت نقطة ارتكاز الطفرات الاقتصادية فى القارة الآسيوية بأسرها، ففى كوريا الجنوبية اتحاد يضم فى عضويته 5،2 مليون من أصحاب الصناعات الصغيرة ومتوسطة الحجم، فنحن نتحدث منذ سنوات عن وجوب أن تحظى هذه النوعية من المشروعات بالعناية دون أن نتخذ خطوات عملية تسهم فى توفير البيئة المساعدة لها على النمو، لا سيما أنها من القطاعات الممكن أن تسهم إلى حد بعيد فى التخفيف من حدة مشكلة البطالة بما تتيحه من فرص عمل برواتب معقولة. وأتساءل عما إذا كانت الحكومة قد فكرت فى التواصل مع هذا الاتحاد والتعرف على مواصفاته واشتراطاته المحددة للكيانات الصغيرة ومتوسطة الحجم، والتعاون لاقامة اتحاد مماثل فى مصر، خصوصا أننى لمست إبان زيارة كوريا الجنوبية أخيرا استعداد وتحمس الطرف الكورى للتعاون، وتقديم خبراته بهذا المجال، لكنه ينتظر خطوة من جهتنا؟ ويبدو أن البيروقراطية تمثل عائقا أمام قطع شوط فى هذا الاتجاه، نظرا لتعدد الجهات الحكومية المختصة بالمشروعات الصغيرة ومتوسطة الحجم مما يتطلب توحيدها فى وزارة بعينها، ليسهل الحصول على نتائج ايجابية مثمرة حقا. أيضا لدى الشطر الجنوبى من شبه الجزيرة الكورية تجربته الغنية المستحقة متابعتها عن كثب فى تحويل ذوى الاحتياجات الخاصة وهم قرابة 5،2 مليون شخص لقوى منتجة ومتفاعلة مع المجتمع بدلا من أن تكون عبئا ثقيلا يتهرب الجميع من الاقتراب منه، أو التعاطى معهم من باب الشفقة والاحسان ونيل الأجر والثواب، فهؤلاء طاقات معطلة تحتاج لمن يوجهها ويحسن استغلالها بما يعود بالفائدة عليهم وعلى الوطن، وما احوجنا لهم فى ظروفنا الراهنة. ولديه كذلك خطة ناجحة ينفذها من عدة أعوام مكنته من تعزيز مكانته كقوة ناعمة بتوظيفه انتشار منتجات شركاته الكبرى فى مختلف أرجاء كوكب الأرض، وما نالته من ثقة فى جودتها وكفاءتها، والشعبية الجارفة للمسلسلات الكورية على الصعيد الدولي، فمثلا فى فرنسا لوحظ فى الأشهر المنصرمة اقبال اعداد متزايدة من الفرنسيين على تعلم اللغة الكورية حتى أن مراكز وأقسام اللغة الكورية فى الجامعات لم تعد قادرة على استقبال طلبات أزيد من المتقدمين، وحينما استجلت السلطات الفرنسية الظاهرة اكتشفت أن العامل الاساسى خلفها الوقوع فى غرام المسلسلات الكورية وغيرها من أدوات ومظاهر الثقافة الكورية. إن المساحة لا تسمح بالتطرق لأمثلة عديدة من رحم التجربة الكورية، لكن ما نبغى ايصاله أن أمامنا فرصة مهيأة لفتح مصر الجديدة صفحة جديدة فى العلاقات مع كوريا الجنوبية، ولن نجد أحسن من مناسبة مرور 20 عاما على بدء العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وسول التى ستحل العام المقبل لكى نجهز على وجه الدقة ما نريده من كوريا الجنوبية، فقطار التقدم لا ينتظر احدا والحصيف من لحق به قبل فوت الاوان. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي