"نريدهم أحياء" .. تلك كانت صرخات أهالى المكسيك فى المظاهرات العنيفة التى شهدتها البلاد بعد الإعلان عن مقتل 43 طالبا كانوا مفقودين منذ أواخر سبتمبر الماضي. لم يكتف المحتجون بالتنديد والوعيد، بل هاجموا القصر الرئاسى بقضبان معدنية، وأضرموا فيه النيران، واقتحموا مبنى الكونجرس "البرلمان" فى مدينة "تشلبانسينجو", كما أحرقوا العديد من المبانى الحكومية والمنشآت التابعة للشرطة. واندلعت تلك المظاهرات عقب إعلان خيسوس موريو وزير العدل المكسيكى فى مؤتمر صحفى السيناريو المروع الذى قتل به هؤلاء الطلاب الذين تراوحت أعمارهم ما بين 15 و25 سنة, حيث قال الوزير إن التحقيقات أثبتت أن رجال الشرطة تواطأوا مع مجرمين محترفين لقتل الطلاب ودفنهم فى مقابر جماعية. وبدأت خيوط الجريمة - التى تعد الأسوأ فى تاريخ المكسيك – فى 26 سبتمبر الماضي، عندما توجه العشرات من الطلاب إلى مدينة "إجوالا" للمشاركة فى مظاهرة احتجاجية ضد التمييز فى العمل، الذى يعانيها المعلمون المنحدرون من المناطق الريفية، وكان أغلب هؤلاء الطلاب من مدرسة "أيوتزينابا" المتخصصة فى تخريج المعلمين، وتقع بالقرب من مدينة تشلبانسينجو، وهى معروفة بأنها بؤرة للاحتجاجات المتواصلة. لكن الأمور سرعان ما خرجت عن نطاق السيطرة، إذ تحول الاحتجاج إلى أعمال عنف بين الطلاب ورجال الشرطة الذين فشلوا فى تفريقهم. وذكرت الصحف المحلية فى تغطيتها للحادث فى ذلك الوقت أن رجال الشرطة الغاضبين استعانوا بعصابة إجرامية محلية معروفة باسم "جيريروس يونيدوس" للانتقام, وخلال عودة الطلاب إلى مدينتهم أطلقت الشرطة بالتعاون مع أفراد العصابات الرصاص الحى على الأتوبيسات التى كانت تقلهم، مما أسفر عن سقوط ثلاثة قتلي، ثم أجبرت الأتوبيسات على التوقف، وتم إنزال الطلاب عنوة، ومن ثم اقتيادهم إلى سيارات الشرطة، وكانت تلك آخر مرة يشاهد فيها سكان المنطقة هؤلاء الطلاب. وبعد اختفاء الطلاب لعدة أيام، ومطالبة الأهالى المستمرة بالكشف عن مصيرهم، أطلق الجيش المكسيكى عملية واسعة للبحث عنهم، لكن نتائج البحث لم تؤد إلى أى نتيجة مرضية، فقد ظل مصيرهم مجهولا لعدة أسابيع، مما دفع السكان للاحتجاج والتظاهر, كما وجهوا الاتهام للحكومة المحلية بأنها وراء اختفاء أبنائهم، مما أثار موجة استنكار فى العديد من المدن المكسيكية. وفى النهاية، توصلت السلطات المكسيكية المشرفة على التحقيقات إلى معلومات تفيد بوجود مقابر جماعية فى إحدى المناطق النائية المجاورة لبلدة "إجوالا" الواقعة على بعد حوالى 150 كيلومترا جنوب العاصمة مكسيكو سيتي، فانتقلت القوات إلى هناك، وكانت المفاجأة العثور على جثث الطلاب متفحمة. وكانت تلك الأحداث أكبر دليل على فشل الرئيس المكسيكى إنريكى بينا نيتو فى الحد من نشاط عصابات المخدرات، فبلاده تعيش على وقع جرائم مروعة يوميا، حيث تعتمد الحكومة المكسيكية على الجيش للحفظ على الأمن، وذلك بسبب تورط بعض رجال الشرطة مع عصابات الجريمة المنظمة، التى حولت حياة ملايين المكسيكيين إلى جحيم، فمنذ عام 2007، شهدت المكسيك أكثر من 90 ألف جريمة قتل مروعة, وتصل بشاعة الجرائم فى بعض الأحيان إلى قطع الرؤوس وحرق الضحايا أحياء. ولم يكن هذا هو الحادث الأول من نوعه فى المكسيك، بل سبقته حوادث أخرى مشابهة فى سنوات مضت، غير أن هذا الحادث يعد الأخطر من نوعه، كما أن له مدلولات خطيرة. وترجع الخلفية التاريخية لوجود عصابات المخدرات والجريمة المنظمة فى المكسيك إلى الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد فى الفترة ما بين عامى 1839 و1842 خلال الفترة التى عرفت ب"حرب الأفيون", حيث اختارت الإدارة الأمريكية وقتها ولاية "سينالوا" وولايتين مجاورتين لها هما "شيواوا" و"دورانجوا" لتشكيل مثلث ذهبى لإنتاج الأفيون فى المكسيك، بهدف نقل الأفيون إلى الولاياتالمتحدة لإنتاج المورفين منه لكى تغطى النقص الذى حدث فى ذلك الوقت بسبب الحرب. وبعد ذلك بعقود طويلة، وبعد أن تفاقمت مشكلة انتشار الجريمة والعصابات، وانعكست على المجتمع الأمريكي، حاولت الولاياتالمتحدة التكفير عن ذنبها، ولكن طبعا دون الاعتراف بما فعلته, وكانت آخر تلك المحاولات عندما وقع الرئيس الأمريكى السابق جورج دبليو بوش اتفاقية "ميريدا" فى 2007 لدعم المكسيك بحوالى 3 مليارات من الدولارات لتمويل ما يسمى ب"الحرب على المخدرات"، على غرار "الحرب على الإرهاب"، والتى تتعاون فيها المخابرات الأمريكية مع نظيرتها المكسيكية للحد من الجريمة ونشاط عصابات المخدرات المكسيكية, والتى تنعكس سلبا بشكل ملحوظ على المجتمع الأمريكي. ولكن الوقائع تشير إلى أن جميع تلك المحاولات والمبادرات باءت بالفشل، مما أدى إلى تزايد المشكلة على الجانب المكسيكى بالصورة التى أوصلتنا إلى مذبحة الطلاب المفقودين.وكل هذا يعنى أن الولاياتالمتحدة تتحمل ولو بشكل غير مباشر مسئولية ما جرى قبل أيام فى المكسيك، لأن أمريكا هى التى صنعت تلك البؤر الإجرامية، تماما مثلما فعلت مع تنظيمات إرهابية فى مناطق أخرى من العالم، وبالتالي، فهى أيضا الوحيدة القادرة على التخلص منها إذا أرادت.