للمرة السابعة فشلت مفاوضات انهاء التمرد فى ولايتى النيل الأزرق وجنوب كردفان وتم تأجيلها الى أجل غير مسمى بسبب تمسك الحكومة والحركة الشعبية/ قطاع الشمال بموقفيهما وضعف قدرات وضحالة أفكار الوساطة الافريقية،وكأنهما لم يستوعبا حجم مأساة نحو مليون مشرد ومئات القتلى وآلاف الجرحي. فرغم الانفراجة التى شهدتها مباحثات الأسبوع الماضى باستبعاد قضية دارفور ووصف الطرفين اللقاء بأنه ايجابى الا أن الوساطة الافريقية بقيادة ثابو مبيكى أعلنت تأجيلها لاعطاء الوفدين فرصة للتشاور حول مقترحات قدمتها إليهما قائلة إنهما مازالا متمسكين بموقفيهما دون إبداء مرونة تذكر. ويبدو أن المأساة ستستمر لغياب الرغبة الجادة فى إيجاد حل، فالمفروض بعد ست جولات فاشلة أن يكون كل منهما قد وضع بدائل للتفاوض تحافظ له على الحد الأدنى من مطالبه وتحرز تقدما وتختصر الوقت لمنع معاناة سكان المنطقتين أكثر، وكان يتعين على الوساطة أن تعرض عليهما مقترحات جديدة لدراستها قبل استئناف التفاوض وعدم مغادرة مقر المباحثات قبل الاتفاق على ماهو مقبول منها وعدم العودة إليه إلا فى إطار اتفاق شامل، كما حدث فى مفاوضات نيفاشا التى انتهت باتفاق سلام جنوب السودان عام 2005 بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات. للأسف مازالت المباحثات تدور حول المطالب نفسها منذ أول جولة ولم يتفق الطرفان حتى على هدنة مؤقتة إلى أن يتم ابرام اتفاق سلام شامل.ولم يتفقا حتى على طريقة لإيصال المساعدات للمحاصرين الذين يموتون جوعا ومرضا فى الجبال واتهم كل منهما الآخر بعدم الجدية فى التفاوض وبحشد القوات لتصعيد الحرب. فالحكومة تصر على أن تمر القوافل عبر المناطق التى تسيطر عليها للتأكد من عدم تهريب أسلحة للمتمردين بينما تصر الحركة الشعبية على أن تتوجه مباشرة من الخارج إلى الولايتين حتى لا يتأخر وصولها أو تتعرض للنهب فى الطريق. الحكومة تطالب بوقف شامل للقتال وترتيبات أمنية وفتح ممرات للإغاثةتبينما الحركة طالبت بهدنة انسانية فقط وأكدت أنها لن توقف الحرب فى النيل الأزرق وجنوب كردفان دون دارفور واشترطت التوصل لاتفاق سياسى شامل وترتيبات أمنية قبل وقف شامل لإطلاق النار.وزادت على ذلك بالمطالبة بحكم ذاتى للمنطقتين فى إطار السودان الموحد بحجة أنهما تضمان معظم مسيحيى السودان ولهما خصوصية ثقافية، وحذر أمينها العام ياسر عرمان من تكرار سيناريو جنوب السودان الذى انتهى بالانفصال إذا رفضت الحكومة هذا المطلب. ولحلحلة المشكلة والخروج من تلك المواقف التعجيزية للطرفين يمكن مثلا أن تتخلى الحركة عن مطلبها ربط قضية دارفور بقضية جنوب كردفان والنيل الأزرق لأن هناك مفاوضات خاصة بالإقليم بدأت قبل مفاوضات المنطقتين فى أكثر من مكان.كما يمكن للحكومة أن تستجيب لمطلب الحركة الخاص بالاحتفاظ بقواتها خلال الفترة الانتقالية التى سينفذ فيها الاتفاق المنتظر بينهما مثلما حدث مع الحركة الشعبية فى الجنوب بمقتضى اتفاق نيفاشا. أما المساعدات الإنسانية فيمكن إسناد مهمة توصيلها للمتضررين إلى طرف ثالث محايد يتفقان عليه لمنع تهريب أسلحة داخلها كما تخشى الحكومة أو تأخيرها ونهبها كما تخشى الحركة،مع الإسراع بوقف مؤقت للقتال كبادرة حسن نية من الطرفين لتسهيل وصول المساعدات وعدم إزهاق المزيد من الأرواح ولتهيئة الأجواء للتفاوض للتوصل الى اتفاق نهائى ينهى المأساة. فالهدنة المؤقتة لا تحتاج الى تشكيل ثلاث لجان سياسية وأمنية وإنسانية كما أعلنت الوساطة لأن هذا يأخذ وقتا طويلا، فالذى يحتاج الى ذلك هو الاتفاق النهائى الدائم فى اطار اتفاقية سلام شاملة. مشكلة جنوب كردفان والنيل الأزرق ليست أعقد من مشكلة جنوب السودان الذى عانى حربا أهلية استمرت نحو 40 عاما على فترتين وعندما توافرت الارادة من حكومة الخرطوم والحركة الشعبية المتمردة آنذاك تم التوصل إلى اتفاق سلام بمساعدة وسطاء وأطراف دولية واقليمية أسهمت بأفكارها وضغوطها وتهديداتها واغراءاتها فى تذليل ما اعترض المفاوضات من عقبات كادت تصيبها بالفشل النهائى فى كل مرة توقفت فيها.فمتمردو المنطقتين وكذلك دارفور لم يطالبوا بحق تقرير المصير الذى أصر عليه الجنوبيون ومكنهم من الانفصال فيما بعد رغم أن مبررات التمرد هى نفسها تقريبا (انعدام التنمية والتهميش سياسيا واقتصاديا وعدم مراعاة الخصوصية الثقافية للعرقيات من ذوى الأقلية) وإنما اقتصرت أقصى مطالبهم حتى الآن على حكم ذاتى فى اطار السودان الموحد يحقق لهم إدارة شئونهم الداخلية بأنفسهم والمحافظة على خصوصياتهم الثقافية عبر المشورة الشعبية التى نصت عليها اتفاقية نيفاشا فى جنوب السودان بحكم ارتباط سكان النيل الأزرق وجنوب كردفان عرقيا وثقافيا بأهالى الجنوب أكثر من الشمال.فغير المسلمين يشكلون غالبية سكان المنطقتين ويخشون من فرض أحكام الشريعة عليهم خاصة بعدما نسب للرئيس البشير فى عام 2011 من تهديد بالجلد والصلب وقطع الأيدى والأرجل من خلاف لمن يخرج عن القانون والقول إنه بعدت انفصال الجنوب لم يعد هناك مجال للحديث عن التنوع العرقى والثقافي.لذلك عاد المتمردون الذين قاتلوا مع الجنوبيين من أبناء المنطقتين لحمل السلاح تحت راية الحركة الشعبية/ قطاع الشمال زاعمين أن الحكومة لا تصغى إلا لصوته. لمزيد من مقالات عطيه عيسوى